لم يحصل الغزو الروسي لأوكرانيا بالشكل الذي تصوّره الكرملين، فقد أصبحت القوات الروسية عالقة في محيط المدن الأساسية وأثبت الجيش الأوكراني قوة مقاومته، وتزامناً مع تراجع معنويات الجيش الروسي واستنزاف الإمدادات الروسية، قد تلجأ موسكو إلى تدابير أكثر صرامة لتحقيق النصر، وفي واشنطن بدأ مسؤولو الأمن القومي الأميركيون يجتمعون منذ الآن للتخطيط لسيناريو لم يكن ممكناً في السابق: قد تستعمل روسيا الأسلحة البيولوجية والكيماوية في أوكرانيا.بعدما خَنَق غاز الكلور الألماني أعداداً كبيرة من القوات البريطانية والكندية في عام 1915 خلال الحرب العالمية الأولى، أرعب هذا النوع من "الحروب العلمية" المجتمع الدولي وأدى إلى طرح "بروتوكول جنيف" الصادر عن عصبة الأمم بعد عشر سنوات، وهو يمنع استعمال العناصر الكيماوية والبيولوجية خلال الحروب، واستمر هذا الاتفاق على مر الحروب اللاحقة، مع أن عدداً من الدول تابع تطوير الأسلحة البيولوجية والكيماوية الهجومية، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ثم أوقف الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ذلك البرنامج ورفض استعمال واشنطن لهذا النوع من الأسلحة في العام 1969، ولا يزال هذا الحظر مستمراً منذ ذلك الحين، لكن لم تندم دول أخرى على استخدام هذه الأسلحة بالقدر نفسه، فاستعمل الرئيس العراقي صدام حسين السارين وغاز الخردل ضد بلدة حلبجة الكردية في عام 1988، مما أسفر عن مقتل الآلاف، كذلك، تفيد التقارير بأن الرئيس السوري بشار الأسد أطلق أكثر من 300 هجوم كيماوي خلال الحرب الأهلية السورية، مما أدى إلى مقتل آلاف الناس (أو حتى مئات الآلاف).
اليوم، تزامناً مع إقدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على توسيع مغامرته العسكرية المتباطئة في أوكرانيا، أصبح هذا التهديد أكثر خطورة، فكان الاعتداء البيولوجي أو الكيماوي يُعتبر خياراً مستبعداً في السابق، لكن يجب أن يستعد الأميركيون وحلفاؤهم في الناتو لأسوأ السيناريوهات المحتملة ويقيّموا الموارد التي يملكونها جماعياً للتعامل مع أي اعتداءات بيولوجية وكيماوية ولتعزيز تلك الموارد سريعاً، فهم لا يستطيعون إهدار الوقت لأي سبب.لكن لا تبدو الحكومات في الولايات المتحدة وأماكن أخرى مستعدة للرد على أي هجوم قد تتعرض له أوكرانيا، وقد يؤدي إطلاق الجمرة الخبيثة من طائرة عادية أو مسيّرة إلى قتل آلاف الناس قبل وصول الكميات المناسبة من المضادات الحيوية إلى الشعوب المتضررة، وقد يصعب أن يبدي أي بلد استعداده لتقاسم المضادات الحيوية في الوقت المناسب منعاً لموت الناس لأن هذه الخطوة قد تستنزف مخزون البلد وتُعرّضه للهجوم.
مواصفات الحرب المحتملة
بدأ مسؤولو الأمن القومي الأميركيون يجتمعون للتحضير لهذا النوع من التطورات المستبعدة، إذ يجب أن يستعد الأميركيون وحلف الناتو للتحرك بالشكل المناسب، فيبتكرون أفضل الطرق لتقديم مساعدات فورية إلى الأوكرانيين، ويفكرون بضرورة أن يرسم الناتو خطوطاً حمراء واضحة، ويُحددون في هذه الحالة الرد المناسب على أي استعمال روسي للأسلحة البيولوجية أو الكيماوية، كذلك، يجب أن يُقيّم المسؤولون خياراً شائكاً آخر: هل يستحق هذا النوع من الجرائم ضد الإنسانية التحرك عسكرياً ضد روسيا وافتعال صراع أوسع نطاقاً؟ سيكون السماح لروسيا بالإفلات من العقاب رغم هذا الهجوم شكلاً من الاسترضاء، ويؤدي هذا التكتيك بشكل عام إلى كوارث إضافية، وإذا شعر بوتين بالغضب أو اليأس لدرجة أن يطلق هجوماً كيماوياً أو بيولوجياً خبيثاً ضد أي دولة منتسبة إلى حلف الناتو وحريصة على تقديم المساعدات إلى أوكرانيا (يبدو هذا الاحتمال أقرب إلى الواقع مع مرور الأيام)، فيجب أن يضع الأميركيون وحلفاؤهم خطة يمكن تنفيذها فوراً.يجب أن يستوعب المخططون طبيعة المشاكل اللوجستية والاستراتيجية المطروحة، ويُفترض أن يقوم الأميركيون وحلفاؤهم، داخل حلف الناتو وخارجه، بجردة عالمية شاملة وجماعية للكميات المتاحة من لقاحات الجمرة الخبيثة والجدري (قد يصبح هذا المرض كارثياً إذا تفشى على نطاق واسع) وأنواع مماثلة من العناصر البيولوجية الأخرى، والمضادات الحيوية والأدوية المضادة للفيروسات، وترياقات الأسلحة الكيماوية، كذلك، يجب أن يُحدد الخبراء أفضل التدابير الطبية المضادة.يجب أن يعرف هؤلاء الخبراء مثلاً المضاد الحيوي الذي يمكن استعماله لمعالجة التعرّض للجمرة الخبيثة ويتأكدوا من استمرار فاعلية المخزون العالمي المحدود من لقاحات الجدري، وفي الوقت نفسه، يجب أن يُحدد المسؤولون المدة التي يحتاجون إليها لإنتاج كميات كافية من اللقاحات وتفعيل التدابير الطبية المضادة ويتأكدوا من مصادر تمويلها، ويُفترض أن تستعد الدول الفردية أيضاً لتوسيع مخزون اللقاحات والأدوية وإمدادات أخرى لمساعدة الأوكرانيين وحماية شعوبها محلياً.على صعيد آخر، يجب أن يدرك المسؤولون الأميركيون وحلفاؤهم مختلف الحاجات التي تلي أي اعتداء بيولوجي أو كيماوي، فلن تتّضح الاعتداءات المُعدية بالجمرة الخبيثة مثلاً خلال أيام قليلة لأن ظهور الأعراض يتأخر، لكن سرعان ما تجتاح هذه العدوى مستشفيات وعيادات أوكرانيا، حيث يتطلب الاعتداء الكيماوي رداً أكثر إلحاحاً، بما يشبه الردود التي تلي قصف أحد المباني وبقاء الناس عالقين داخل حطامه.لإطلاق رد فاعل على أي اعتداء بيولوجي أو كيماوي، تبرز الحاجة إلى تنسيق الجهود بين دول متنوعة في أسرع وقت، ويجب أن يوزّع شركاء أوكرانيا اللقاحات والإمدادات الطبية فور وقوع الهجوم، مما يعني أن تبرم الحكومات اتفاقيات لوجستية مسبقاً وتُحدد طريقة توزيع الإمدادات في المناطق الغارقة في الحرب.لم تتّضح بعد هوية أنسب جهة لإطلاق أكبر ردّ ممكن على أي هجوم بيولوجي أو كيماوي من الجانب الروسي، فقد لا تكون الحكومة الأوكرانية مخوّلة للرد على الاعتداء بوتيرة سريعة وفاعلة، لكن إذا لم تضطلع أوكرانيا بهذا الدور، فمن هي الجهة المناسبة لأداء هذه المهمة؟ من المستبعد أن تتخذ الأمم المتحدة، حيث تملك روسيا حق النقض في مجلس الأمن، خطوات مكثفة في هذه الأزمة، لذا تبقى الولايات المتحدة على الأرجح الجهة المنطقية الوحيدة لتنسيق أي ردود محتملة. أخيراً، يجب أن يجيب المسؤولون عن مجموعة أساسية من الأسئلة الدقيقة الأخرى: من سيكون مسؤولاً عن مراقبة الأمراض بعد أي هجوم محتمل؟ ومن أين يأتي أوائل المستجيبين والأطباء والممرضين للتعامل مع هذا النوع من الاعتداءات؟ ومن سيدرّب طاقم الطوارئ في أوكرانيا أو يتجه إلى هناك للتأكد من وقوع اعتداء بيولوجي بما أن جميع الأطباء والممرضين لم يشاهدوا مظاهر الجدري أو الجمرة الخبيثة مباشرةً؟ والأهم من ذلك، من سيتحمّل كلفة هذه الجهود كلها؟ سبق أن بدأ الأميركيون وحلفاؤهم بضخّ مليارات الدولارات لمساعدة أوكرانيا، ويجب أن يضيفوا تمويلاً كافياً إلى تلك المبالغ لتأمين المساعدات الطبية والإنسانية اللازمة والتعامل مع أي حرب بيولوجية أو كيماوية محتملة، فلا تستطيع الحكومات أن تنتج مضادات حيوية جديدة أو تؤمّن مخزوناً مناسباً من اللقاحات وترياقات غاز الأعصاب وتطلق تدابير طبية مضادة بشكلٍ مفاجئ.كان وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد محقاً حين قال إن الدول يجب أن تخوض الحروب بالمعدات التي تملكها، لا المعدات التي ترغب فيها أو تتمنى الحصول عليها في وقتٍ لاحق، لكن لا تُعتبر المعدات التي يملكها المجتمع الدولي في الوقت الراهن مناسبة من حيث الموارد والتحضيرات لمواجهة التحديات المحتملة، إذ يجب أن يفكّر المسؤولون بالسينايوهات المستبعدة اليوم لأن كلفة أي مقاربة أخرى ستكون أعلى مما يتوقعون بكثير.* مايكل أوسترهولم ومارك أولشيكر