بدأت رحلة عبدالله غيث في المسرح القومي بأعمال كلاسيكية عربية ومترجمة، منها "ما وراء الأفق” للأميركي أوجين أونيل، و”حبيبتي شامينا” للكاتب رشاد رشدي، و”الخال فانيا” للروسي أنطون تشيكوف، و”الدخان” للكاتب ميخائيل رومان، و”الكراسي” للفرنسي أوجين يونسكو، و”مرتفعات وذرنج” للكاتبة الإنكليزية إميلي برونتي، و”ملك القطن” للكاتب يوسف إدريس.واستحق غيث عن جدارة لقب نجم المسرح الشعري، وارتكز في أدائه على الغوص في أعماق الشخصية، وإدراك خصوصية النص الشعري، وتناغمه مع الانفعال الدرامي، وحقّق قفزة نوعية في تجسيد الشخصية، من دون الوقوع في أسر الخطابة، وحقق نجاحاً جماهيرياً لفن مسرحي كاد يندثر.
كرّس عبدالله غيث موهبته المتميزة في المسرح، وظهر في عددٍ قليل من الأعمال السينمائية، منها "أدهم الشرقاوي” (1964)، تأليف زكريا الحجاوي وإخراج حسام الدين مصطفي، و”الحرام” (1965)، قصة يوسف إدريس وإخراج هنري بركات، و”جفت الأمطار” (1967)، تأليف وإخراج سيد عيسى، و”حكاية من بلدنا” (1969)، تأليف مجيد طوبيا وإخراج حلمي حليم.وكان لفيلم "الرسالة” العالمي (1976) وضعٌ خاص، حين وقع اختيار المنتج والمخرج السوري مصطفى العقاد على عبدالله غيث للقيام بدور حمزة بن عبدالمطلب، وتم إنتاج نسختين من الفيلم، عربية وإنكليزية، بنفس الديكور والمناظر مع تغيير في المجاميع والأبطال، وفي المقابل قام الممثل العالمي أنتوني كوين بدور حمزة في النسخة الإنكليزية، وكان كوين يقف معجباً مشدوهاً وهو يتابع أداء غيث وحينها قال: "لو كان عبدالله غيث في أوروبا أو أميركا لكان له شأن آخر”.وفي حين برع على خشبة المسرح وكذلك في الدراما التلفزيونية، فإن سبب ندرة أفلام عبدالله غيث يرجع إلى عدم استعداده لتقديم أي تنازلات، وكان يدقق في اختياره من الناحية الفنية، وظل يمارس الفن بروح الهواية، ولم يستطع أحد منافسته لاسيما في نوعية الأدوار التي يختارها، واتسعت دائرة شهرته بظهوره في الكثير من المسلسلات التلفزيونية، ولكن المسرح ظل بيته الأول، والمختبر الحقيقي لموهبته التمثيلية.
طريق الفن
وُلد عبدالله حمدي الحسيني غيث في 28 يناير 1930 بقرية "شلشلمون” في منيا القمح بمحافظة الشرقية (شمال شرقي القاهرة)، ونشأ في أسرة تمتلك مئات الأفدنة لأب يجيد الإنكليزية، ودرس الطب في لندن، ولكنه قطع دراسته بعد نشوب الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وعاد إلى مصر، ليتولى العمودية بقريته، وتزوّج وأنجب خمسة أبناء وكان عبدالله أصغرهم.ولعبت الخلفية الاجتماعية دوراً كبيراً في تكوين شخصية عبدالله غيث وحبه للفن، فوالده كان متمسكاً بقيم وتقاليد الريف المصري، وفي الوقت ذاته كان منفتحاً ومثقفاً، ويدرك أهمية وقيمة التعليم لأبنائه الخمسة، لكن غيث، لم يكن مثل إخوته مهتماً بالتعليم، فأنهى دراسته الثانوية وارتبط بالعمل في الفِلاحة، وتزوج صغيراً وعمره 18 عاماً من ابنة خالته التي رافقته طوال رحلة عمره وأنجبت له أبناءه أدهم وعبلة والحسيني.كان غيث تلميذاً شقياً يحب الهروب من المدرسة، ليذهب إلى السينما والمسارح والحفلات الصباحية، وبالكاد حصل على الإعدادية ثم الثانوية، وظل بعدها يشرف على أرضه الزراعية لمدة عشر سنوات، ثم انتقل إلى القاهرة والتحق بمعهد الفنون المسرحية بإشراف أخيه الفنان حمدي غيث الذي عمل أستاذاً بالمعهد بعد رجوعه من بعثته في باريس.عاشق الريف
التحق عبدالله بالمسرح القومي وهو لا يزال طالباً في المعهد، ولم يصادف أي مشكلة في دخوله عالم الفن، وحصل على دبلوم المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1955، ثم تتلمذ على يد شقيقه حمدي غيث وعمل بالتلفزيون، وتراكم لديه مشوار فني حافل بالعديد من المسرحيات والمسلسلات والأفلام الدينية والتاريخية التي برع في أدائها حتى كاد لا يخرج عنها حتى سنواته الأخيرة. كان غيث عاشقاً للريف، وانحصرت طموحاته في الفِلاحة والفن، ولا يجد نفسه على حقيقتها إلا في قريته وهو يرتدي الجلباب ويجلس على "المصطبة” تحت شجرة الجميز في الحقل على شاطئ الترعة بعيداً عن مظاهر وشكليات المدينة، ومكّنه ذلك من التقاط التفاصيل المميزة لشخصية الفلاح المصري، وتجسيدها ببراعة في أعماله الفنية لا سيما المسرحية.وبعد شهرته، ظل يتردد مرتين أسبوعياً على قريته، ويشارك أهله وجيرانه المناسبات الاجتماعية، ويتعرَّف على مشكلاتهم ومتاعبهم وآلامهم وأمانيهم، ولذلك منحوه الحب والثقة ورشحوه لمنصب العُمدة بعد وفاة والده وشقيقه الأكبر، وحينها أعلن موافقته المبدئية على المنصب وأضيئت منازل القرية ترحيباً بهذه الموافقة، ولكن الفن شغله عن تولي العمودية وساهم في توليتها لابن عمه.الفتى مهران
بدأ عبدالله غيث مشواره الفني الاحترافي في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وعُين في عام 1956 بالفرقة المصرية الحديثة، وسميت لاحقاً "المسرح القومي”، وفي تلك الفترة شارك بأداء أدوارٍ الصغيرة في بعض المسرحيات، منها "إيزيس”، و”ابن عز”، و”سقوط فرعون”، و”دموع إبليس”. وشكّلت تلك الأعمال نقطة انطلاقته الحقيقية، وبعدها تألق في عدد كبير من البطولات المسرحية على خشبة المسرح القومي، من أهمها "المحروسة” (1962)، تأليف سعدالدين وهبة وإخراج محمود مرسي، والمسرحية الشعرية "الفتى مهران” (1966) للكاتب عبدالرحمن الشرقاوي وإخراج كرم مطاوع.وشارك في عروض الفرق الأخرى كفرقة "مسرح الجيب” و”المسرح العالمي” و”المسرح الحديث”، وقام أيضاً ببطولة عدة مسرحيات مهمة، منها مسرحيتان للشاعر صلاح عبدالصبور، هما "الأميرة تنتظر” و”مجنون ليلى”، ورائعة الكاتب السويسري فريدريك دورينمات "زيارة السيدة العجوز” ومسرحية "أجامِمنون” للكاتب الأغريقي أسخيلوس.وتميز الفنان عبدالله غيث بحضوره الطاغي، وقسماته المعبرة عن اختلاجات ذاته، وتمتعه بقوام الفارس الرشيق، وبوجهه ذي التقاطيع المصرية الأصيلة، ونظراته العميقة النافذة التي قد تتبدل سريعاً من قمة الطيبة والتسامح والاستكانة إلى قمة الشموخ والاعتزاز بالنفس أو الغل والحقد والتهديد بالانتقام، وكذلك بصوته القوي ذي النبرات المميزة، بالإضافة إلى تميزه بأدائه المعبِّر بمخارج الألفاظ السليمة مع إجادته مهارات الإلقاء والتمثيل باللغة العربية الفصحى.زيارة السيدة العجوز
ظل المسرح هو المجال المحبب للفنان عبدالله غيث طوال حياته الفنية، ومجال إبداعه الأساسي، وقضى في العمل به كممثلٍ محترف ما يقرب من أربعين عاماً، وقدّم مجموعة من الأدوار المهمة والشخصيات الدرامية المتميزة، وبرع في تجسيدها، حتى أصبحت شخصيات خالدة درامياً، منها المناضل الثائر عمّار بمسرحية "جميلة”، والفلاح البريء عبدالحميد غزال الذي ألصقت به تهمة قتل أحد خصوم العمدة في مسرحية "المحروسة”، والقاضي في مسرحية "القضية”، والشاب المثقف المتمرد على القهر بمسرحية "الدخان”، والفلاح الوطني عبدالله الذي يقود المقاومة ضد الاحتلال الإنكليزي في مسرحية "المسامير”.وبرع غيث في تجسيد بعض الشخصيات الدرامية بالمسرح العالمي، ومن بينها عامل المناجم ألكسندر الذي حول المقاومة السلبية إلى كفاح إيجابي بمسرحية الكاتب الأميركي جون شتاينبك "ما تحت الرماد”، وهي من أوائل أدواره بالمسرح القومي، والزوج العجوز في المسرحية العبثية "الكراسي” للكاتب يوجين يونسكو، وفانيا في رائعة الأديب الروسي أنطون تشيكوف "الخال فانيا”، و”إيجست” عشيق كلمينسترا وغريم زوجها بالمسرحية التراجيدية "أجامِمنون” للمؤلف الإغريقي أسخيلوس، والملك تيزيوس زوج فيدرا في رائعة الكاتب الفرنسي راسين "فيدرا”، والملك في رائعة الكاتب وليم شكسبير "ماكبث”.وجسّد غيث شخصية "ألفريد” في رائعة الكاتب السويسري فريدريش دورينمات "زيارة السيدة العجوز”، وتعد من الأعمال المسرحية التي قدمت على الكثير من مسارح العالم، وتناولتها ألوان الدراما المختلفة برؤى معاصرة، وتتطلب من أبطالها قدرات تمثيلية هائلة، وكانت اختباراً صعباً للفنان عبد الله غيث، ولاقى العمل نجاحاً كبيراً لدى عرضه على خشبة المسرح الحديث عام 1966.وشارك أيضاً في بعض عروض "الريبرتوار” أو "إعادة العروض” بفرقة المسرح القومي، منها المسرحية الشعرية "العباسة” (1963)، للشاعر عزيز أباظة، وفي عام 1965 قدّم "صفقة مع الشيطان” مع نجوم المسرح الكويتي خالد العبيد وصقر الرشود ومنصور المنصور، ومن مصر الفنانة زهرة العُلا وإسلام فارس، ومن الأردن الفنانة أسمهان توفيق.وتعاون عبدالله غيث خلال مشواره الفني مع نخبة من كبار المخرجين الذين يمثلون أكثر من جيل، منهم أحمد علام وفتوح نشاطي ونبيل الألفي وحمدي غيث وكمال يس وسعد أردش وكرم مطاوع وجلال الشرقاوي وحسن عبدالسلام وسمير العصفوري وتوفيق عبداللطيف وفهمي الخولي وجلال توفيق وشاكر عبداللطيف والمخرج الفرنسي جان بيير لاروي والمخرج الروسي لسلي بلاتون.عالم كداب كداب
وظلت جميع مشاركات غيث المسرحية من خلال فرق مسارح الدولة فقط، ورفض عروض مسرح القطاع الخاص مهما كانت الإغراءات، واعتذر عن بطولة ثلاث مسرحيات هي "عالم كداب كداب” للكاتب علي سالم، لفرقة "ستوديو الممثل”، و”ياسين ولدي” للمؤلف فايز حلاوة لفرقة "تحية كاريوكا” في عام 1970، و”وكالة نحن معك” للكاتب نعمان عاشور لفرقة "الفنانين المتحدين” عام 1972. وتمتع عبدالله غيث بحضور محبب، وخفة ظل متناهية على خشبة المسرح، وكان قادراً على التنقل الانفعالي في موجات متلاحقة، ولكن طاقته الكوميدية ظلت كامنة، ولم يفصح عنها كاملاً في أعماله، وكان الفنان المصري الوحيد الذي رشحه عميد المسرح العربي يوسف وهبي ليخلفه على خشبة المسرح التراجيدي.وتعد مسرحية "الفخ” نموذجاً لأداءٍ رفيع، ومباراة تمثيلية بين الفنانين عبدالله غيث وصلاح منصور، ورغم أجوائها القاتمة، استطاعا أن ينتزعا الضحك من الجمهور، بأدائهما "التراجيكوميدي”، ودارت أحداثها في فصل واحد من تأليف ألفريد فرج وإخراج حسن عبدالسلام، وقد عُرضت على خشبة المسرح الحديث عام 1971، ولاقت نجاحاً جماهيرياً كبيراً.وكان "الحسين ثائراً” للكاتب عبدالرحمن الشرقاوي والمخرج كرم مطاوع، من أهم أدواره على خشبة المسرح، ولكنها لم تخرج إلى النور بسبب رفض الأزهر تجسيد شخصية الإمام الحسين، ما تسبب في إصابة عبدالله غيث باكتئاب شديد، وأسدل الستار على هذا العمل بعد ليلة عرض خاص، حيث جاء وفد من الأزهر ليشاهد العرض ويصدر حكمه، وكان الحضور بلا استثناء يبكون طوال العرض تأثراً بأداء غيث، ولكنها لم تعرض على الجمهور!وأصيب عبدالله غيث بحالة حزن شديد بسبب منعها، وحاول فريق العمل الاستجابة لكل اشتراطات الأزهر في سبيل السماح بالعرض، فاستخدموا صيغة الراوي الذي يحكي عن الحسين، ولكن الأزهر تمسك برأيه.المحطة الأخيرة
أسدل غيث الستار على مشواره مع المسرح الشعري، حين شارك الفنانة سميحة أيوب بطولة مسرحية "الوزير العاشق” (1984)، تأليف الشاعر فاروق جويدة وإخراج فهمي الخولي، وحضرت ليلة الافتتاح السيدة الراحلة جيهان السادات قرينة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، وأجهشت في البكاء حين مات "الوزير” الذي جسّد دوره ببراعة "نجم المسرح الشعري”.ولاقت المسرحية نجاحاً جماهيرياً كبيراً، وعُرضت في خمسة مهرجانات عربية: قرطاج بتونس، ومهرجان دمشق، والجزائر، وجرش بالأردن، ربيع المسرح بالمغرب، وحصلت "الوزير العاشق” على المركز الأول في هذه المهرجانات الخمسة.وداهم المرض عملاق المسرح، أثناء مشاركته في مسلسل "ذئاب الجبل” عام 1992، ولم يرغب عبدالله غيث في التردد على الأطباء أو المستشفيات، ولم تكتشف إصابته بسرطان الرئة والكبد معاً إلا في مراحلهما الأخيرة، ولم يستطع إكمال أربعة مشاهد من المسلسل، وكان وقتها يشارك في بطولة مسرحية "آه يا غجر” وتحامل على نفسه حتى انتهت المسرحية، ونقل إلى المستشفى، ورحل عن عالمنا في 13 مارس 1993، تاركاً بصمة لا تنمحي من ذاكرة المسرح العربي.مسيرة حافلة بالجوائز والتكريمات
نال عبدالله غيث، العديد من الجوائز والتكريمات داخل مصر وفي معظم الدول العربية، وحظي بشهرة واسعة، وفي بداية مشواره الفني حصل على جائزة أفضل ممثل من التلفزيون عام 1963، كما حصد جائزة عن مشاركته في فيلم "ثمن الحرية” عام 1964، وحصل على شهادة تقدير من الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات عام 1976، وعلى درع دولة الإمارات المتحدة عام 1983، وجائزة خاصة عن مشاركته سيدة المسرح العربي سميحة أيوب بطولة مسرحية "الوزير العاشق”، وكذلك كُرِّم في اليوبيل الذهبي للمسرح القومي عام 1986.وحصل غيث على تكريمات عديدة بعد رحيله، منها "اليوبيل الماسي” للمسرح القومي، كما كُرِّم اسمه أيضاً في الدورة الخامسة من "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي” عام 1993، وكرمت اسمه أكاديمية الفنون المصرية مع نخبة من كبار الفنانين عام 2018.