ما مشكلة التقدميين في ألمانيا مع بوتين؟
قبل غزو بوتين لأوكرانيا، كان مؤيدو المقاربة السلمية مع روسيا منتشرين في مختلف الأوساط السياسية الألمانية، لكن يحمل «الحزب الاشتراكي الديموقراطي» الذي يحكم البلد اليوم ويرأسه أولاف شولتس تاريخاً طويلاً ومتطوراً من الروابط الوثيقة مع الكرملين، بقي هذا الحزب محور قرارات السياسة الخارجية الألمانية لأكثر من عقدَين، فحَكَم البلد باعتباره شريكاً صغيراً في السلطة طوال 12 عاماً من عهد المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل الذي امتد على 16 سنة.لكن أصبح شولتس بين ليلة وضحاها السياسي الأكثر عدائية داخل «الحزب الاشتراكي الديموقراطي» في التاريخ الحديث، فألغى فجأةً مشروع «نورد ستريم 2» المثير للجدل بعدما اعترف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بجمهوريات «دونباس» الانفصالية، وبعد مرور أسبوع، أعلن شولتس ضخ 100 مليار يورو فوراً لصالح الجيش الألماني الذي يفتقر إلى التمويل، وعبّر عن نيّته زيادة الإنفاق على الدفاع لتلبية مطلب حلف الناتو بتخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي، لن تتابع ألمانيا إذاً الاستفادة من الضمانات الأمنية الأميركية بلا مقابل، بل إنها تتجه للتحول إلى واحدة من الدول التي تنفق أكبر المبالغ على القطاع العسكري. هكذا تلاشت السياسة الخارجية الألمانية المعتمدة منذ سنوات، وهو موقف صعب بالنسبة إلى «الحزب الاشتراكي الديموقراطي» تحديداً لأنه يشمل معسكراً واسعاً يؤيد السلام وأعضاءً مؤثرين وموالين لروسيا.في فبراير 2021، ألمح الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير إلى أن ألمانيا تدين لروسيا بإنهاء مشروع «نورد ستريم 2»، وكأنه يريد بذلك التكفير عن أحداث الحرب العالمية الثانية، فقال شتاينماير حينها: «لا أظن أن حرق الجسور مؤشر قوة، وقع أكثر من 20 مليون شخص من الاتحاد السوفياتي السابق ضحية تلك الحرب... لا يمكننا أن نغفل عن المشهد العام».
كانت الكتيّبات التي يوزعها «الحزب الاشتراكي الديموقراطي» على أعضائه سابقاً تشمل عروضاً مميزة للسفر إلى موسكو، وحملت رحلات جماعية شعار «افهموا روسيا وزوروا موسكو»، ونشر صحافي ألماني كان قد غطّى هذا النوع من الرحلات في عام 2016 معلومات حديثة حول مسائل صادمة سمعها في الحافلة السياحية، فزعم وزير اتحادي سابق أن الولايات المتحدة كانت تتعاون مع المنظمات الألمانية غير الحكومية لزعزعة استقرار روسيا، ووصف احتجاجات «الميدان الأوروبي» في عام 2014 في كييف بـ»الانقلاب»، وكتب صاحب المنشور أيضاً أنه لم يشارك في رحلة مع «حزب البديل من أجل ألمانيا» الموالي لبوتين صراحةً، بل كانت رحلته مع أبرز حزب تقدمي في ألمانيا، وهو الأكبر محلياً من حيث عدد الأعضاء، ولن يتساهل التاريخ مع هذه الشخصيات «التقدمية» التي تدعو حتى الآن إلى توثيق العلاقات مع الكرملين بغض النظر عما يفعله بوتين.كيف تحوّل هذا الحزب الذي وقف في وجه النازيين بكل شجاعة في عام 1933 إلى حزب مضطر اليوم للتعامل مع العلاقة الودّية السابقة التي جمعته مع أسوأ دكتاتور في القرن الحادي والعشرين؟ الجواب يكمن في برلين. يعتبر عدد كبير من أعضاء «الحزب الاشتراكي الديموقراطي» أن «سياسة الشرق الجديدة» (Ostpolitik) كانت أساسية لإسقاط جدار برلين، فلهذا السبب، حمل الحزب هذا النموذج معه إلى العلاقات الألمانية الروسية المعاصرة، وهو يحصد النتائج اليوم.لكن أجبر غزو بوتين «الحزب الاشتراكي الديموقراطي» على إعادة تقييم مقاربته، فبدأ نموذج «سياسة الشرق الجديدة» يُعتبر على نطاق واسع جزءاً من بقايا القرن العشرين، وتحاول شخصيات بارزة تقريب الحزب من الدول الأوروبية الأخرى.أدت السياسة التي اعتمدها «الحزب الاشتراكي الديموقراطي» تجاه روسيا طوال عقود إلى زيادة اتكال ألمانيا على مصادر الطاقة الروسية، لكن تحاول برلين اليوم مساعدة أوكرانيا على النضال في سبيل حريتها، ومن واجب شولتس الآن أن يصلح أكبر وأسوأ خطأ ارتكبه حزبه في أسرع وقت ممكن.* آرون غاش بيرنيت