يعاني الكثير من المجتمعات مرضاً عضالاً يصيبها في مقتل، وهو إفلات مجرميها من العقاب، وبالذات عندما يكونون من المتنفذين، وأصحاب القوة. ولا تستقر المجتمعات إلا بالعدالة، لا بالسطوة والقوة والقمع، أو عقاب البريء ادعاءً بأن في ذلك حفاظاً على تماسك المجتمع ونسيجه المفترض.

وكلما اقتربت المجتمعات من تحقيق العدالة، اقتربت أكثر من الاستقرار والديمومة والازدهار، وعند إفلات مجرم متنفذ من العقاب، فإن ذلك يزيد من حالة الإحباط والقلق والتوتر، وقد يؤدي إلى التمرد والعصيان والثورة، فإنزال العقاب بالمجرم لا يعني أبداً معاقبة البريء بأي حجّة كانت.

Ad

فإنْ كان ذلك يصح في كل الحالات، فإنه يصبح ضرورة قصوى عندما يتم التغاضي عن الجرائم الأكثر فداحةً، كالجرائم الإنسانية، وجرائم الحرب، والإبادة الجماعية، وجرائم التمييز العنصري، لأنها جرائم لا تسقط بالتقادم أبداً.

ورغم أن هذا النوع من الجرائم مذكور في الكثير من محطات القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، فإن الأدوات مازالت أضعف من أن تحقق النتائج المطلوبة على أرض الواقع، مما أدى إلى إفلات زعماء دول، وقيادات سياسية من العقاب، رغم تكرار الكلام الإنشائي، والبلاغيات، التي لا تحقق انتصاراً لمظلوم ولا عقوبة لظالم.

والمؤسف أن ذلك الوضع المهزوز يتمتع بحماية دول كبرى، تخشى ضمن ما تخشاه أن تتم محاسبتها، وإدانتها في حال إقرار نظام جنائي دولي مختص بمحاكمة المجرمين وملاحقتهم ومتابعتهم.

ومع أن الوعي العام في السياق الدولي، والفضاء الإنساني والفاعلين العموميين، قد وضعوا بصماتهم في هذا السبيل، وتطوّر الأمر إلى أن دولاً بعينها صارت تفتح اختصاص قضائها المحلي للنظر في أي جريمة إنسانية حدثت خارج حدودها، فإن التأثير مازال محدوداً.

ورغم أن نتائج الحراك الدولي قد أنجبت بكرها المؤسسي، المحكمة الجنائية الدولية، فإن أغلب مجرمي الحرب مازالوا طلقاء، بل يتمتعون بحماية ورعاية من دول كبرى تصرّ على الاستمرار في الوضع القائم، الذي يحمي مجرمي الحرب.

ومع أن الجهود المبذولة حققت الكثير في مضمار العدالة، فإنها مازالت بحاجة إلى الكثير من الجهود، ليتحقق الأمن والسلم الدوليان المبنيان على مقاييس العدالة، فالجدار العازل للحقيقة والعدالة مازال على حاله، وربما في تزايد.

أ. د. غانم النجار