شهر الصوم يفتح شهية الأدباء للقراءة والإبداع
في شهر رمضان الكريم، يصوم الأدباء المسلمون عن الطعام والشراب، لكن شهيتهم تزيد نحو القراءة والكتابة الإبداعية، وهو ما أكده مجموعة من الأدباء والشعراء من دول عربية مختلفة تحدثوا لـ"الجريدة" في هذا التحقيق عن إيقاع يومهم في شهر الصوم، وارتباطه لديهم بشحذ هممهم صوب تزويد معارفهم بالاطلاع، وزيادة منجزهم الأدبي بمداد الإبداع.
يقول الشاعر والروائي المصري، أحمد طه: "في السنوات الأخيرة، حيث انفصلت الكيانات الأسرية عن بعضها أو كادت، ولم يعد لدينا من البيوت العائلية إلا القليل، ولم أعد أتابع ما يقدمه التلفزيون إلا ما نَدُر، هذا كله صنع متسعاً من الوقت في رمضان للكتابة، فهي تعويض عما افتقدناه، أو تفريغ لما نعانيه من اختلاف الوضع الثقافي الذي اعتدناه قديمًا، والآن لم يعد له أثر، حتى إن لم يكن رمضان فرصة للكتابة، فالمؤكد أنه فرصة لاسترخاء الذهن قبيل الكتابة".يتابع: "يجب ألا ننسى أن لهذا الشهر مخزونا فائضا في الذاكرة التي تنطفئ طوال العام، وتعود تشتعل مجددًا عند حلوله، هذه الذاكرة هي الوقود الذي يحرك الكاتب بل قد يؤثر في نوعية ما قد يبدأه شعرا كان أو سردا".ويؤكد صاحب ديوان "انتحار معنى" ورواية "رسائل سِيركِت": "لا ننسى أن رمضان شهر إبداعي في أحد جوانبه، مرتبطٌ بالخطابة والإنشاد الديني وسرد السِيَر وقص الحواديت، فلايزال هناك قرّاء تربوا على قصص الأنبياء والسيرة الهلالية وما شابه ذلك في صغرهم، لا ريب أنهم الآن يبحثون عن مثل هذا، ومنهم من يتجه إلى السّيرَ الدينية التي كتبها العمالقة كالعقاد وطه حسين، ولا يجب ترك هؤلاء من دون تجديد، وأرى أن رمضان فرصة ذهبية لما له من حالة وجدانية خاصة ستؤثر في أي كاتب حتى إن لم يدر الكاتب ذلك".
شروط القراءة والكتابة
بينما يقول الروائي المغربي، جلول قاسمي: "إن رمضان شهر روحاني تتجدد فيه العلاقة بالخالق، ويقوى فيه الجانب الروحاني، وتتعدد فيه المشاغل والالتزامات، ما يجعلني ككاتب تحت ضغط الزمن وشروطه، وهو ضغط مضاعف، لابُد أن تتكيّف فيه الكتابة أو القراءة مع هذين الشرطين، يضاف لهما الشرط النفسي والعقلي ومزاج اليوم والليلة وما يستجد فيهما".ويوضح مبدع رواية "نساء وادي النوم": "في رمضان أقضي بعضًا من بياض نهاري للعمل الوظيفي والواجبات الأسرية وما تفرضه من تسوِّق وحضور، أما فترة ما بعد العصر فهي الفسحة الزمنية التي تسمح لي ببعض الحرية لممارسة الكتابة أو القراءة، وقد يمتزج عندي فعل الكتابة بفعل القراءة أحيانًا، عندما تسلس الكتابة قيادها ويجري ماؤها هينًا. وقد أكتفي بالقراءة والتأمل وتسجيل الملاحظات عندما يتأبى الإبداع، فالقراءة بالنسبة إليّ، محطة امتلاء روحي والوجداني وعقلي، وهنا أختار ما يناسب اللحظة، وما يتصادى ورغبات النفس حينها، فأقرأ ما تحت يدي من نصوص سردية أو شعرية. وهذا ما يتناسب ونهار الصوم، إذ يفقد العقل بعض التركيز ويبحث عن بعض المتعة، وهو ما يوفره عددٌ من الأعمال الإبداعية، الشائقة، الرائقة، في أدبنا العربي الحديث والمعاصر، فشرط الكتابة عندي هو القراءة، وأنا أختار ما أقرأ بعناية، فالتجربة تتجدد بالاغتراف من معين الآخرين، والأفكار تتلاقح والتجارب والحيوات، وكل كتاب هو حياة مستقلة، تضيف لحياتي بعضًا من تجاربها".ويستطرد: "مساحتي الزمنية الأدبية كما أسلفت تبدأ بعد العصر وتنتهي قبل الفجر بقليل، وداخل هذه المساحة، أقتنص بعض السويعات المعلومة للأكل والتعبد والجلوس مع الأهل. قراءاتي في فترة الليل تتسم ببعض التركيز، أنوِّع فيها، ما بين الدراسات النقدية والكتب الفلسفية أو الدينية ككتب المناقب والتصوف، فأقرأ لابن عربي أو لأبي حيان التوحيدي وبعضًا من كتب السيرة... يمتزج كل ذلك مع قراءة القرآن الكريم وما يبعثه في نفسي من جمال وجلال، ومن هنا فالقراءة والكتابة عندي حالة شخصية فردية تتلون بتلون الظرف والمقام والزمان". وتحدثت القاصة والروائية الجزائرية، وهيبة سقاي، عن طقوس الكتابة الإبداعية في رمضان، قائلة: "هذا الشهر بالنسبة إليّ فرصة لسمو الروح ونقاء الذهن وتوّقد المشاعر وتدفق الأحاسيس، وهذه كلّها أمور أحتاجها للكتابة وتساعدني على الابتكار الأدبي المميّز، فخلال الشهر الفضيل، تزداد شهيتي للقراءة، أسطّر خلال أيّامه برنامجًا تدريبيًا مكثفًا للإطلاع الأدبي والعلمي واستمداد مادة جديدة وزاد أفضل للحصول على نتاج إبداعي متميّز وفريد، يرتبط بذهن صاف وفكر رائق، يضمنه لي صوم تخف فيه الأعباء من طعام وشراب، ويهذّب النفس بالجوع والخشوع لله، يكون ظاهره عذاب بيولوجي، وباطنه رحمة وراحة نفسية".تتابع مؤلفة مجموعة "دموع أغرقت البحر": "لطالما ارتبط شهر رمضان بهمم عالية ومعارك فاصلة وانتصارات عظيمة، استذكارها لا يفجّر الرغبة في الكتابة فحسب، بل في القراءة أيضًا. ورغم أنّ الشهر يمتاز بنفحاته الدينية البحتة، فأنا قراءاتي لا تحذو هذا الحذو، إذ عدا تلاوة بعض ما يتيّسر لي من الذّكر الحكيم، فإنني أقرأ كما كنت أقرأ في سائر أيام الشهور الأخرى، أي أنّ ميولي في القراءة لا تتغيّر بحلول رمضان، ولا تنحرف عن مسارها المعتاد".وتوضح: "أقرأ الرواية والقصّة والنصوص المسرحية باللغتين العربية والفرنسية، كما أحبّذ خلال هذا الشهر إعادة قراءة بعض الأعمال الأدبية لمشاهير الكُتّاب، كأنّي أرمي بذلك إلى تقوية ذاكرتي بمدد عظيم من المشاهد الأدبية، تكون لي بمنزلة مكملات غذائية ذهنية وفيتامينات عقلية، تنّمي قدراتي الكتابية فيما بعد، فتفتح لي أبواب الإبداع على مصراعيها، وتوحي إليّ بأفكار لأعمال أدبية جديدة، أعكف على خوض رحاها بعض انقضاء شهر البركات".الإبداع يهزم النوم
وللكتابة طقوس خاصة بالنسبة إلى القاص والروائي البحريني، أحمد المؤذن، إذ يقول: "في الأيام العادية، أحضِّر لنفسي قهوة على النار، وأقفل عليّ باب حجرتي ثم أكتب، لكن في رمضان، أجدني متحفزًا أكثر للكتابة خصوصًا أثناء الظهيرة، وتعودت على إنجاز الكثير من مشاريع كتبي في هذا الشهر الفضيل، إذ أشعر بأن هناك طاقة أستمدها من طبيعة جو الشهر، فأنا لا أكثر من النوم، بل اتجه للقراءة والكتابة لأستغل الوقت".وفي وقت يميل مبدعون إلى الكتب الدينية في رمضان، فإن هذا الأمر لا يحدث مع المؤذن، صاحب رواية "سر البانوش المهجور": "قلما أغيِّر طبيعة قراءاتي في الكتب التي أختارها، لا أميل للكتب الدينية حتى مع حلول شهر رمضان، كما لا أضع لنفسي برنامجًا يرتبط بهذا الشأن لكي أسير عليه، القراءة عندي سلوك حُر بحيث أختار ما أريد من صنوف المعرفة بمعزل عن طقوس رمضان، لكني طبعًا أحرص على الوجود في بيت الوالد لمشاركة الأهل قراءة القرآن الكريم. نعم لشهر رمضان أجواء خاصة وطقوس ولكني على الصعيد الشخصي، حتى في مثل هذا الشهر أحب العزلة، ويلذ لي ممارسة القراءة والكتابة كبقية أيام العام، كما أنصرف عن التلفزيون وأحب الاستماع إلى الراديو، والابتهالات الدينية للنقشبندي، والإصغاء لترتيل القرآن بصوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، ومتابعة بعض البرامج المنوَّعة... أصنع جوي الخاص، وأقلل من هوسي بهاتفي الجوال لأتحرر منه، وأجرِّب الرسم بحرية لأستمتع بوقتي".أحمد الجمَّال
أحمد طه: فرصة لاسترخاء الذهن قبيل الكتابة