يسرع المترو أو هكذا بدا لي في تلك اللحظة واللحظة ليست بسرعته، فضحكات الشباب والشابات تسرق اللحظة منه ومن زخات الثلج التي بدأت تزداد كثافة خلف نوافذه المحكمة الإغلاق. يقترب من تلك الساحة المعروفة بكرسيها ذي الأرجل الثلاثة، قالوا إنه رمز للعدالة أو لحقوق الإنسان أو لكليهما وركزوا أنه لا حكم دون الأرجل الأربعة وألا يختل التوازن ليس للكرسي وحده بل للكثير من الأنظمة.

يقترب المترو من تلك الساحة التي اجتمع فيها عدد ليس بالقليل في يوم مثلج، أعلام إثيوبيا والصرخات بلغات الأمم المتحدة أو بأغلب اللغات الست تردد «فليسقط الدكتاتور» وتعيد «فليسقط سفاك الدماء»، لم يحتشد كثيرون حولهم غيره، ربما نتيجة لبرودة الطقس واشتداد تساقط الثلوج، أو لأن المارين من موظفي الأمم المتحدة أو المارين قد اعتادوا المشهد بأسماء مختلفة لدول وزعماء. ترتفع الهتافات كلما حاربها الطقس المثلج وكأنها تقف شامخه ليس في وجه الدكتاتور القابع في ذاك البلد الإفريقي بل للإمبراطور القائم هنا والآن وهو الثلج.

Ad

يبدو المبنى خاليا إلا من بعض العمال الملتزمين بعقود لترميم ذاك المبنى العريق ألا وهو قصر الأمم في جنيف، فقبل سنوات قالوا إن كثيراً من الدول الأوروبية عرضت استعدادها لاستضافة الأمم المتحدة تلك المنظمة المتعددة الأقطاب والتي مثلت فصل الختام للحرب العالمية الثانية، وأسدلت الستار على كثير من الحروب والدمار متصورة أنها بذلك تعيد السلام والسلم للبشرية في كل مكان، وما لبثت أن دخلت في متاهات الحرب الباردة وكثير من حروب مخلفات الاستعمار القديم أو الجديد منه، وكلها تحت شعارات لا تبعد عن السمو مثل الحرية والدفاع عن حقوق الإنسان، ودرء خطر السلاح النووي المدمر، و... و... واسألوا أهل الإعلام المنغمسين في هذه المنظومات والمنطوين تحت هذه الأنظمة، وكله باسم حرية التعبير وتعدد الآراء والرأي والرأي الآخر!!!

الواقفون تحت الثلج وهم القادمون من القارة الدافئة لم يوقفهم البرد ولا الكاميرات المندسة ولا الخوف ممن رفعوا الصوت لساعات لما يعتقدون أنه قضيتهم العادله في مواجهة الطاغية الجالس هناك وهو أمر لا يخصهم وحدهم بل يخص كثيرين وقفوا في هذه الساحة ورفعوا الصوت منادين الأمم المتحدة أن تنصرهم على أعدائهم من الظالمين، وهي أي المنظمة متعددة الأقطاب تعيش لحظات مصيرية تعجز فيها عن أن تنصر الكثير من البشر ليس في إثيوبيا فقط، بل ربما في شرق الأرض وغربها.

أمامهم تصطف أعلام بتلاوين مختلفة هي الأخرى تشكل نقطة خلاف قد تتحول إلى حروب أحيانا ويسقط كثير من الدم البريء دفاعا عن نشيد أو علم، في حين الأوطان هي هي لا تختلف بشحمها ودمها إذا رفع علم جديد أو تردد نشيد وطني آخر.

بقي المؤمنون بقضيتهم في ذلك اليوم المثلج حتى ساعات ما بعد الظهيرة، وهم في كثير من الأحيان وحيدون، فمعظم المارة يحملون إما وظيفة أو قضية ويختلف الأمر بينهم حتى يتحول أحيانا إلى صراع، فالبعض حامل وظيفته وهذا حق، فدونه لا عيش ولا ماء ولا سقف منزل، والبعض الآخر حمل القضية في قلبه ورحل يجوب الكون بها حتى عندما يستسلم آخر المدافعين عنها تحت تأثير الدولار أو الظلمات أو الموت.

يتساءل كثيرون ما الذي يدفع هؤلاء للبقاء تحت الثلج الذي لم يعتادوه ولم يعرفوه قبل رحلة اللجوء القاسية إلى سويسرا أو أي دولة شمالية بصقيعها، ربما هو الإيمان، يقول أحدهم وربما لأن كثيرين قبلهم قالوا لهم عندما تجعل قضيتك وحق ناسك ووطنك ملء عينيك وقلبك، حينها لن تسقط القضية ولن تموت وإلا فكيف قضى نيلسون منديلا عشرين عاما في تلك الجزيرة المعزولة التي هي سجنه ثم انتصر وهو خلف القضبان ونصر قضيته وبعدها علم زعماء العالم درسا لم يعرفوه ألا وهو أن تتنازل عن الكرسي وأنت في ذروة مجدك ومحبة ناسك بك، بل هي محبة الكون لك ولما تمثله.

أهو الذي علمنا الدرس خلف الآخر ومنها «التسامح الحق لا يسلتزم نسيان الماضي بالكامل»، وأن تكون حراً ليس مجرد التخلص من القيود بل هو أن نعيش بطريقة تحترم وتعزز حرية الاخرين». ومن أهم ما قال «سنعمل معا لدعم الشجاعة، حيث هناك خوف، لتشجيع التفاوض عندما يكون هناك صراع، وإعطاء الأمل حيث يوجد اليأس». وهو من قال أيضا عندما قرر أن يتنحى «لقد تقاعدت، ولكن إذا كان هناك أي شيء من شأنه أن يقتلني فهو أن أستيقظ في الصباح وأنا لا أدري ماذا سأفعل».

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.

د. خولة مطر