في ظلال الدستور: الاقتراع السري على اختيار قضاة المحكمة الدستورية... محاولة للفهم (2 من 3)

نشر في 04-04-2022
آخر تحديث 04-04-2022 | 00:06
 المستشار شفيق إمام بينا في مقال أمس، تحت العنوان ذاته، كيف كان وجود محكمة التمييز طيلة نصف قرن تقريبا في تشكيل المحكمة الدستورية، عاصما من التنازع في الاختصاص والتناقض في الأحكام بين هذه المحكمة ومحكمة التمييز، الذي أحدثه الحكم الصادر من المحكمة الدستورية في الطعن الانتخابي رقم 2580 لسنة 2021.

وكيف كان تشكيل المحكمة الدستورية، كما أفصحت عن ذلك في حكم لها، يتم وفقا لضوابط العمل القضائي، من حيث الأقدميات والترتيب، منذ إنشائها عام 1973، وكيف أهدر الاقتراع بتغييب محكمة التمييز عن تشكيل المحكمة الدستورية هذه الضوابط، وأضاع إرثا من التقاليد القضائية، كان هو أساس بنيان الصرح الشامخ للقضاء، ومكانته بين الناس عبر العصور.

التقاليد القضائية

يقول د. محمد كامل عبيد، في رسالته للدكتواره (استقلال القضاء دراسة مقارنة): "تعتبر التقاليد القضائية مصدرا في غاية الأهمية لتشكيل وجدان القاضي وضميره، نبراسا يهديه إلى أسس السلوك الاجتماعي والأخلاقي في علاقاته وتصرفاته، وتوجب عليه– في أخذه بها– أن يلزم نفسه بنفسه وبمحض اختياره، في حياته الشخصية أو حياته العامة، بما لا يلتزم به الآخرون، ابتغاء الحفاظ على علاقة الثقة والاحترام التي يجب أن يحتفظ بها بين الناس".

وهو النهج الذي انتهجه أعضاء المجلس الأعلى للقضاء طوال نصف قرن تقريبا، بأن ألزموا أنفسهم وبمحض اختيارهم، بما لا يلتزم به الآخرون في اقتراع سري، لأي ولاية أو أي منصب، بأن يحافظوا في الاقتراع السري في اختيار قضاة المحكمة الدستورية على ضوابط العمل القضائي، من حيث الأقدميات والترتيب، للحفاظ على الثقة والاحترام اللذين يجب أن يحتفظوا بهما بين الناس، وهي الضوابط التي قننها حكم للمحكمة الدستورية أوردناه في مقال أمس.

مثلما حافظ القضاء الإنكليزي على الثقة والاحترام اللذين يحظى بهما بين الناس، عندما استمروا في تحديد مرتباتهم، في الشيكات على بياض التي كانت تصرف لهم، دون أي زيادة عليها إلا ما يتقرر بقواعد عامة ومجردة من زيادة مخصصاتهم في الميزانية، وذلك طيلة عقود طويلة من الزمن، دون أن يشذ عن ذلك قاض واحد.

كما حافظ قضاة فرنسا على الثقة والاحترام اللذين يجب أن يحتفظوا بهما بين الناس، عندما جلسوا على منصة قضاة مجلس الدولة الفرنسي، وبعد حلفهم اليمين بأن يحكموا بالعدل، فحكموا ببطلان مرسوم تعيينهم،، بعد إعادة تشكيل مجلس الدولة وعزل قضاته، في الطعن المقام أمامهم في هذا الشأن، وغادورا المجلس، ليعود إليه قضاته الذين عزلهم مرسوم إعادة تشكيل المجلس.

ويعيد التاريخ نفسه في الصراع غير المتكافئ بين القضاة والسلطة السياسية فتقضي محكمة النقض المصرية بإلغاء قانون بإعادة تشكيل الهيئات القضائية في أغسطس عام 1969، وقد وصمته بالانعدام، وأنه ينحدر إلى درجة العمل المادي.

إنها أمثلة هي غيض من فيض في تاريخ القضاء، ومن قضاة سجلوا بأحكامهم وقراراتهم للحق والعدل أنصع الصفحات، لتملأ فم التاريخ وتدوي في سمع الزمن شرفا لقضاة لم تلن لهم قناة ولم تضعفهم رغبة أو تثنهم رهبة.

الاقتراع بتغييب محكمة التمييز

عن تشكيل المحكمة الدستورية الأخير، الذي لم يكن اقتراعا على اختيار قضاتها من بين المستشارين الكويتيين، كما نصت على ذلك المادة الثانية من قانون إنشاء المحكمة الدستورية، بل كان اقتراعا على ركن أساسي من أركان المحكمة ذاتها، ومن أركان النظام القضائي كله، فهي محكمة القانون الوحيدة في هذا النظام، لتصحح أخطاء محكمة الاستئناف في تفسير القانون وتطبيقه في التقاضي على درجتين، الذي شرع ليصحح قضاتها ما تقع فيه محاكم الدرجة الأولى من أخطاء في هذا أو ذاك.

وفي هذا السياق، كتب محمد أنيس (باشا)، وهو أحد قضاة محكمة النقض المصرية، في أول تشكيل لها برئاسة المستشار عبدالعزيز باشا فهمي، بعد إنشائها بالمرسوم بقانون رقم 68 لسنة 1931 يقول: "لقد أدرك المشرع، في إنشاء محكمة النقض، عدم كفاية التقاضي على درجتين، لإصلاح ما تقع فيه المحاكم من أخطاء، فقد يقع قضاة الاستئناف في نفس الخطأ أو في خطأ آخر، وقد يختلف قضاة محاكم الاستئناف في نفس الخطأ أو في خطأ آخر، وقد يختلف قضاة محاكم الاستئناف في المسألة الواحدة، ومن هنا نشأت الحاجة إلى محكمة عليا هي محكمة النقض، تكون مهمتها الأولى تفسير القوانين تفسيرا صحيحا، ينير السبيل أمام سائر المحاكم، فيصان بذلك اتساق القانون ويستقر القضاء ويأمن الناس شر الاختلاف في التفسير".

وكان قد استهل مقاله، بأن القضاء بين الناس لا يقوم على عاطفة العدل التي تخالج القلب فحسب، بل يقوم أيضا على العلم بالقانون، والقانون علم واسع المدى، كثير الأحكام، متشعب النواحي، والنصوص التشريعية مهما روعيت الدقة في وضعها، والإفاضة فيها، فإنها تقتصر عن الإحاطة بجميع شؤون الحياة وما تنشئه من ظروف وتحمله من حوادث.

فلا عجب مهما بلغ القاضي من الدراية والبصر بالأمور، أن يلتبس عليه أحيانا تفسير النصوص القانونية على وجهها الصحيح، أو أن يخطئ في تطبيقها على ما يطرح أمامه من المشكلات تطبيقا سديدا (المقال منشور ص 156 و158 في اليوبيل الفضي للمحاكم الأهلية سنة 1933).

كما التبس على مستشاري الاستئناف، الذين حلوا محل مستشاري التمييز في تشكيل المحكمة الدستورية، في تفسير النصوص القانونية على وجهها الصحيح، الخاصة بتفسير الأثر المباشر للقوانين المدنية، والأثر الرجعي للقوانين الجزائية في إيقاع عقوبة الحرمان من حق الانتخاب التي استحدثها التعديل التشريعي رقم 27 لسنة 2016 سالف البيان، في الحكم الذي أصدرته المحكمة الدستورية في الطعن الانتخابي رقم 2850 لسنة 2020، فطبقت هذا التعديل التشريعي على أفعال سابقة على العمل به، أدين بها فاعلها بحكم نهائي وبات صدر على وجهه الصحيح من محكمة التمييز في الثامن من يونيو سنة 2014.

كما التبس على الحكم المذكور تفسير نص المادة (82) من قانون الجزاء، فيما نصت عليه من أنه "يجوز للمحكمة أن تأمر بوقف تنفيذ عقوبة الحبس، لمدة ثلاث سنوات"، بأن اعتبرت حقوق المحكوم عليه بإدانته في إحدى الجرائم التي استحدثها القانون رقم 27 لسنة 2016 سالف البيان، مستباحة لكل عقوبة جديدة أو تشديد في عقوبة لفعل ارتكب قبل العمل به، على خلاف التفسير الصحيح لهذا النص، الذي يجيز للمحكمة، أن تأمر بوقف تنفيذ العقوبة، إذا تبين لها من أخلاق المتهم أو ماضيه أو الظروف التي ارتكب فيها جريمته ما يحمل على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى الإجرام، فأصبح المحكوم عليه بالحبس مع إيقاف التنفيذ، أسوأ حالا من المحكوم عليه مع تنفيذ العقوبة لإيغاله في الإجرام.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

المستشار شفيق إمام

back to top