بعد مرور ثمانية أشهر على الانقلاب العسكري الذي شهدته ميانمار في السنة الماضية، وجّه توم أندروز، مقرر الأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان هناك، تحذيراً إلى الجمعية العامة مفاده أن عشرات آلاف الجنود بدؤوا يحتشدون في شمال البلد وشماله الغربي. يقول أندروز إن التكتيكات المعتمدة هناك تشبه تلك التي استعملها جيش ميانمار المعروف باسم "تاتماداو" خلال الأشهر التي سبقت إبادة جماعة الروهينغا في ولاية "راخين" في العامين 2016 و2017.

يستهدف أحدث حشد عسكري ولاية "تشين" التي تمتلئ بتلال متعرجة وتشمل 500 ألف نسمة، إذ ينتمي معظم السكان إلى جماعة "تشين" العرقية التي تتألف في معظمها من مسيحيين، ولطالما واجهت الاضطهاد من جانب الحكومة المركزية، كما تفتقر هذه الولاية إلى الموارد الطبيعية المربحة، مثل النفط وخشب الساج والذهب والحجارة الثمينة، وهي واحدة من أفقر مناطق ميانمار، وفي الأشهر الأخيرة هرب أكثر من 10 آلاف شخص من بلدة "ثانتلانغ" التي تُعتبر من أكبر بلدات الولاية، تزامناً مع قصف الجيش شبه المتواصل الذي حوّل مئات المنازل والمباني في البلدة إلى كتلة من الرماد، وأدت أعمال عنف مشابهة إلى نزوح نحو 50 ألف شخص في أنحاء الولاية.

Ad

تسعى الجماعات الناشطة في ولاية "تشين، إلى جانب تنظيمات مسلحة أخرى في أنحاء البلد، إلى إسقاط الدكتاتورية العسكرية واستبدالها بديموقراطية فدرالية، فبعدما أقدم الجيش في السنة الماضية على قمع التظاهرات السلمية والمعارِضة للانقلاب، أدرك قادة الاحتجاجات في ولاية "تشين" أنهم يحتاجون إلى استراتيجية جديدة لمجابهة خصمهم العنيف، وبدأت فصائل من الجنود تتشكل في أنحاء الولاية وتحاول حماية بلداتها، فتَوّحد البعض تحت مظلة "قوة دفاع تشينلاند" أو "قوة الدفاع الوطني في ولاية تشين"، واختار آخرون الانضمام إلى "جيش تشين الوطني" الذي يتكل على دعم المتبرعين من الشتات.

لم تتضح بعد مدى قدرة هذه الجماعات على صدّ جيش التاتماداو، إذ يتفوق عليها الطرف الآخر من حيث الأسلحة والتمويل، لكن قوة عناصر قوات "تشين" تكمن في تماشي أهدافها مع جماعات أخرى في أنحاء البلد وارتباطها بالأرض ورفضها التنازل لأي سبب.

يقع مقر "قوة الدفاع الوطني في ولاية تشين" في وادٍ صغير وراء قرية تغطيها الشمس، فعلى مر اليوم، تصدح أصوات الجنود وهم ينشدون أغاني شعبية تقليدية أو ألحانا محلية معاصرة وسط هواء الجبل الجاف، وبحلول الفجر، توقظ صافرة قوية المقاتلين الذين يتدربون على القتال ويتبادلون النظريات العسكرية في المرحلة اللاحقة، وبعد إنشاد نشيد ولاية "تشين"، يتلقى العناصر مجموعة من الأوامر.

كان ليان نو مسؤولاً عن إصدار تلك الأوامر، وهو رجل عمره 31 سنة وأصله من ولاية "تشين"، لكنه انشق عن جيش التاتماداو في أكتوبر الماضي وبات يشرف اليوم على التدريبات العسكرية في "قوة الدفاع الوطني في ولاية تشين".

للانتساب إلى جيش ميانمار، يجب أن يكون الجندي قد أدى الخدمة العسكرية لعشر سنوات على الأقل، لكن حين بدأ ليان نو يواجه معاملة غير إنسانية، أدرك سريعاً أنه أخطأ في حساباته، فإذا حاول الهرب، كان الجيش سيصدر مذكرة توقيف بحقه، لكن خلال الأسابيع التي تلت الانقلاب في السنة الماضية، لاحظ ليان نو أن الاحتجاجات لن تتلاشى وأن القتال اندلع أيضاً بين الجماعات المسلحة وجيش التاتماداو في أنحاء البلد، ثم سمع أن القوات المسلحة الشعبية بدأت تتشكل في ولاية "تشين" واستنتج أنه يعجز عن البقاء في صفوف التاتماداو، ثم قرر الانضمام إلى المقاومة، وبحلول تلك الفترة، كان ليان نو يملك الحق في إخطار الجيش، لكن تجاهل المسؤولون طلبه، ثم هرب مع صديق له أراد بدوره الانشقاق عن الجيش.

توجّه الرجلان إلى مقر "جيش تشين الوطني" حيث أثبتا صدق نواياهما عبر تقاسم المعلومات التي يعرفانها حول العمليات العسكرية التي يخطط لها التاتماداو في ولاية "تشين"، وبعد فترة قصيرة، جنّدت "قوة الدفاع الوطني" الرجلَين لتدريب الجنود فيها.

أصبحت القصص المشابهة لتجربة ليان نو أكثر شيوعاً اليوم، فقبل الانقلاب، كان جيش التاتماداو يحظى بدعم جامد من الأغلبية العرقية البوذية "بامار"، علماً أن عدداً كبيراً منهم لم يحبذ العنف العسكري ضد جماعات عرقية أخرى، لكن بدأ هذا الوضع يتغير حين أقدم المجلس العسكري على قمع الاحتجاجات المعارِضة للانقلاب بقوة مفرطة، وحين انقلب البلد كله ضد التاتماداو، بدأ عدد كبير في صفوفه يعيد تقييم موقفه.

استفادت التنظيمات العرقية المسلّحة في ولاية "تشين" من هذه الأزمة الأخلاقية، وتواصلت الجماعات الثلاث الأساسية مع جنود من التاتماداو سراً، فقدمت مكافآت نقدية كبرى وممرات آمنة إلى خارج البلد لعدد من المنشقين المحتملين مقابل بنادق آلية لصالح جنودها غير المجهزين بالمعدات، وصرّح مسؤولون من "قوة الدفاع الوطني في ولاية تشين" لصحيفة "فورين بوليسي" بأن 120 جندياً من التاتماداو انشقوا بهذه الطريقة.

لكن لا يمكن الاستخفاف بهذا النوع من القرارات، فتعرّضت والدة ليان نو وشقيقتاه ونسيبتاه للاعتقال بعد اختفائه، لقد أدرك أن أفراد عائلته قد يواجهون السجن أو الموت إذا لم يسلّم نفسه، ويقول ليان نو: "تواصلتُ مع ثلاثة جنود كنتُ أعرف أنهم متورطون في اعتقال عائلتي، اتصلتُ بهم وذكّرتهم بأنني أعرف مكان أفراد عائلاتهم وأنني لا أضمن استمرار حياتهم في هذه الظروف"، أُطلِق سراح أفراد عائلته في اليوم التالي ثم هربوا جميعاً إلى الهند.

تبذل التنظيمات المسلحة في ولاية "تشين" قصارى جهدها لطرد عناصر التاتماداو، لكن لا تزال معظم البلدات الكبرى تحت سيطرة الجيش، يواجه السكان اعتقالات تعسفية وعمليات خطف ومضايقات مفرطة. كان كونغ كونغ (31 عاماً) مصوّر فيديوهات يعيش في منطقة "هاكا" حتى أكتوبر الماضي (تغيّر اسمه في هذه المقالة لحماية هويته)، واعتقله مسؤولون عسكريون في شهر مارس بعد مرور احتجاج شعبي بمطعم كان يصور فيه حفل تخرّج، وصعد هذا الرجل في شاحنة وسيق إلى قاعدة محلية، يقول كونغ كونغ: "حين وصلنا إلى القاعدة، أصروا على عدم إخباري بسبب اعتقالي".

ثم أجبره الجنود، هو وسبعة عناصر آخرون، على الركوع أرضاً والسير في أنحاء القاعدة طوال ساعة ونصف، في إشارة مزيفة إلى دعمهم للجنرال مين أونغ هلاينغ، زعيم حكومة المجلس العسكري، وقد أمضى كونغ كونغ الليالي الثلاث اللاحقة في زنزانة شديدة البرودة: "خلال النهار، لم يكن الجنود يزعجوننا كثيراً، لكن بدءاً من الساعة الثامنة مساءً، كانوا يأخذوننا إلى غرفة منفصلة حيث نتعرض للاستجواب حتى الساعة الثانية فجراً، وحين كنت أعطيهم جواباً لا يعجبهم، كانوا يشدّون أذنيّ ويضربونني على رأسي من الخلف".

حاول الجنود إجبار كونغ كونغ على الاعتراف بأنه صحافي، مع أنه ليس كذلك، ثم سلّموه إلى الشرطة التي احتجزته طوال ثلاثة أشهر، لقد تلقى تهديدات شبه يومية بالقتل أثناء احتجازه هناك من جنودٍ كانوا يزورونه بانتظام، وحاول كونغ كونغ بعد إطلاق سراحه متابعة حياته العادية مع زوجته في "هاكا"، لكن حين لاحظ أن أصدقاءه يواجهون الاعتقالات التعسفية مجدداً، قرر الزوجان الهرب إلى قرية "هريانغ خان" الصغيرة التي تسيطر عليها "قوة دفاع تشينلاند"، وأصبح كونغ وزوجته اليوم من النازحين داخل ميانمار منذ الانقلاب (يصل عددهم إلى 406 آلاف شخص تقريباً).

يضيف كونغ كونغ: "لا يمكنني أن أجد أي عمل في هذا المكان، أنا أتكل على التبرعات من "قوة دفاع تشينلاند" ومن أقاربي، لقد مرضتُ بعد الفترة التي أمضيتُها في السجن، وأجهضت زوجتي طفلها أيضاً منذ مجيئنا إلى هنا ثم واجهت مضاعفات صحية أخرى".

اليوم أكثر من أي وقت مضى، أصبح المجتمع الطاغي في ميانمار هدفاً لأعمال العنف التي واجهتها الجماعات العرقية المحلية المهمّشة طوال عقود، وقد مهّد هذا الوضع لنشوء شكلٍ غير مسبوق من التضامن بين المعارضة المؤلفة في معظمها من جماعة "بامار" وبعض الجماعات المسلحة العرقية الأخرى، وفي غضون ذلك، تترافق مظاهر سوء المعاملة التي تهدف إلى ترسيخ سيطرة التاتماداو مع نتائج عكسية واضحة، لكن لم تتضح بعد مدى قدرة الجماعات المسلحة العرقية في ميانمار على إطلاق جهود موحّدة ضد النظام، أو نزعة التاتماداو إلى استغلال الانقسامات القديمة لتفكيك أي انتفاضة محتملة.

ينسب ليان نو جزءاً من وحشية التاتماداو ضد المواطنين في ميانمار إلى المعاملة غير الإنسانية في صفوف الجيش، فيقول: "إنه جزء من الثقافة السائدة، ومن المألوف أن يضرب الضابط رقيباً، ثم يضرب الرقيب جندياً، ثم لا يجد الجندي إلا الشعب لضربه".

لا يزال مستقبل ليان نو وعائلته غامضاً، لكنه لا يندم على انشقاقه عن التاتماداو: "بعد الانضمام إلى قوة الدفاع الوطني في ولاية تشين مباشرةً، استعدتُ الحياة التي أريدها، أنا لم أخطط يوماً لمحاربة التاتماداو، بل كنت أرغب في أخذ استراحة طويلة، لكن تغيّر الوضع منذ ذلك الحين، وإذا لم أقاتل هذا الجيش فلن ننعم، أنا وعائلي، بحياة حرّة أبداً".

● أليكس ماكبرايد

فورين بوليسي