جرائم الحرب في مهب الريح
من الأمور المستغربة في خضم الحرب الأوكرانية اتهام أميركا لروسيا بارتكابها جرائم حرب، ولا يعود ذلك الاستغراب إلى أن روسيا لا ترتكبها، ولكن لأنها صفة قد تنطبق على الدولتين. الإشكالية الأخرى هي أن الدول الكبرى وبالذات الولايات المتحدة، بذلت كل ما بوسعها لمنع قيام المحكمة الجنائية الدولية، ومازالت تفعل ذلك، ومعها روسيا والدول العربية وإسرائيل، ومع ذلك فقد أعلن المدعي الجنائي الدولي كريم خان فتحه تحقيقاً في الانتهاكات، قبل الاتهامات التي أطلقها الرئيس الأميركي، وهو طريق طويل وشائك.حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يكن مصطلح جرائم الحرب حاضراً بقوة على الساحة الدولية، ولذلك حاول المنتصرون أن يظهروا أنهم خاضوا حرباً عادلة، فأسسوا محاكم نورمبرغ وطوكيو لمحاكمة "مجرمي الحرب"، المهزومين، فسُمِّيت "عدالة المنتصر"، تصغيراً لها؛ فما إن انتهت تلك المحاكم من مهمتها الدعائية حتى تكررت جرائم الحرب، بصمت ودعم من القطبين الدوليين، ونتجت عنها حروب شعواء في أوروبا، وغيرها، بعد انتهاء الحرب الباردة أواخر الثمانينيات.على أثر ذلك، نشطت منظمات دولية غير حكومية، وفاعلون دوليون، ومراكز أبحاث، ودول أوروبية لمحاسبة مجرمي الحرب؛ فظهرت فكرة إيجاد محاكم دولية متخصصة، بدءاً بمجازر ضد مسلمي البوسنة، وبالذات سيربينيتشا، وحسب محمد شريف بسيوني، أحد الفاعلين الأساسيين، الذي حدثني عن حجم الاستخفاف الذي واجهه استناداً إلى أن تلك المحاكمات لن تؤدي إلى نتائج... بينما حقيقة الأمر أن تلك المحكمة انتهت بسجن جميع الأسماء الواردة في صحيفة الاتهام. وفي ذات السياق تم إنشاء محكمتَي رواندا وسيراليون، لتحققا أهدافهما، حتى صار الطريق سالكاً لإنشاء محكمة جنائية دولية، التي تأسست فعلاً في 2002 . بالطبع مازالت المحكمة، مع أنها تعاني نقصاً في الموارد والصلاحيات، موجودة، وتؤيدها أغلب الدول، مع أن دولاً كبرى مازالت تناصبها العداء، ومنها أميركا، وروسيا (انسحبت منها عام 2016 )، وأغلب الدول العربية، وإسرائيل.
مازال الإفلات من العقاب لزعامات الدول الكبرى يمثل القاعدة لا الاستثناء، وبالتالي تصبح محاسبة مجرمي الحرب مسألة تحتاج إلى الكثير من العمل الدؤوب، وعدم الركون إلى الاستخدام السياسي من الدول الكبرى، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع... وللحديث بقية.