كشفت جلسة مجلس الأمة، التي عقدت يوم الخميس الماضي لمناقشة صرف مكافأة نقدية استثنائية للمتقاعدين بقيمة 3000 دينار مع تعديلات تتعلق بتعديل قانون التأمينات الاجتماعية، عن فوضى تكتنف جناحي الإدارة العامة في البلاد بشقيها التنفيذي والتشريعي، إلى درجة استخدم فيها الطرفان عنصر المباغتة لما هو بالأصل يستحق الدراسة والتأني بلغة الأرقام والتكاليف والحسابات الاكتوارية بعيدة المدى.فبينما ربطت الحكومة موافقتها على صرف المكافأة النقدية للمتقاعدين الى جانب رفع صرف علاوات على المعاش التقاعدي وحده الأدنى برفع سن التقاعد ثلاث سنوات إضافية، فاجأها 10 نواب بطلب تعديل قانون التأمينات الاجتماعية بتحويل المكافأة النقدية الاستثنائية إلى منحة سنوية بنفس القيمة، مما أفضى إلى إحراج العديد من النواب المؤيدين للحكومة، وبالتالي رفع الجلسة دون بلوغ أي نتيجة.
استخفاف بالتشريع
وبغض النظر عن «المزاد المالي»، وأيضاً المزايدات السياسية الذي شهدتها الجلسة، فإن فكرة تمرير تعديل على أي قانون مهم بوزن قانون التأمينات عن طريق استخدام عنصر المباغتة أو سياسة «العصا والجزرة» سواء كان الأمر يتعلق بسنوية المكافأة النقدية أو رفع السن التقاعدية، يشير إلى درجة واضحة من «الاستخفاف بالتشريع»، وهو استخفاف لا يليق بسلطتين تحكمان البلد وتتوليان مختلف أدواته التشريعية والتنفيذية، فالأصل أن تطرح أي تعديلات خصوصاً المتعلقة بأنظمة العمل والتقاعد والإنفاق المالي للنقاش المجتمعي للوصول إلى صيغة مقبولة تكون الأرقام والبيانات المالية فيها أساس النقاش أو حتى التفاوض لحماية أنظمة التأمينات الاجتماعية واستدامتها.نقاش مهني موسع
فلا شك أن قانوناً يناقش تعديلات على مستوى وأهمية التأمينات الاجتماعية يُفترَض أن يستوعب نقاشاً عاماً وأوسع مهنياً يضم كل الأطراف من حكومة ونواب ونقابات واتحادات ومتقاعدين ومشتركين ومختصين، وأن يكون متضمناً الأرقام والجداول والحسابات المتوقعة وشاملاً الأبعاد المالية والقانونية وليس تصويتاً سريعاً كما كان يُخطط له في جلسة الخميس الماضي، بل من خلال مداولتين؛ الأولى مبدئية، والأخرى تأخذ في الاعتبار الملاحظات التي طرحتها كل الأطراف ذات الصلة.خلاف عالمي
وربما من المفيد لمتخذي القرار معرفة أنه حتى في الدول الأوروبية التي لا تعاني من جرعة شعبوية عالية في قراراتها الاقتصادية تكون مسألة تمديد سنوات التقاعد مثار خلاف بين القوى العمالية والحكومات، ففرنسا مثلاً شهدت عام 2019 مواجهة على مدى أسابيع حراكاً نقابياً وإضرابات عمالية بل أيضاً أعمال عنف بشأن تمديد سنوات العمل ضمن ما عرف بـ «نظام التقاعد الشامل»، كذلك اعترضت قوى النقابات السويسرية في نفس العام على زيادة رفع سن تقاعد المرأة عاماً إضافياً، كما شهدت بريطانيا مطلع العشرية الفائتة إضرابات لموظفي القطاع العام بسبب زيادة سنوات العمل ورفع نسب الاستقطاع للصناديق التقاعدية، وبالتالي فإن اعتراض النقابات المهنية أو الاتحادات العمالية أو حتى نواب مجلس الأمة على زيادة مدة سنوات العمل قبل التقاعد ليس سلوكاً شعبوياً محضاً، إنما ردة فعل متوقعة من الحصافة التعامل معها كواقع والتفاوض معها بدلاً من العمل على استخدام المناورة والمباغتة اللذين لم يحققا الهدف الحكومي من القانون.المؤسف فيما حدث يوم الخميس الماضي أن فكرة تستحق نقاشاً تفصيلياً معمقاً على مستوى فكرة «إطلاق نظام جديد للادخار والاستثمار الاختياري»، لمن يريد رفع معاشه التقاعدي من خلال استقطاع إضافي»، وهذه فكرة قد تكون مناسبة جداً كقناة ادخار للأسرة الكويتية من المؤسف إهدارها من خلال النقاش السياسي لقانون التأمينات.شفافية «التأمينات»
بكل الأحوال، فإن المواجهة الحكومية البرلمانية بشأن قانون التأمينات بكل سلبياتها ومزايداتها وما يرافقها من صورة قاتمة عن فوضى الإدارة العامة في البلاد يجب ألا ينعكسا سلباً على شفافية مؤسسة التأمينات الاجتماعية التي أعلنت عن الأداء الاستثماري لمحافظها، إذ توقفت المؤسسة عن الإفصاح عن أي بيان مالي بعد بيانها لأداء الفترة المنتهية في 31 مارس 2021، وهو تراجع غير محمود لشفافية كان من المفترض تعميمها على مختلف الجهات المالية والاستثمارية في البلاد، لاسيما الهيئة العامة للاستثمار المدير لصندوق احتياطي الأجيال القادمة، كما أن «التأمينات» أفصحت أيضاً عن مكونات المحفظة الاستثمارية، خصوصاً من ناحية التوزيع القطاعي ما بين أسهم وسندات ومشاريع بنية تحتية واستثمارات وعقارات متنوعة، ناهيك عن الإفصاح عن السعي إلى خفض نسبة السيولة النقدية بالمحفظة من 41 في المئة عام 2016 إلى 4 في المئة في مارس الجاري.وربما كان المأخذ الوحيد على إدارة التأمينات هو إفصاحها عما يعرف بأرباح صافية في وصف أداء صناديقها الاستثمارية، مما وضع المؤسسة في مواجهة قوى شعبوية افترضت أرقاماً غير واقعية للمكافأة المنتظرة وحتى مع تعديل المؤسسة لوصف الأداء بـ»أرباح استثمارية»، لم تتوقف المطالب بالمكافأة أو حتى تكرارها سنوياً.معالجة عامة
ربما يكون من المفيد معالجة أوضاع التأمينات الاجتماعية ضمن مشروع إصلاح اقتصادي يعالج أصل الخلل لا أعراضه، فما فائدة رفع سن التقاعد لحساب التأمينات الاجتماعية اكتوارياً إذا كان 80 في المئة من العمالة الوطنية موظفين في القطاع العام، مما يعني زيادة في مصروفات رواتب الميزانية العامة، وفي الحالتين، فإن المال العام هو الذي سيتحمل العجز على عكس حالة إصلاح سوق العمل بما يزيد استقطاب القطاع الخاص للعمالة الوطنية، فيكون رفع سنوات الخدمة أكثر جدوى مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة معرفة أثر دخول نحو 400 ألف مشترك جديد على نظام التأمينات الاجتماعية خلال 10 سنوات قادمة في دعم الحساب الاكتواري وتخفيف عجوزاته أم لا، وألا تكون سياسات كبح التضخم - للمتقاعدين أو غيرهم - ضمن إطار المعالجة المالية فقط دون استخدام السياسات الاقتصادية الأخرى الخاصة بتوطين الصناعات ومكافحة الاحتكار وتشجيع المنافسة. مواجهة المقترحات الشعبوية أمر في غاية الصعوبة في ظل إخفاق حكومي واضح في تقديم الخدمات الأساسية، لكننا في السنوات الأخيرة بتنا نشهد استخداماً حكومياً أوسع للشعبوية في سبيل تجاوز المطبات السياسية الخاصة بالعلاقة مع مجلس الأمة الذي يتحفز معظم نوابه لطرح أي مشروع شعبوي بلا تقييم للآثار المالية والاقتصادية، مما يجعلنا أمام مزايدة سياسية تتضمن مزاداً مالياً مرهقاً لأصول الدولة واحتياطياتها.