في غمرة ما يتخبط بمجتمعاتنا من استحقاقات سياسية ودستورية بنكهة شعبية ونزعة شخصية، من البدهي أن يتساءل المرء عن إمكانية الفصل بين جوهر الديموقراطية وآلياتها؟ وهل أن إعادة النظر في آليات وتطبيقات الديموقراطية ستؤدي الى التراجع عنها أو الى المساس بجوهرها؟ الإجابة عن هذين الاستفهامين ومحاولة تبديد الهواجس المحقة المرتبطة بهما لا تأتي إلا من خلال الإحاطة، ولو المقتضبة، ببعض المفاهيم السياسية والقانونية التي تحرك منظومة الحكم في الدول الديموقراطية. صحيح أن الغوص في التفرقة بين الديموقراطية وآلياتها يتطلب بحثاً يضيق له المجال، إلا أنه قد يكون مفيداً أن نستذكر معاً قول العلامة الفرنسي جورج جورفيتش بأن «الديموقراطية لا تعني حكم العدد، بل حكم القانون»، فلا يجوز أن تتحكم الأهواء السياسية والمصالح الشخصية، وإن نسبت إلى أغلبية منتخبة أو تيارات منظمة، بمصير الوطن والمواطنين على غير هدى القانون نصاً وروحاً، كما لا يجوز لها- وإن امتلكت القدرة القانونية أو تغطّت بعباءة الشعبوية- أن تتصرف بما يناقض المصلحة العامة.
الديموقراطية الحقيقية تقتضي أن تنصاع الأقلية لإرادة القانون لا لاندفاعة الأكثرية، وإلا أصبحنا أمام معادلة تضرب جوهرها وتحيد بآلياتها عن الطريق القويم والهدف السليم، ويصبح الصواب– المجرد أو القانوني- مكتوباً بريشة الأقوى حجماً بالسياسة والأعلى صوتاً بالخطابة.إن المغالاة في التطبيقات الديموقراطية والبرلمانية تعيد إلى الأذهان الشعار الملتصق بالنظام الدستوري والسياسي البريطاني بأن «البرلمان يستطيع أن يفعل كل شيء إلا أن يحوّل الرجل إلى امرأة»، فهذه المقولة، وعلى الرغم من صوابيتها النظرية، لا يمكن التسليم بإطلاقها حتى في البلاد الأكثر ديموقراطية، فالوكالة البرلمانية ليست مطلقة، ولا ينبغي لها أن تتحرر من كل ضابط.لن نغالي بالقول إن كثيراً من الديموقراطية قد يقتلها، بل نتمسك بالحقيقة الساطعة بأنه ما من ديموقراطية نشأت فاستمرت إلا على هدى من القانون وبتشبث بالقيم وتمسك بالمنطق واحترام حقيقي لإرادة الناس، وبشكل موازٍ وواضح بالامتثال لحكم القضاء العادل والنزيه.في معرض تصدي المحكمة الدستورية لطلب التفسير رقم (8) لسنة 2004 المقدم من مجلس الوزراء بشأن المادتين (100) و(101) من الدستور الكويتي، أكد القضاء الدستوري أن «الدستور رسم لكل سلطة من سلطات الدولة الثلاث... المجال الذي تعمل فيه، محدداً اختصاصها واستقلال كل سلطة بذاتها بما يحقق المساواة والتوازن بينها توازناً لا يجعل لإحداها مكنة استيعاب الآخرين، وأقام الدستور توزيع هذه الاختصاصات على أساس مبدأ فصل السلطات، دون أن يجعل ذلك فصلاً تاماً، بل فصلاً مصحوباً بالتعاون والتآزر فيما بينها، وبما يسمح بتعدد الأفرع لنشاطها، وبوجود قدر من التداخل، وموازنتها ببعض، مع تبادل الإشراف والرقابة فيما بينها، وجعل الدستور استعمال السلطات لوظائفها ينتظمه دائماً التعاون المتبادل بينها على أساس احترام كل منها لأحكام الدستور، والنزول على أوامره ونواهيه».يمضي مبدأ «فصل السلطات» إذاً في مسار محدد المعالم؛ تقف على أحد طرفيه فضيلة التعاون، في حين يتربع على الطرف الثاني مبدأ عدم تغوّل سلطة على أخرى، فالتعاون بين السلطات تقابله رقابات متبادلة ومتنوعة تسمو فوقها جميعها رقابة الرأي العام المفترض في الدول الديموقراطية أن يحسن مكافأة الصالح وأن يتقن محاسبة الطالح.المطلوب، منا جميعاً، وقفة جادة يعاد من خلالها النظر بسوء الفهم وسوء التطبيق للنصوص الدستورية والقانونية المرتبطة جوهرياً بالديموقراطية، فكما أن كل أنواع الفساد والتقصير واستغلال النفوذ محرمة على أي فرد أو سلطة، فإن التسلح بالحصانات الشعبية والمكنات القانونية، لا يمكن أن يلاقي وقعه الديموقراطي طالما خرج عن جادة المنطق وعن حدود النص الدستوري أو الحكم القضائي.الفرق واضح بين أن تسمح لنا الديموقراطية بأن نقول وأن نفعل ما نشاء تحت سقف القانون وضمن دائرة المنطق والأخلاق وبين أن نستغل هذه المنحة لنبتز ونتكسّب ونعبث بالقيم والتقاليد، فمحاربة كل أشكال الفساد والإضاءة على أي تجاوز، ومحاسبة كل العابثين بالمال العام، لا يكون بفساد قيمي أسوأ منه، ولا بهرطقة دستورية أفظع مما يتصوره عقل، ولا بإضرار بالمصلحة العامة تحت شعارات ملتبسة أو مختلقة.إن نعمة الديموقراطية لا يجوز أن تتحول إلى نقمة في سوء استخدام آلياتها، إذ ليس لدى مجتمعاتنا فرص كثيرة لتضييعها، وليس للرأي العام رفاهية الوقت لجدل نظري حول صواب هذا النهج من خطأ ذاك. أجيالنا ليست بخير، اقتصاداتنا ليست على أحسن ما يرام، التعليم لا ترجى قيامته عمّا قريب، قيمنا الدينية وتقاليدنا الاجتماعية تتبدد يوماً بعد يوم، في حين العالم من حولنا يبحث عن ملاذات جديدة للبشر فوق سطح القمر! * كاتب ومستشار قانوني.
مقالات
نعمة الديموقراطية ونقمة آلياتها
31-03-2022