في البداية، أهنئ الشعب الكويتي الكريم، وأهنئ كل مقيم على هذه الأرض الطيبة بشهر رمضان الكريم، أعاده الله على الأمتين العربية والإسلامية بالسلام والأمن والأمان.

في مثل هذا اليوم في اليوم الأول من شهر رمضان الكريم من سنة 1437 هجرية نشرت صحيفة «الجريدة» دراسة أدين فيها مشروع قانون كان مجلس الأمة قد أقره بأغلبية ساحقة، بالأثر الرجعي فيما نص عليه من حرمان حق الانتخاب لكل من أدين بالإساءة لله عز وجل أو الأنبياء والرسل والصحابة أو الذات الأميرية، بما ينطوي على مخالفة أحكام الدستور، فضلاً عن المخالفات الدستورية الأخرى التي اشتملت عليها هذه الدراسة، وقد صدر بهذا التعديل التشريعي لقانون الانتخاب، بالقانون رقم 27 لسنة 2016.

Ad

وقد كان لهذا القانون تداعياته على العمل القضائي، إذ فجر هذا التعديل لأول مره تنازعاً في الاختصاص وتناقضاً في الأحكام بين أعلى محكمتين في البلاد وهما المحكمة الدستورية ومحكمة التمييز وخللاً في التنظيم القضائي، وتهديداً للحرية الشخصية التي كفلها الدستور، من أن ترتد التشريعات الجزائية إلى الماضي، فيما تسنه من عقوبات جديدة أو من تشديد في العقوبات المقررة عن الأفعال السابقة على العمل بهذه التشريعات.

ويأتي اليوم الأول من رمضان وقد قُدم اقتراح بقانون طال انتظاره، بإلغاء هذا التعديل التشريعي والذي نرجو أن يوفق المجلس إلى إقراره، فالتجربة الديموقراطية الرائدة في الكويت قادرة كغيرها من تجارب ديموقراطية على تصحيح أخطائها.

وهو ما رأيت معه أن أتصدى اليوم لتناقض الأحكام وتنازع الاختصاص بين أعلى محكمتين في البلاد وتناقض أحكامهما الذي أفرزه التعديل التشريعي سالف البيان، وما كان لوجود محكمة التمييز في تشكيل المحكمة الدستورية من استقامة أحكام القضائين.

تناقض الأحكام

وكانت المحكمة الدستورية قد طبقت هذا التعديل التشريعي بأثر رجعي في حكم أصدرته في 14 من مارس سنة 2021، في الطعن الانتخابي رقم 15 لسنة 2020، بإبطال انتخاب أحد الفائزين في الانتخابات البرلمانية العامة الأخيرة، على سند من صدور حكم من محكمة التمييز (الدائرة الجزائية) بتاريخ 8/ 6/ 2014 بإدانته في جريمة من الجرائم التي نص التعديل التشريعي سالف الذكر على الحرمان من حق الانتخاب كعقوبة تبعية، لعقوبة أصلية، قضى بها الحكم المذكور.

وقد خالف حكم الدستورية حكم محكمة التمييز الجزائي، سندها في هذا القضاء، الذي أمر بإيقاف تنفيذ العقوبة لمدة ثلاث سنوات، انقضت في 8/ 6/ 2017، وسقطت بانقضائها عقوبة الحبس المحكوم بها على المطعون في انتخابه، وسقطت تبعا لها العقوبة التبعية، وهي حرمانه من حق الانتخاب، فالعقوبة التبعية تدور وجوداً وعدما مع العقوبة الأصلية.

إلا أن المحكمة الدستورية كان لها رأي آخر هو أن مدة إيقاف تنفيذ العقوبة، التي أمر بها الحكم، لم تكن قد انقضت عند العمل بالتعديل التشريعي سالف الذكر فطبقته المحكمة الدستورية على الأفعال السابقة على تاريخ العمل بهذا التعديل باعتباره أثراً مباشراً لهذا التعديل، وهو في حقيقته أثر رجعي لأن مدة إيقاف تنفيذ العقوبة سببها ما رأته المحكمة من ظروف صاحبت الفعل المرتكب، ومن ماضي المحكوم عليه، وما يحملها على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى هذا الفعل مرة أخرى، فوضعته في فترة اختبار لا يجوز بحال من الأحوال أن ينقلب عليه وبالاً، ويصبح فعلاً مستباحا لكل عقوبة جديدة للفعل، بل جاوزت المحكمة الدستورية المدى في حكمها السالف البيان، بأن خالفت حكماً آخر أصدرته محكمة التمييز، بتاريخ 3/ 12/ 2020 في الطعن رقم 2580 لسنة 2020 في رقابتها لمشروعية القرارات الإدارية، صانت به حق الانتخاب للمحكوم عليه في الجريمة سالفة الذكر وقضت بأحقيته في الترشح للانتخابات البرلمانية الأخيرة، بعد أن ألغت قرار الداخلية باستبعاده من الترشح لهذه الانتخابات.

وجود «التمييز» في تشكيل المحكمة

ولعل وجود محكمة التمييز في تشكيل المحكمة الدستورية، منذ إنشائها بالقانون رقم 14 لسنة 1973، وطيلة ما يقرب من نصف قرن، كان عاصما للنظام القضائي برمته من هذا التنازع في الاختصاص بين أعلى محكمتين في البلاد الذي أحدثه حكم الدستورية في الطعن الانتخابي سالف البيان، ومن تناقض أحكامهما، إذ غابت محكمة التمييز عن تشكيل المحكمة الدستورية في الاقتراع الأخير على ملء الشواغر في عضويتها، ببلوغ رئيس محكمة التمييز ونائبه السابقين سن التقاعد، فلم يصب التوفيق في الفوز بعضوية المحكمة الدستورية، لأول مرة، من خلفهما في منصبيهما في محكمة التمييز، وهي المرة الأولى في حياة المحكمة الدستورية التي يخلو فيها تشكيل المحكمة الدستورية من شاغلي هذين المنصبين، ليفوز في الاقتراع السري، من يدانيهما في المنصب والأقدمية، مع كل التقدير لمن فازا بهذه العضوية.

الاقتراع على قضاة «الدستورية»

وكان المشرع قد أدخل الانتخاب على النظام القضائي الكويتي في القانون رقم 14 لسنة 1973 بإنشاء المحكمة الدستورية، فيما تنص عليه مادته الثانية من أنه «تؤلف المحكمة الدستورية من خمسة مستشارين يختارهم مجلس القضاء بالاقتراع السري، كما يختار عضوين احتياطيين ويشترط أن يكونوا من الكويتيين ويصدر بتعيينهم مرسوم».

ضوابط العمل القضائي

لذلك غم على البعض فهم هذا النص، ففهمه بأن يكون اختيار قضاة المحكمة الدستورية، من القاعدة العريضة من المستشارين الكويتيين، من غير أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، وهو الرأي الذي تضمنته دعوى بطلان أصلية، لحكم أصدرته المحكمة الدستورية في طعن انتخابي، قيدت أمامها تحت رقم 46 لسنة 2008، على أساس ما ذهب إليه الطاعن في هذه الدعوى من دفع بأن المحكمة التي أصدرت الحكم لم تشكل تشكيلا صحيحا، بسبب اقتراع اختيار أعضاء المجلس لأنفسهم في تشكيل المحكمة الدستورية.

وقد قضت المحكمة الدستورية برفض دعوى البطلان الأصلية سالفة الذكر، وردت على هذا الدفع في أسباب حكمها بأن أعضاء هذه المحكمة هم من المستشارين، ويستمدون ولايتهم القضائية بحكم وظائفهم القضائية، دون أن تزايلهم تلك الولاية بعضويتهم في المجلس الأعلى للقضاء، ولا يستقيم في فهم القانون القول بانحسار هذا النص عن المستشارين أعضاء المجلس الأعلى للقضاء ورؤساء المحاكم، إذ هو تخصيص للنص بغير مخصص، ذلك أن النص إذا ورد عاما فإنه يفيد الشمول والاستغراق، وأن العام يجري على عمومه إلى أن يرد ما يخصصه، والنص ظاهر في دلالته على هذا العموم، ولم تقم قرينة أو دليل على تخصيصه، هذا وقد تم اختيار أعضاء هذه المحكمة وتعيينيهم فيها وقيامهم بمهامهم طبقا لأحكام القانون بعد اتباع كافة الإجراءات القانونية المقررة الشكلية منها والموضوعية ووفق ضوابط العمل القضائي من حيث الأقدميات والترتيب.

وهو حكم التزم التفسير الصحيح للمادة الثانية من قانون المحكمة الدستورية، مؤكدا عرفا قضائيا استقر على أن يكون اختيار أعضاء المحكمة الدستورية، وفق ضوابط العمل القضائي من حيث الأقدميات والترتيب، حسب ما جاء في أسباب هذا الحكم، إلا أن المجلس الأعلى للقضاء لم يلتزم في الاقتراع السري الأخير بضوابط العمل القضائي من حيث الأقدميات والترتيب، وخالف عرفا دستوريا استقر على الالتزام بهذه الضوابط لمدة نصف قرن تقريبا وأهدر إرثا من التقاليد القضائية التي كانت أساس البنيان السليم للصرح الشامخ للقضاء على مر الزمان في دول العالم المتقدمة.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

المستشار شفيق إمام