تمتع الفنان الراحل سمير غانم بخفة ظلٍ لازمته طوال حياته، وأشاع البهجة في كواليس أعماله وبين زملائه والمقربين منه، ويُعد من الفنانين القلائل الذي تفاعل معهم الجمهور فور سماع صوتهم وقبل ظهورهم على خشبة المسرح، فقد كانت لديه قدرة فائقة على الارتجال، وخلال رحلته الطويلة مع الكوميديا، جرفه التيار بعيداً عن التراجيديا.

واعتاد الجمهور رؤية الفنان سمير غانم في ثوبه الكوميدي، ولم يحاول المخرجون إعادة اكتشاف موهبته في أدوار تراجيدية، مثلما حدث على سبيل المثال مع نجمَي الكوميديا فؤاد المهندس وعبدالمنعم مدبولي، أو العكس مثلما الحال مع الفنان التراجيدي يوسف وهبي، حين أسند إليه المخرج فطين عبدالوهاب دوراً كوميدياً في فيلم "إشاعة حب” 1961، مع سعاد حسني وعمر الشريف وعبدالمنعم إبراهيم.

Ad

بداية الرحلة

بدأت رحلة سمير، بمولده يوم 15 يناير 1937 بقرية "عرب الأطاولة” بمحافظة أسيوط (بصعيد مصر)، وهذه القرية تضرب بجذورها إلى قبيلة مشمر بن طوال، إحدى القبائل بالجزيرة العربية، وكان والده ضابط الشرطة يوسف غانم عمر يعده للالتحاق بكلية الشرطة، وبعد تخرّجه في الثانوية العامة، قدّم أوراقه إلى كلية الشرطة احتذاءً بوالده، ولكن جرى فصله منها بعد رسوبه لعامين متتاليين، فتوجه إلى كلية الزراعة بجامعة الإسكندرية.

وفي أروقة الجامعة، اشتهر غانم بخفّة ظله، وارتجال مواقف كوميدية، لكنّه لم يعتقد أنه سيحترف الفن لاحقاً، وهناك التقى الفنانين وحيد سيف وعادل نصيف، وشكّلا فرقة "اسكتشات فكاهية” التي كانت تقدّم عروضها على مسارح الإسكندرية، وحققت نجاحاً كبيراً، إلا أن الفرقة لم تستمر في نشاطها، لانسحاب سيف منها، بسبب عدم مقدرته على الجمع بين وظيفته والدراسة بكلية الآداب، وأيضاً انسحب عادل نصيف ليكمل دراسته العليا في تخصص الحشرات بكلية الزراعة.

ولاحقاً، أصبح عادل نصيف أحد الممثلين البارزين في فرقة "ثلاثي أضواء المسرح”، وشارك مع "سمير وجورج والضيف” في العروض الأولى للفرقة، ولفت أنظار الجمهور بخفّة ظله وبراعته في الأداء الحركي، لكنه اعتزل الفن مبكراً، وسافر بعد سنوات قليلة إلى بلجيكا.

مسرح الثلاثي

شهدت فترة الستينيات نشاطاً مسرحياً غير مسبوق في الجامعات المصرية، ودفعت المؤسسة الثقافية آنذاك بكبار المخرجين لتقديم عروض تراجيدية وكوميدية، واكتشاف المواهب من طلاب الكليات المختلفة، لكن كلية الزراعة التي التحق بها سمير، خرج منها عددٌ كبير من النجوم، منهم عادل إمام وصلاح السعدني ومحمود عبدالعزيز وجورج سيدهم وسيد عبدالكريم، ومن الفنانات دلال عبدالعزيز ومحسنة توفيق.

عندما تخرّج سمير في كلية الزراعة عام 1961، وجد نفسه في مفترق طرق، وتلاشت أصداء تجربة "الاسكتشات الفكاهية”، وأراد أن يجرِّب حظه مرة أخرى في عالم الفن، وكان على موعد مع أول لقاء مع الفنان جورج سيدهم، الذي تخرّج في العام نفسه بكلية الزراعة بجامعة عين شمس في القاهرة، وعمل وقتها مهندساً زراعياً في منطقة أبيس قرب مدينة الإسكندرية.

طرق غانم أبواب "ماسبيرو” في عام تخرّجه، وسبقه جورج في الظهور على الشاشة في فقرة تمثيلية بعنوان "دشّ بارد”، وفوجئ بمكالمة هاتفية من التلفزيون المصري لتقديم فقرة أخرى بعنوان "الشحاتين حول العالم” في برنامج "مع الناس”، الذي كان يقدّمه فؤاد منيب، وتعرّف للمرة الأولى على رفيق مشواره سمير غانم، وحققت الفقرة نجاحاً مدوياً، وكانت السبب في شهرتهما وانطلاقهما نحو تأسيس فرقة "ثلاثي أضواء المسرح”.

في تلك الأثناء، كانت شهرة سمير وجورج قد بدأت تنتشر في الشارع المصري، وكذلك الحال بالنسبة إلى الفنان الضيف أحمد؛ خريج كلية الآداب بجامعة القاهرة، الذي ظهرت موهبته في التمثيل وهو لا يزال طالباً، واكتشفه الفنان فؤاد المهندس، وأسند إليه دوراً في مسرحية "أنا وهو وهي” (1964)، ومعه الفنان الشاب ـ آنذاك ـ عادل إمام.

والتقى سمير وجورج والضيف في كواليس مبنى "ماسبيرو” (اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري)، وقدّموا العديد من "الاسكتشات الفكاهية” من خلال الشاشة الفضية، والمشاركة في الحفلات الغنائية، وتفاعل الجمهور مع اسكتشات "دكتور الحقني” و”كوتوموتو” و”الكرة” و”أبناؤنا في الخارج” وغيرها.

وكان لكل واحد منهم أسلوبه الكوميدي المتميز، واجتمعوا على حلم واحد، أن يحققوا حضورهم على خشبة المسرح، وتكون لهم فرقتهم الخاصة، وبعد ثلاث سنوات من تقديم "الاسكتشات”، قدّم الثلاثي أول عروضهم المسرحية بعنوان "طبيخ الملايكة” (1964)، إخراج حسن عبدالسلام، وشاركهم البطولة الفنانون أسامة عباس وعبدالخالق صالح وآمال زايد وزكريا موافي.

وانطلق الثلاثي "سمير وجورج والضيف” بعد أن ثبّتوا أقدامهم على خشبة المسرح، وقدّموا عام 1967 مسرحيتَي "حواديت” و”براغيت” مع المخرج محمد سالم، و”فندق الأشغال الشاقة” (1969) إخراج نور الدمرداش، وقام ببطولتها سمير وجورج، واكتفى الضيف أحمد بدور المخرج في مسرحية "كل واحد وله عفريت”، و”الراجل اللي جوّز مراته” عام 1970.

وفي العام ذاته، تلقى سمير وجورج صدمة مدوية، برحيل الضيف أحمد وعمره لا يتجاوز 35 عاماً، الذي شارك منذ عام 1963 في نحو 40 فيلماً، وبطولة وإخراج عشرات المسرحيات، ووقتها خيَّم الحزن على الوسط الفني لفقد موهبةٍ شابة، كان ينتظرها مستقبل باهر في عالم التمثيل الكوميدي.

كان الضيف أحمد يمثّل العقل الذي يرجع إليه سمير وجورج في الأمور الفنية المتعلقة بفرقتهم "ثلاثي أضواء المسرح”، وتوطدت الصداقة بينهم في رحلة شاقة لتحقيق النجاح والشهرة، ورغم قصر عمره، فإنه ترك أثراً كبيراً بالأعمال التي شارك في بطولتها.

وفي ذلك الوقت، أصر سمير وجورج على استئناف عرض مسرحية "الراجل اللي جوّز مراته” تكريماً لزميلهما الراحل، وظلت الفرقة ترفع اسم "ثلاثي أضواء المسرح”، وواصلت عروضها الناجحة حتى عام 1981، واختار سمير أن يُحلِّق منفرداً، بينما ظل جورج يقدِّم أعماله على المسرح ذاته حتى دهمه المرض في أثناء عرض مسرحية "نشنت يا ناصح” عام 1995.

موسيقى في الحي الشرقي

حفل الأرشيف المسرحي للفنان سمير غانم بعددٍ كبير من الأعمال الناجحة، التي لا تزال أصداؤها حاضرة حتى الآن، وشكَّل ثنائياً فريداً مع زميله الفنان جورج سيدهم من خلال فرقة "ثلاثي أضواء المسرح”، وقدّما مسرحية "موسيقى في الحي الشرقي” عام 1971، تأليف الكاتب فهيم القاضي وإخراج حسن عبدالسلام، وشارك في بطولتها الفنانة صفاء أبوالسعود وفادية عكاشة وزكريا موافي، وعدد من الممثلين الأطفال.

واستمر عرض "موسيقى في الحي الشرقي” 5 مواسم متتالية، حتى استقر "الثنائي” مع المخرج حسن عبدالسلام على تقديم مسرحية "المتزوجون” عام 1976، تأليف فيصل ندا، وشارك في بطولتها الفنانة شيرين ونجاح الموجي وراوية سعيد وأحمد ماهر وزكريا موافي.

وتناولت المسرحية مشكلات الأزواج في إطار كوميديا اجتماعية، ولعب سمير غانم دور الشاب الفقير (مسعود) الذي يتزوج فتاة ثرية (لينا) التي قامت بدورها الفنانة شيرين، في أول ظهور لها على خشبة المسرح، وقام جورج سيدهم بدور صديق مسعود، ودارت الأحداث في إطار من المفارقات الكوميدية، وحققت "المتزوجون” نجاحاً كبيراً لأربعة مواسم متتالية.

لمسة وفاء

وطوال مشواره الفني، ابتعد سمير غانم عن افتعال معارك فنية مع زملائه، إلا أن البعض اتهمه بعدم الوفاء وتجاهُل مرض صديقه الفنان جورج سيدهم، لكنه أكد مراراً أنه لم يكن يتحمّل أن يرى صديق عمره في تلك الحالة، وأن زوجته الفنانة دلال عبدالعزيز وابنتيه (دنيا وإيمي) يقمن بزيارته، ولكنه بعد ذلك كان يزوره بانتظام.

وفوجئ الجمهور عام 2014، بظهور سمير وجورج في إعلان تلفزيوني، ومعهما الفنانة شيرين، بعد مرور 20 عاماً على احتجاب جورج سيدهم عن الأضواء، وكانوا يرتدون ملابس مسرحيتهم الشهيرة "المتزوجون” (1976) التي ما تزال تلقى نجاحاً كبيراً حين يجري عرضها على القنوات الفضائية.

وتفاعل المشاهدون مع ظهور غانم وسيدهم وشيرين، خصوصاً مع استعادة أصداء نجاح "المتزوجون” ورؤيتهم الفنان جورج سيدهم بعد غياب طويل لظروف مرضه، وهو النجم الذي أدخل السعادة والبهجة في قلوبهم لسنوات، سواء من خلال فرقة "ثلاثي أضوء المسرح”، أو من خلال العديد من الأفلام والمسرحيات والأعمال الدرامية التلفزيونية.

وجاء الإعلان ليستعيد أبطال "المتزوجون” ذكريات عمل مسرحي مضى عليه 38 عاماً، وأبلغ رد على مهاجمي سمير غانم، ولمسة وفاء لصديق عمره، ورفيق مشواره الفني منذ بداية ستينيات القرن الماضي.

وعاد شبح الاتهام يطارد سمير، مرة أخرى، حين بادرت الدكتورة ليندا زوجة جورج سيدهم وصديقه كمال وافيش المقيم في كندا بتقديم كتاب "ملاك البسمة الحزين... 40 عاما من الضحك” كنوع من الوفاء لجورج، وتضمّن الكتاب كلمات حب من أصدقائه الفنانين، واعتبر البعض أن غانم تجاهل الكتابة عن صديق عمره.

تلك المرة لم يعلّق غانم على هذا الاتهام، بل تجاهله تماماً، وربما وجد صعوبة في التعبير عن مشاعره تجاه صديق عمره، وأن شهادته ستكون مجروحة، وبطبيعته كان يطوي أحزانه في قلبه، ولا يحب أن يستدرّ شفقة أو تعاطفاً رخيصاً من جمهوره، مثلما يفعل بعض الفنانين في الآونة الأخيرة.

وكان رحيل الفنان جورج سيدهم في 27 مارس 2020، صدمة مفاجئة للوسط الفني، لا سيما سمير غانم ودلال عبدالعزيز، التي ذكرت حينها أن جورج هو مَن اكتشفها وقدّمها للمسرح، وكان صاحب فضل كبير عليها، وكان السبب في أن يعرِّفها على عدد كبير من الفنانين منهم نادية لطفي، وأنه توفى في اليوم العالمي للمسرح، وهذه تعتبر مفارقة غريبة.

وأخفت دلال خبر الوفاة عن زوجها سمير، لكن المكالمات الهاتفية انهالت عليه، وهوت عليه الصدمة وأفقدته القدرة على النطق، وحين تمالك نفسه، وصف صديق عمره بأنه كالجبل، لتحمّله المرض لأكثر من عشرين عاماً، وأنه كان يشعر بالسعادة عند رؤية جورج على المسرح؛ سواء قبل وفاة الضيف أحمد أو بعد وفاته.

ويشاء الله أن يرحل جورج سيدهم في وقت يسود الرعب العالم من تفشي فيروس كورونا. وبعد شهور قليلة لحق به صديق عمره سمير غانم، وانطفأت آخر شمعتين في فرقة "ثلاثي أضواء المسرح”، التي أسهمت في إثراء المسرح الكوميدي لأكثر من 50 عاماً.

صدمة رحيل الضيف أحمد

خرج سمير غانم عن صمته بعد سنوات طويلة، وكشف في لقاء تلفزيوني عن تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياة رفيق مشواره الفنان الضيف أحمد، قائلاً: "الضيف قبل وفاته كان يُخرج مسرحية (كل واحد وله عفريت)، وسافرنا إلى الأردن لحضور إحدى الحفلات، وكان الضيف أحمد في الطائرة ويصمّم على حضور كل أعضاء الفرقة بروفات المسرحية”.

وحكى غانم أن الضيف أحمد جسَّد دور شخص ميت في النعش، وذلك ضمن البروفات الأخيرة لمسرحية "الراجل اللي جوّز مراته” ليتحوّل التمثيل إلى حقيقة، وبعد آخر "بروفة” عاد إلى المنزل، وفي منتصف الليل اتصل به جورج سيدهم وأخبره برحيل الضيف.

وتأثر سمير وجورج وأصابهما حزن شديد لفقد الضيف، وكان بالنسبة إليهما الصديق والقائد لفرقة "ثلاثي أضواء المسرح”، لكونه يجمع بين موهبة التمثيل والإخراج والتأليف، وحقّق حضوره الفني وهو لا يزال طالباً، وحصل على عدة جوائز عن الأدوار التي أدّاها على مسرح الجامعة، وأيضاً عن إخراجه أعمالاً من روائع المسرح العالمي.

وبعد الرحيل المفاجئ للضيف أحمد، رفض سمير وجورج أن يكون هناك بديل للضيف، وأتى إليهما أكثر من شبيه لزميلهما الراحل، لكنّهما قررا استئناف عروض فرقة "ثلاثي أضواء المسرح” من دون تغيير اسمها، ليبقى اسم زميلهما الراحل في ذاكرة الجمهور جيلاً بعد آخر.

سمير غانم يدفع جورج سيدهم للاستقالة

ذكريات عديدة، جمعت بين الفنانين الراحلين سمير غانم وجورج سيدهم، الذي كان يعمل مهندساً زراعياً في ذلك الوقت، إلى جانب اشتغاله بالتمثيل، وكان أول تعارف بينهما على أبواب مبنى "ماسبيرو” عام 1961، بعد نجاح الفقرة التمثيلية التي كان جورج يقدّمها في التلفزيون بعنوان "دش بارد”، وشاركا بعدها معاً في تقديم فقرة أخرى بعنوان "الشحاتين حول العالم” وحققا نجاحاً كبيراً، وكانت السبب في شهرتهما، وانطلاقهما نحو تأسيس فرقة "ثلاثي أضواء المسرح”.

لكن ظهور سمير مع جورج، تسبب للأخير في موقف محرج، حيث تصادف أنه وقت إذاعة الفقرة، كان رئيس جورج في وزارة الزراعة يشاهده في التلفزيون، وفي اليوم التالي فوجئ جورج بتعنيفه له بشدة، قائلا: "مش عيب تبقى باشمهندس زراعي قدّ الدنيا وتطلع تقف ترقص وتغني قدّام الناس؟!” وعلى الفور قدّم جورج استقالته، وتفرّغ للفن طوال حياته.

أحمد الجمَّال