مع تقدّم الغزو الذي يقوده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا، من الواضح أن شيئاً لا يسير بالشكل الذي خططت له روسيا، فبدل معاملة القوات الروسية كمُحرّرة للبلد، باتت تُعتبر اليوم عدوّة مكروهة، وبدل الاستسلام سريعاً، أثبت الأوكرانيون إصرارهم على منع التقدم الروسي ومتابعة القتال بأي ثمن، ورغم مرور شهر على بدء هذا الصراع الذي ينذر بالتحوّل إلى التزام طويل الأمد يفوق ما توقّعه بوتين، تكثر التقارير التي تستنتج أن الحملة الروسية تأثرت سلباً بمشاكل الإمدادات وتراجع معنويات الجيش، وتنذر الحرب منذ الآن بالوصول إلى "طريق مسدود" وفق تحليلات "معهد دراسات الحرب"، فأكثر ما يثير الصدمة على الأرجح هو سقوط ما يفوق السبعة آلاف جندي من الجيش الروسي في أول عشرين يوماً من الحرب، فضلاً عن خمسة جنرالات روس في الشهر الماضي، وتشير جميع التقديرات أيضاً إلى غياب أي طريق واضح لتحقيق انتصار روسي حاسم إذا لم يتفاقم الوضع بدرجة هائلة، وفي غضون ذلك، سبق أن فرضت الحرب كلفة باهظة على الكرملين وبوتين شخصياً.

يمكن مقارنة هذه الأحداث بتجربة مألوفة في نهاية التاريخ السوفياتي: الغزو السوفياتي لأفغانستان في عام 1979، كما حصل مع الحرب في أوكرانيا حديثاً، كان غزو أفغانستان حينها ينجم عن خوف موسكو من خسارة جزء أساسي من نطاق نفوذها، فكانت القيادة السوفياتية مقتنعة بأن الحرب في أفغانستان ستكون سهلة وسريعة، وأن القوات السوفياتية لن تجد صعوبة في التعامل مع أي شكل من المقاومة في وجهها، وأن الأميركيين وحلفاءهم لن يطلقوا رداً فاعلاً لأنهم منشغلون بأحداث أخرى، وعلى غرار بوتين، افترض السوفيات في تلك الفترة أنهم يستطيعون إنشاء حكومة تابعة لهم بسهولة في الأراضي التي يستولون عليها.

Ad

لكن لم يتحقق أيٌّ من هذه الأهداف، بل تحوّلت أفغانستان سريعاً إلى واحدة من أسوأ التحركات العسكرية الخارجية في سجل روسيا في حقبة ما بعد الحرب، وسارع المتمردون الأفغان إلى تنظيم صفوفهم على شكل عصابات فاعلة وأنشأوا ملاذات آمنة في باكستان، حيث استفادوا من الأسلحة والتدريبات على يد ضباط الاستخبارات الباكستانية، وبعد أسابيع على بدء الغزو السوفياتي، شكّل الرئيس الأميركي جيمي كارتر تحالفاً مع باكستان (انضمّت إليه الصين، ومصر، وبريطانيا، والمملكة العربية السعودية بعد فترة قصيرة) لدعم المقاومة الأفغانية، ولم تكن القوات السوفياتية مستعدة لمجابهة هذه القوى كلها، ثم تورطت في صراع تحوّل سريعاً إلى حرب طاحنة امتدت على عقد كامل، وأضعفت المعنويات محلياً، واستنزفت الأموال السوفياتية، ثم سرّعت انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية المطاف.

لا تشبه روسيا في عام 2022 الاتحاد السوفياتي في عام 1979، لكن نظراً إلى نقاط التشابه الصادمة التي أصبحت واضحة منذ الآن بين مغامرة بوتين في أوكرانيا والحرب السوفياتية في أفغانستان، من الضروري أن يراجع الخبراء خصائص الصراع الأول وعواقبه الواسعة، وإذا تابع غزو أوكرانيا تطوره بالشكل الذي يحصل حتى الآن وتحوّل إلى جرح نازف في تاريخ روسيا خلال القرن الحادي والعشرين، فقد يصبح بوتين ونظامه مُهددَين، مثلما هددت حرب أفغانستان صمود السوفيات في الماضي.

قد يكون غزو بوتين لأوكرانيا اليوم أكثر هشاشة من الغزو السوفياتي لأفغانستان على مستويات عدة، حيث تثبت الاجتماعات المتلفزة التي يعقدها مجلس الأمن الروسي أن أقرب مستشاري بوتين ما كانوا مطّلعين بالكامل على خطط الغزو، وهم يحملون على الأرجح شكوكهم الخاصة بهذه الخطوة، وعلى عكس النجاح الأولي الذي حققه السوفيات، بدت طريقة تنفيذ غزو بوتين سيئة جداً منذ البداية، فقد فشل الجيش في السيطرة على المدن الكبرى، وسقط ضحايا روس خلال الأسابيع القليلة الأولى أكثر مما كان سيتكبده السوفيات في أفغانستان طوال سنوات.

كذلك، واجه بوتين في أوكرانيا مقاومة أقوى بكثير من تلك التي واجهتها القوات السوفياتية في أفغانستان في المرحلة الأولى، وهذا ما دفعه على الأرجح إلى استعمال تكتيكات أكثر عنفاً. سبق أن اعتبر الرئيس الأميركي، جو بايدن، بوتين "مجرم حرب" بعد الاعتداءات الروسية على المستشفيات والمباني السكنية ومسرح مزدحم، فلوّح الرئيس الروسي حينها باحتمال أن يقطع جميع علاقاته الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، فإذا طبّق بوتين النمط الذي استعمله في حروبه السابقة في غروزني وسورية، فقد يستعمل على الأرجح التكتيكات التي لجأ إليها السوفيات في حملتهم الأفغانية الفاشلة وأسفرت عن مقتل نحو ثلث الشعب الأفغاني أو إصابته، أو نزوحه داخلياً، أو تهجيره إلى إيران وباكستان.

في هذه المرحلة، يتجه بوتين على ما يبدو إلى الاستيلاء على كييف واحتلالها بعد معركة مريرة وعنيفة مع الشعب المدني المدجج بالسلاح إذا لم يتم التوصل إلى تسوية يتم التفاوض عليها، لكن قد تكون هذه المهمة بالغة الصعوبة وتترافق مع قتال مكلف يمتد على أسابيع أو حتى أشهر عدة، ومن المستبعد أن يستولي بوتين على كييف عبر اللجوء إلى التكتيكات التقليدية، لكن حتى لو نجح في السيطرة على كييف وأسقط حكومة زيلينسكي واستبدلها بعملاء موالين لروسيا، فقد تبدأ مشاكل موسكو الحقيقية في تلك المرحلة، وكما حصل في أفغانستان منذ أربعين سنة، قد يواجه بوتين على الأرجح حركة تمرد قوية ومسلّحة ومدعومة سراً من تحالف غربي يشبه الحلف الذي أخرج السوفيات من أفغانستان.

قد يطرح حجم أوكرانيا وحده مشاكل هائلة على أي شكل من الاحتلال الروسي، فأوكرانيا كبيرة بقدر ولاية "تكساس" وتشمل أكثر من 40 مليون نسمة (أكثر من أفغانستان في عام 1979 بمرتَين)، وهي ليست معزولة أو محاطة بالأرض أو جبلية أو وعرة مثل أفغانستان، حيث كانت البِغال والمركبات الصالحة لجميع الطرقات تُستعمل لتسليم الأسلحة إلى المقاومة الأفغانية، كذلك، تُعتبر أوكرانيا دولة معاصرة نسبياً وفيها طرقات وشبكات نقل جيدة، حتى أنها تشمل حدوداً برية وبحرية تمتد على 850 ميلاً مع بولندا والمجر وسلوفاكيا ورومانيا، وهي دول منتسبة إلى حلف الناتو. قد تفتقر أوكرانيا إلى التضاريس الجبلية والوعرة التي ساعدت المتمردين الأفغان على مجابهة الجيش السوفياتي المدجّج بالأسلحة، لكنّ مساحتها الجغرافية الشاسعة وشبكات اتصالاتها القوية وقربها من القوى الغربية تمنح المتمردين فيها تفوقاً كبيراً.

وكما حصل مع المقاومة الأفغانية وملاذاتها الآمنة في باكستان خلال الثمانينيات، قد تستفيد حركة التمرد الأوكرانية اليوم من إنشاء مناطق خاصة بها في الدول المجاورة أيضاً، فقد سبق أن عَبَر ملايين اللاجئين الأوكرانيين نحو هذه الدول المتاخمة والمنتسبة إلى الناتو حيث يقابلهم الناس بأعلى درجات التعاطف والدعم، وخلال الأيام والأسابيع المقبلة، وفي حين تتجه الحرب إلى إغراق البلد كله، فمن المتوقع أن تنضم أعداد متزايدة من الأوكرانيين في عمر القتال إلى هؤلاء اللاجئين، ولن يبحث المقاتلون عن ملجأ لهم، بل ملاذ آمن حيث يبدؤون بتنظيم صفوفهم وتدريب العناصر وتسليحهم كجزءٍ من مقاومة متماسكة ضد الاحتلال الروسي لبلدهم، وقد سبق أن بدأ الأميركيون وحلفاؤهم في الناتو بتمويل وتسليح حركة التمرد الناشئة ضد روسيا، لذا قد يجد بوتين نفسه قريباً في وجه مقاومة مسلّحة قد تزيد تكاليف الاحتلال سياسياً واجتماعياً واقتصادياً بدرجة يصعب تقبّلها، وكما حصل في أفغانستان سابقاً، قد تصل مشاكل الإمدادات وتراجع المعنويات في أوساط قوة الاحتلال إلى مستوى لا يمكن تحمّله.

يشير سجل حركات التمرد الحديثة إلى انقلاب الظروف ضد بوتين في أي احتلال مطوّل، وخلال العقود التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، نجحت حركات التمرد القومية التي تواجه قوات الغزو الأجنبية في فرض سيطرتها في معظم الحالات، وهذا ما فعله المقاتلون في المقاومة الأفغانية ضد الاتحاد السوفياتي، وهذا الوضع يُضعِف موقف بوتين: إما أن يحقق النصر وينشر السلام سريعاً في أوكرانيا (وهي نتيجة مستبعدة)، وإما أن يأمر بسحب قواته العسكرية من البلد بعد إعلان انتهاء "العملية العسكرية الخاصة" بنجاح، ومن المتوقع أن تكون الإهانة الشخصية التي ترافق هذه الخطوة الأخيرة أكبر من أن يتحمّلها بوتين.

يقترب الرئيس الروسي اليوم من سنته الثالثة والعشرين كزعيم لروسيا، وقد تبقّى له سبع سنوات كي يُحقق هدفه الشخصي بتجاوز عهد جوزيف ستالين الذي امتد على 30 سنة، لكن بدأت الخيارات المتاحة أمامه تضيق مع مرور الأيام، وتزداد تقييمات تحركاته المحتملة تعقيداً بسبب شيوع الفكرة القائلة إنه شخص غير متّزن عقلياً وقد يذهب إلى حد استعمال الأسلحة النووية تماشياً مع تهديداته المتكررة في الفترة الأخيرة، ونظراً إلى الشكوك الراسخة بحالة بوتين الذهنية، قد تضطر الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو لبلوغ أقصى درجات التأهب بطريقة ضمنية ومن دون الإعلان عن ذلك صراحةً، حتى أن التأهب قد يشمل التفكير بالخيار النووي.

إذا تكثّفت المساعي لإخراج بوتين من هذه اللعبة قبل أن يُصعّد الوضع بدرجة غير مقبولة، فلا مفر من هزم جيشه أو أوساطه الاستخبارية لتحقيق هذه المهمة، حيث يزداد العالم امتعاضاً من موسكو مع كل يوم جديد من الحرب في أوكرانيا، بسبب وفرة التقارير الإعلامية الدولية التي توثّق الأعمال الوحشية الروسية وسقوط ضحايا مدنيين، وربما بدأ بوتين هذه الحرب لإصلاح ما يعتبره مأساة تفكيك الاتحاد السوفياتي، لكنه يتجه على الأرجح إلى تكرار الحرب الكارثية التي سرّعت انهياره، حتى أنه قد يُهدد مستقبله الخاص في خضم هذه العملية.

* ميلتون بيردن

Foreign Affairs