سيدات الحب وحاملات الوجع
لا يمكن إلا أن تقف احتراماً لهن، هن أولئك البشر الجالسون في قلب كل العواصف الطبيعية منها والبشرية، والذين كلما أرهقتهم الحياة وكسرتهم الظروف قاموا يلملمون ما انكسر وتبعثر ويسيرون من جديد، هن أو هم يرسلون التنهيدة وراء التنهيدة خوفا من أن يختزن الحزن بداخلهن فيخرج في شكل صرخة، هن من سقطت أحلامهن واحدا خلف الآخر، فكلما بدا أنهن أقرب إلى حلمهن الصغير والمتواضع جداً، شُيدت جسور لتبعدهن عن ذاك الحلم، وتحولت أيامهن إلى كومة من الألم الباقي في بطن القلب لا ينزاح منه رغم أنهن يضحكن أحيانا كملجأ للاستمرار والبقاء والقبضة على الأمل! قالت لي: «هذا الصباح تعبت عيني من كثرة الدمع، هرولت نحوهم أبحث عنهم في هذه الزاوية أو تلك أو ربما في ذاك الجزء من الذاكرة ربما في محاولة للتزود ببعض الحلم والصبر، هنّ فتحية وفاطمة وصبرية وكوليت وجورجيت وسبيكة و... و... وكثيرات، هن يختلفن كثيراً عن بعضهن، ويتوحدن في فن الصبر والنهوض بعد كل كبوة أو سقطة، هن من قست عليهن الحياة والقوانين والأعراف وحتى الأهل والقبيلة وأقرب المقربين، ورغم ذلك لم تستطع قسوة الحياة أن تسرق كمّ الحب في داخلهن والأمل الذي تشع به أعينهن، وكثيرا من الفرح الذي لم يكن أو هو مجرد حلم ليلة قمرية، ومع ذاك بقين رافعات الرؤوس ماضيات في واجباتهن ومهماتهن الحياتية الصغيرة منها والكبيرة، ويبقى أكثر ما يميزهن هو تلك القدرة على رسم ابتسامة ليست صفراء أبدا، والقلب يخزن الحزن حتى امتلأ به. تقول هي: «قتلتنا الحياة ولكنها لم تدفنا تحت التراب»، ويرددن هن ولكن تاريخنا كله وأد للبنات حتى صدقنا أنه مادة في التاريخ تدرس ثم تُنسى، أليس هو ماض بعيد؟ بقين فوق التراب «يعافرن» الصباحات والليالي الصعبة، فكل واحدة تجري خلف رزق لها ولكثيرين آخرين غيرها، في حين هم يبحثون عن تكديس المال والملذات وحتى الفرح!!! حتى صدقت هي أو هنّ أنهن عنوان للـ»نكد» زوجات وأخوات وصديقات وحتى بعض الأمهات أحيانا رغم أن مجتمعاتنا تدّعي أو تتشدق بتقديس الأم، أليست الأم أنثى وامرأة أيضا كما هي الزوجة والأخت؟ أم أن النساء أصناف ودرجات؟
هي حاملة التعب والخزن المعتق في أجساد كل أفراد أسرتها، وهي أيضا من تمسح بقلبها دموعهم، وتنثر الفرح عندما تستطيع، وكثيراً من الياسمين في أيام من حولها حتى وهي منكسرة ومنهزمة، هي المطلوب منها أن تبقى صامدة، فتبقى الأسرة ويبقى المجتمع ماضيا في طريقه، هي التي لم يسمح لها أن تخط الحرف حتى لا تكتب رسائل الغرام، كما قالوا، وعندما ضاقت السبل بالعائلة طلبوا منها أن تخرج لفضاء كان بعيداً عنها وحكراً عليهم، وأن تصارع النهارات الطويلة، وتتعلم مهنة لتضع وجبة غداء على مائدة عائلتها الصغيرة والكبيرة، هي التي عندما قرر الرجال أن يحملوا السلاح هنا أو هناك– وهم في ذلك كثيرون في منطقتنا– بقيت تطرز الأمل في بحار من الحزن والدم، وتردد لأطفالها وجيرانها بأن الشمس ستشرق يوماً دون أن يصاحبها الخوف من الموت أو الدمار، وأن ذاك المنزل بدفء جدرانه سيعود ليأويهم ويحميهم من برد وعراء وجوع، وتعود الياسمينة لتسكن حوش المنزل الصغير، هن نساء هذه الأوطان المتعبة المحتلة منها والتي تنهشها النزاعات والحروب، وأخريات في مدن لم تعرف القذيفة، ولكنها عرفت كيف أن النساء في أوطاننا كلهن محض تفاصيل لهم، وهن كل العيش والحب، بل هن ومنهن يبدأ وينتهي الوطن... اسمعوا تنهداتهن ولا تظنوا أنها تنهدات الحب العفيف، بل ربما هي صرخة مكتومة في الصدور، ربما هن، كما قيل منذ زمن، صديقات السهر، سيدات الحب، حاملات الوجع وتاج الصبر. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.