بعد مرور اكثر من ثلاثة أسابيع على بدء الحرب الروسية الوحشية في أوكرانيا، من الواضح أن الظروف القائمة لا تشبه ما خطّط له الكرملين، فباستثناء مدينتَي "خيرسون" و"مليتوبول"، لم يسيطر الجيش الروسي على أي مدن أوكرانية كبرى، وتباطأ التقدم الروسي نحو كييف نتيجة الإخفاقات اللوجستية وصعوبة إعادة التزود بالإمدادات، ويبدو أن ارتفاع عدد الضحايا بدأ يؤثر على معنويات الجيش الروسي، فقد فشلت القوات الجوية الروسية من جهتها في التفوق جواً فوق أوكرانيا، وهو إخفاق صادم يجعل القوات الروسية الميدانية معرّضة للهجمات الجوية ويُضعِف قدرة روسيا على تنفيذ عمليات استطلاع جوي وقصف القوات الأوكرانية، ومن الواضح أيضاً أن موسكو بدأت تخسر حرب المعلومات العالمية، إذ تتلاحق صور المقاتلين الأبطال في المقاومة الأوكرانية واللاجئين الأوكرانيين اليائسين، مما يثير تعاطف الرأي العام العالمي مع أوكرانيا.

تتعدد العوامل التي تفسّر إخفاقات موسكو، فقد بالغ القادة الروس في تقدير قدرات الجيش الروسي، وافترضوا على الأرجح أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي سيجد صعوبة في حشد الدعم لبلده في زمن الحرب، وظنوا أن جزءاً كبيراً من الأوكرانيين سيرحّب بالقوات الروسية باعتبارها الجهة التي ستحرر البلد، وسرعان ما تبيّن أن هذه الفرضيات كلها مغلوطة، فزادت حدّة الأخطاء التكتيكية من جانب الجيش الروسي وتوسّعت قوة المقاومة الأوكرانية.

Ad

لكن وفق مصادر مقرّبة من وزارة الدفاع الروسية، يتعلق السبب الأساسي وراء تعثر الحرب الروسية في أوكرانيا بإقدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على إخفاء خططه العسكرية عن أقرب مستشاريه حتى اللحظة الأخيرة، فبوتين زعيم مرتاب أصلاً، وقد فضّل إبقاء نواياه سرّية لدرجة أن يخفي توقيت الغزو ونطاقه عن معظم المسؤولين العسكريين وأعضاء مجلس الأمن القومي، ويصعب التخطيط للحملات العسكرية المبهمة، وتحاول أوساط الأمن القومي في روسيا اليوم مواكبة التطورات المتلاحقة بكل بساطة.

للأسف، يبدو أن الصفات التي دفعت بوتين إلى إخفاء خططه القتالية عن كبار القادة في حكومته هي التي تجعله أقرب إلى تصعيد الصراع الذي لا يسير بالشكل الذي يريده، حيث يواجه الأميركيون وحلفاؤهم وضعاً غير مألوف وينشغلون بمحاولة إجبار بوتين على التراجع، وقد تبرز الحاجة إلى فرض عقوبات اقتصادية أو حتى إطلاق هجمات سيبرانية انتقامية إذا أطلقت روسيا اعتداءات إلكترونية ضد البنية التحتية الأميركية الأساسية، لكن يجب ألا تنسى واشنطن أن رجلاً مرتاباً ومعزولاً يحكم روسيا، وهو مسؤول سبق أن اتكل على سلسلة من التقديرات المغلوطة والمكلفة.

خلال الأسابيع التي سبقت الغزو، سخرت وسائل الإعلام الغربية من الصور التي ظهر فيها بوتين وهو يجلس بعيداً عن القادة والدبلوماسيين الغربيين وعدد من كبار المسؤولين الروس خلال اجتماعه معهم، فكان الرئيس الروسي يجلس وحيداً على طرف طاولة طويلة جداً لحماية نفسه من فيروس كورونا، لكن كانت تلك الصور، رغم طابعها المضحك، تجسيداً بصرياً لمكانة بوتين السياسية داخل الكرملين، فهو يخشى التعرّض للخيانة ويشكك بمحاوريه ويعزل نفسه عن أقرب حلفائه ومستشاريه.

لطالما كان بوتين شخصاً حذراً يصعب أن يثق بالآخرين، لكنّ محاولات واشنطن منع بوتين من غزو أوكرانيا في شهرَي يناير وفبراير أجّجت على الأرجح جنون الارتياب الفطري لديه، وتزامناً مع حشد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية، نفّذت وكالات الاستخبارات الأميركية حملة ناجحة جداً حين سرّبت تفاصيل الخطط العسكرية الروسية وفضحت حملات التضليل التي يخطط الكرملين لاستعمالها لتبرير الغزو، وهذا الوضع زاد شكوك بوتين بمساعي جزءٍ من المقربين منه لإضعافه، وانعكس على قراره بإخفاء المعلومات المرتبطة بخططه في أوكرانيا عن الجيش الروسي وخبراء الأمن القومي.

قد يفسّر تكتّم بوتين الشديد جزءاً من جوانب الحرب الأكثر غموضاً، فهو يوضح في المقام الأول السبب الذي جعل السلطات الروسية غير مستعدة لموجة العقوبات الاقتصادية الجارفة التي تَلَت عملية الغزو، ففي اليوم الذي عبرت فيه القوات الروسية الأولى الحدود نحو أوكرانيا، كان أكثر من نصف الأصول التي يملكها البنك المركزي الروسي لا يزال في الخارج حيث يسهل تجميدها، وهذا الإخفاق الاستراتيجي الكبير حيّر المراقبين الخارجيين وجعل الاقتصاد الروسي أكثر عرضة للعقوبات الغربية، ولو علمت السلطات الاقتصادية في روسيا أن الكرملين يوشك على إطلاق غزو شامل، لكانت ستتخذ خطوات أخرى طبعاً لحماية الأصول الروسية من العقوبات الاقتصادية.

على صعيد آخر، توضح مقاربة بوتين السرية في مجال التخطيط الحربي السبب الذي جعل العمليات السيبرانية الروسية محدودة وأقل تطوراً مما توقّع عدد كبير من الخبراء، وباستثناء الاعتداء الذي عطّل الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية في أوكرانيا خلال اليوم الأول من الحرب، لم تحصل أي هجمات سيبرانية واسعة: لم تستهدف أي اعتداءات مدمّرة شبكة الكهرباء أو البنية التحتية العسكرية في أوكرانيا ولم تقع أي هجمات كبرى بالبرمجيات الخبيثة.

تثبت هذه الوقائع مُجتمعةً أن معظم الأوساط السيبرانية المتطورة والمموّلة في روسيا لم تكن مطّلعة على تفاصيل الغزو، أو ربما كان بوتين واثقاً من تفوّقه سريعاً عبر الوسائل العسكرية التقليدية لدرجة ألا يضيف العمليات السيبرانية الموسّعة إلى حملته، أو ربما سعى الكرملين إلى الحفاظ على معظم البنية التحتية السيبرانية في أوكرانيا بانتظار السيطرة على البلد، أو كان يتوقع أن يُحقق أهدافه بالوسائل العسكرية التقليدية تزامناً مع تقدّم الغزو، وفي النهاية، يبقى تعطيل شبكة الحواسيب عبر تفجير المبنى الذي يشمل الخوادم أسهل من إطلاق هجوم سيبراني معقد.

لكنّ عزلة بوتين وارتيابه لا يفسّران ضعف أداء روسيا في ساحة المعركة فحسب، بل إنهما يثبتان أيضاً أن الرئيس الروسي قد يقرر تصعيد الصراع بدل إنهائه عبر تسوية يتم التفاوض عليها، واعتبر بوتين الحرب فرصة لإعادة ترسيخ الهيمنة الروسية على الساحة العالمية، لكن بعد تحقيق نتائج معاكسة، لا مفر من أن يتوق بوتين اليوم لتحقيق انتصار حاسم، وفي حين يحاول الأميركيون وحلفاؤهم معاقبة روسيا وردعها، يجب أن يتجنبوا في الوقت نفسه أي شكل من التصعيد المتبادل لأنه قد يؤدي في أسوأ الأحوال إلى اندلاع حرب محتدمة بين أكبر القوى النووية في العالم.

رداً على العدوان الروسي، فرض الأميركيون وحلفاؤهم مجموعة من أقسى العقوبات على الإطلاق ضد أي بلد أوروبي، وقد تكون هذه العقوبات مبررة نظراً إلى طبيعة التحركات الروسية المشينة، لكنها لا تخلو من المخاطر، ويتعلق مصدر خطر أساسي باحتمال أن تردّ روسيا على الغرب عبر فرض عقوبات اقتصادية خاصة بها إذا واجهت مأزقاً عسكرياً حقيقياً، وقد تقرر روسيا مثلاً تقييد الصادرات الأساسية إلى الدول الغربية، بما في ذلك الحبوب، والتيتانيوم، والبلاديوم، والألمنيوم، والنيكل، والخشب، والنفط والغاز.

وإذا شعرت روسيا بأنها أصبحت محاصرة بالكامل، فقد تطلق هجمات سيبرانية ضد أهداف في الولايات المتحدة وأوروبا، إذ لم تستعمل موسكو قدراتها السيبرانية على نطاق واسع حتى الآن، لكن لا يعني ذلك أنها ستتمسك بهذا النهج، كما تواجه روسيا عزلة دبلوماسية شبه كاملة وقد ينهار اقتصادها، لذا قد تحاول استعمال ترسانتها السيبرانية لإجبار الدول الغربية على تخفيف العقوبات، وقد تتخذ هذه الهجمات السيبرانية أشكالاً متعددة، فتطلق موسكو مثلاً اعتداءات تخريبية ضد البنوك والمؤسسات المالية الأميركية وتعطّل الصفقات المالية وتنشر الشكوك وسط المستثمرين الأميركيين، أو يمكنها أن تهاجم المزودين الأوروبيين للبنية التحتية الأساسية لمحاولة تقسيم حلفاء الناتو، فتستهدف شركات المعدات الكهربائية مثلاً وتعطّل بذلك شبكات الطاقة أو الكهرباء.

إذا وصل الصراع إلى هذه المرحلة، فستواجه الدول الغربية ظروفاً غير مألوفة، وقد أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أن إدارته لن تطلق أي عمليات سيبرانية ضد روسيا إلا إذا استهدفت موسكو الشركات الأميركية أو البنية التحتية الأساسية، لكن في أواخر شهر فبراير الماضي، ذكر أمين عام حلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، أن أي هجوم سيبراني كبير ضد إحدى دول الناتو قد يفعّل المادة الخامسة من المعاهدة التأسيسية للحلف، وهي تجبر جميع الأعضاء على اعتبار أي هجوم ضد عضو واحد اعتداءً عليها كلها.

وحتى لو لم يلجأ الأميركيون وحلفاؤهم إلى المادة الخامسة من معاهدة حلف الناتو رسمياً، فقد يضطرون في مطلق الأحوال للرد على الهجمات الروسية باعتداءات مماثلة، لا سيما بعد استنزاف جميع أشكال العقوبات الاقتصادية القابلة للتنفيذ، فلا أحد يستطيع توقّع تداعيات هذا النمط من الضربات السيبرانية مسبقاً نظراً إلى طبيعة هذا التصعيد غير المسبوق، لكن قد تنشأ ساحة عسكرية تقليدية فيزيد احتمال خوض صراع مسلّح واسع النطاق.

تُشدد هذه المخاطر على أهمية توخي الحذر عند اختيار طريقة الرد على الهجمات السيبرانية الروسية، فقبل التورط في دوامة خطيرة من التصعيد السيبراني، يجب أن يستعمل الأميركيون وحلفاؤهم في المرحلة الأولى الأدوات الاقتصادية المتاحة أمامهم. تستطيع الولايات المتحدة مثلاً أن تفرض عقوبات إضافية على أعضاء فرديين من الجيش والمؤسسة الأمنية في روسيا، مما يعني احتمال توسيع الانقسامات داخل النظام الروسي وإضعاف سطوة بوتين على السلطة.

يحق للأميركيين وحلفائهم أن يفرضوا تكاليف باهظة على موسكو بعد غزوها غير المبرر لأوكرانيا، لكن يُفترض أن يتوقعوا أيضاً طبيعة الردود المرتقبة من الجانب الروسي، ففي نهاية المطاف، يجب أن تدرك الحكومات أن التهديدات السيبرانية هي امتداد للتحديات الجيوسياسية الكبرى، مما يعني أنها تتطلب حلولاً دبلوماسية، لكن سيكون إدراك هذا الواقع تزامناً مع اشتداد مخاطر الحرب بين القوى النووية العظمى وضعاً مؤسفاً وبالغ الخطورة. لتجنب هذه النتيجة الخطيرة، يجب أن يبذل الأميركيون وحلفاؤهم قصارى جهدهم لمنع إطلاق دوامة متواصلة من التصعيد السيبراني الذي يجازف بتجاوز حدود العالم الإلكتروني.

* ديمتري ألبيروفيتش

فورين أفيرز