فرسان المسرح العربي
سعد أردش... أستاذ الإخراج الملحمي
حفلت مسيرة الفنان المصري سعد أردش، بعطاء مسرحي متفرد، ويعد من رواد الإخراج الملحمي في حقبة الستينيات من القرن الماضي، وعلى مدى 50 عاماً قدَّم الكثير من روائع النصوص العربية والعالمية، وقام بالتدريس في المعاهد الفنية، وتتلمذت على يديه أجيال من نجوم المسرح العربي، وله العديد من المؤلفات والكتب المترجمة، ورحل عن عالمنا في 13 يونيو 2008.
قدّم الفنان سعد أردش نحو 52 مسرحية منها: “الأرض” للكاتب عبدالرحمن الشرقاوي، و”السبنسة” و”المسامير” تأليف سعدالدين وهبة، و”الإنسان الطيب” للألماني برتولد بريخت، و”غراميات عطوة أبو مطوة” للكاتب ألفريد فرج.وأخرج أردش لمسرح القطاع الخاص كوميديا “هاللو شلبي” عام 1969 تأليف يوسف عوف، وبطولة عبدالمنعم مدبولي وسعيد صالح ومديحة كامل ونظيم شعراوي وعبدالله فرغلي، وتدور حول مؤلف شاب يسافر إلى القاهرة، ويحلم بتقديم روايته على خشبة المسرح، ويلتقي بأفراد فرقة مسرحية تعاني أزمات مالية، وتتصاعد الأحداث في إطار كوميدي.وخلال مسيرته، اكتشف عدداً كبيراً من نجوم السينما والمسرح المصري، وكانت “هاللو شلبي” بوابة لعبور العديد من المواهب التي أصبح أصحابها نجومًا فيما بعد، منهم أحمد زكي ومحمد صبحي، وشهدت أول بطولة مسرحية للفنان سعيد صالح والفنانة مديحة كامل، وحققت المسرحية نجاحًا جماهيريًا كبيرًا.
«الناس اللي تحت»
وُلد سعد أردش في 16 يونيو 1924 بمحافظة دمياط (شمال شرقي القاهرة)، وظهرت موهبته في المدرسة الابتدائية بمدينة فارسكور، وازداد تعلقه بالمسرح في المرحلة الثانوية، وبعد حصوله على شهادة التوجيهية عام 1942، عمل كاتبًا بِورش السكك الحديدية مدة عامين، ثم التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية إلى جانب دراسته في كلية الحقوق بجامعة عين شمس في القاهرة، وحصل على بكالوريوس المعهد عام 1952، وليسانس الحقوق 1955، ولاحقًا على دبلوم الإخراج، وأكمل دراساته العُليا بالأكاديمية الدولية للمسرح في روما عام.1961 وبدأ أردش رحلته مع الفن عندما كان موظفًا بالسكك الحديدية، وقدّم عروضًا مسرحية للهواة، وكوَّن فرقة حُرة مع الكاتب المسرحي نعمان عاشور، وقدما في عام 1957 أشهر أعمالهما “الناس اللي تحت” قبل سفره إلى إيطاليا، ولعب أردش دور البطولة مع صلاح منصور وعبدالمنعم مدبولي وناهد سمير، وأخرج العرض كمال ياسين.و”الناس اللي تحت” دراما اجتماعية، تتناول سكان حجرات “بدروم” في أحد أحياء القاهرة، فهناك الكمساري وابنته، والفنان الشاب الذي يستأجر حجرة بالبدروم في مستهل حياته، وهناك الثري العجوز الذي تعرض لأزمة مالية، وتدور بينهما علاقات متشابكة، ويبحثون عن خلاص من واقعهم المأزوم.وخاض تجربة التمثيل في أعمال مسرحية قليلة، وتميز بصوته الرخيم وأدائه المتمكن من تجسيد أبعاد الشخصيات، وشارك في بطولة بعض المسلسلات الدرامية منها “ميرامار” للكاتب نجيب محفوظ و”لا تطفئ الشمس” للكاتب إحسان عبدالقدوس. كما أدى بعض الأدوار في عدد من الأفلام السينمائية منها “ظهور الإسلام” إخراج إبراهيم عز الدين، و”الاختيار” للمخرج يوسف شاهين، وآخر أفلامه “الحجر الداير” (1992).«لعبة النهاية»
أسس سعد أردش بعد عودته مسرح الجيب، وقدّم عليه في أول مواسمه عام 1962 مسرحية “لعبة النهاية” من إخراجه وتأليف الكاتب الأيرلندي صمويل بيكيت، والتي وصفها الناقد الأدبي هارولد بلوم بأنها أعظم دراما نثرية في القرن العشرين.وتعد “لعبة النهاية” أول مسرحية عبثية تم تقديمها في مصر، وتتكوَّن من فصلٍ واحد، ويقوم بالأدوار أربعة أشخاص ينتظرون نهاية غير محددة، ولا رابط بينهم سوى الانتظار في واقع مأساوي.وفي تلك الفترة كان مسكونًا بالتجريب، وطامحًا إلى نقل المدارس الحديثة إلى المتفرج العربي، لكنه قام بإخراج أعمال قليلة من مدرسة اللامعقول (العبث) وانتصر للمسرح الواقعي، وأحدث تفاعلا مهمّاً مع المتلقي، وطرح قضايا المجتمع المصري منذ الستينيات وحتى ثلاثة عقود لاحقة.وتصدى أردش لإخراج مسرحية “يا طالع الشجرة” عام 1962 للكاتب توفيق الحكيم، بمضمونها العبثي، والمستمد من المقولة الشعبية “يا طالع الشجرة هات لي معاك بقرة”، وتتناول فكرة التعايش بين زوجين غير متفاهمين، فالزوج (أدى دوره الفنان صلاح منصور) رمز الفنان المشغول بكتاباته، والزوجة (الفنانة نجمة إبراهيم) مشغولة بثمرة الحياة التي أجهضتها قبل الأوان، ولا سبيل إلى الالتقاء بينهما، وكلاهما مشغول عن الآخر في عالمه الخاص.وتناغم أردش مع الفكرة الذهنية التي صاغها الحكيم، وقدما عرضًا مسرحيًا يحمل خصوصية الواقع المصري، وينأى عن التغريب في هذه النوعية من النصوص، واستقطابها لعدد محدود من الجمهور، وكان من الطبيعي أن تُعرض في مسرح الجيب المعروف بدوره في تقديم أحدث التجارب والمدارس المسرحية.«سكة السلامة»
كانت تجربة سعد أردش المسرحية بالغة الثراء والتنوع، وقدّم روائع التراثين العربي والعالمي، وتنقل بين أزمنة مختلفة، وأخرج مسرحية “أنتيجون” للكاتب الإغريقي سوفوكليس وترجمة طه حسين، ومسرحية “الذباب” للفرنسي جان بول سارتر، و”كاليجولا” لألبير كامو و”البرجوازي” للفرنسي موليير، و”النار والزيتون” و”الزير سالم” لألفريد فرج.وتعد “سكة السلامة” للكاتب سعدالدين وهبة من أهم أعماله المسرحية، وارتكز أردش في إخراجها على تعرية سلبيات المجتمع في تلك الفترة، وقدمها على خشبة المسرح القومي عام 1964، وشارك في بطولتها عدد كبير من النجوم منهم سميحة أيوب وشفيق نور الدين وعبدالمنعم إبراهيم ومحمد السبع ورجاء حسين ومحمود عزمي وعبدالسلام محمد وفؤاد شفيق وحسن البارودي وأحمد الجزيري. وتدور المسرحية حول حافلة تتعطل في الصحراء، ويواجه ركابُها مصيراً مجهولاً، وعندما يوشكون على الموت جوعًا وعطشًا، يعلن كل منهم توبته عن أخطائه، ويقرر اﻹصلاح من نفسه، ولكن مواقفهم تتغير بعد النجاة، ويرتدون إلى سابق عهدهم.وحققت المسرحية نجاحًا جماهيريًا كبيرًا، وصارت من أدبيات المسرح المصري، وبعد سنوات استلهم أحداثها الكاتب لينين الرملي في سيناريو فيلم “البداية” (1986) للمخرج صلاح أبوسيف، وأعاد الفنان محمد صبحي تقديمها عام 2000.«دائرة الطباشير القوقازية»
جمع أردش في دراسته بين الفن والقانون، وعاد من بعثته أوائل الستينيات محملًا بأفكار المسرحي الألماني برتولد بريخت ونظريته الملحمية في كسر الإيهام أو ما يُعرف بـ”تحطيم الجدار الرائع بين الممثل والمتفرج”.واعتقد سعد أن منهج بريخت صالح للتطبيق في كل زمان ومكان، وتتركز أهميته في أنه المنهج والأداء الوحيد في الدراما الذي يحقق وظيفة التنوير على أكمل وجه، فهو يسعى إلى العدل الاجتماعي، ومسرحه فرض نفسه متأخرًا، وقد أخرج له المسرحية التعليمية “القاعدة والاستثناء” عام 1962 في مسرح الجيب.وللمرة الأولى على خشبة المسرح العربي، قدّم أردش مسرحية “دائرة الطباشير القوقازية” مع المخرج الألماني كورت فيت أحد تلامذة بريخت، وبطولة سميحة أيوب وصلاح قابيل وتوفيق الدقن وشفيق نور الدين وحمزة الشيمي.ويعد هذا العمل نقلة نوعية في المسرح العربي، وكتبها بريخت في إطار ملحمي يعتمد على التفاعل المباشر بين الممثل والجمهور، وتحكي المسرحية عن ملكة تتخلى عن طفلها الرضيع، وتتركه في رعاية الخادمة الصغيرة، حتى عادت وطالبت باسترداد ابنها لكن الخادمة تتمسك به، وعندما يقع القاضي في حيرة من أمره يصنع دائرة من الطباشير، ويضع بداخلها الصغير ويطلب من كلتيهما أن تجذبه لخارج الدائرة تنجح الملكة في جذبه وانتزاعه من يد الخادمة الحانية فيحكم القاضي للخادمة، لأنها أكثر حنانًا على الطفل من أمه.وقد تأثر أردش بالمسرح البريختي إلى أبعد الحدود، وإن كان لم يخفِ إعجابه بالإغريقي سوفوكليس، والروسي أنطون تشيكوف، وتوفيق الحكيم، وجان بول سارتر، والإيطالي بيراندللو، والسويسري دورينمات ونعمان عاشور، وسعدالدين وهبة، وألفريد فرج، ويوسف إدريس، وغيرهم من عمالقة التأليف المسرحي.واستطاع أن يُحدث ثورة فنية عمّا كان متعارفًا عليه وسائدًا في الأداء المسرحي في التمثيل بالصوت وحركة اليدين الافتعاليّة والانفعال المفتعل أو العمل الارتجالي الذي كان سائدًا على خشبة المسرح منذ الثلاثينيات وحتى الخمسينيات من القرن الماضي، ولكنه أضاف إلى الممثل طاقة إبداعية ليصبح الأداء التلقائي الصادق والصوت الداخلي هو الأساس في الأداء.وظل أردش مخلصًا لنظرية بريخت طيلة مشواره المسرحي، وفي عام 1966 قدّم مسرحية “الإنسان الطيب” وشارك في بطولتها سميحة أيوب وعزت العلايلي وحسن شفيق وحسين الشربيني وفاروق نجيب، وكانت آخر مسرحية قدمها للمسرح القومي “الشبكة” عام 2007، وهي عن نص بريخت “قيام وسقوط مدينة ماهوجني” وأخرجها أردش رغم مرضه، ورحل بعدها بأشهر قليلة. واللافت أن الفنانة سميحة أيوب تعاونت مع سعد أردش في أعماله البريختية، وقام بترجمة وإعداد “الشبكة” الكاتب المصري يسري خميس، وارتكز أردش في إخراجها على كسر الإيهام، وإشراك الجمهور في العرض، وإبراز المضمون البريختي في رفض سلبيات المجتمع الفوضوي، بل استشرف خلالها مثالب العولمة.ودارت أحداث “الشبكة” في مدينة افتراضية اسمها “ماهوجني” التي أسسها بعيدًا عن أعين الشرطة لصوص ومحتالون تتزعمهم امرأة، ويفد إليها الخارجون عن القانون، ويتساقطون واحدًا تلو الآخر بعد أن عصفت بهم خطاياهم، وتحترق المدينة بكل ما فيها من قيم بالية.«الحفلة التنكرية»
خرجت من عباءة الفنان سعد أردش مجموعة من الأجيال المسرحية التي أثرت الفن المسرحي من خلال محاضراته التي كان يلقيها وأيضًا مدرسته الإخراجية العريقة التي بدأت منذ مرحلة الستينيات وحتى فترة قصيرة قبل وفاته.واهتم أردش بالتنظير المسرحي، وقدّم كتابه القيم “المُخرج في المسرح المعاصر” (1979)، ويعد من أهم المراجع الأكاديمية حتى أن معهد الفنون المسرحية يقوم بتدريس جزء كبير منه ضمن مادة مناهج الإخراج التي يدرسها طلبة المعهد.كما انشغل بمجالي التأليف والترجمات، وله العديد من المؤلفات المهمة منها كتاب “المسرح الإيطالي” الصادر عام 1965، بالإضافة إلى عشرات البحوث والدراسات العلمية في الحركة المسرحية المنشورة في المجلات المتخصصة في الثقافة المسرحية في مصر والعالم العربي.وفي مجال الترجمة، ترجم أعمالًا مسرحية إيطالية منها “خادم سيدين” و”ثلاثية المصيف” للكاتب الإيطالي كارلو جولديني، و”جريمة في جزيرة الماعز” و”انحراف في قصر العدالة” لأوجوبتي، و”الحفلة التنكرية” لألبرتو مورافيا، و”بياتريس” لتشنشي، ويتضح من ترجمته لتلك الأعمال تأثره بالمسرح الإيطالي.وكان لدى أردش قناعة بأن المعاهد لا تخرج فنانًا، وإنما تلتقط الموهبة لتضعها في إطار العلم، ومن الدراسة ومن الإلمام بالتقنيات العلمية يمكن أن نتزود بكثير من العلوم والآداب اللازمة لفهم المهنة ووظيفتها وطرق ممارستها، وإن المعاهد تعد الفنان أو تنمي فيه الموهبة وتربيها وتمدها بالعلوم والتقنيات اللازمة، ونجحت من خلال مئات من كوادر الشباب في بناء قاعدة علمية للمسرح العربي.وظل طموح الفنان سعد أردش بلا ضفاف، ويحلم بنهضة مسرحية عارمة، وأن يرى فنه مزدهرًا وغير معارض، وكانت تلك أمنيته خلال مسيرته الطويلة مع “أبو الفنون”، وأن تكون أيضًا أمنية العاملين في هذا المجال كافة، وأن يتخلص المسرح العربي من عوائقه.كما كان يحلم أيضاً بأن يعود المسرح إلى عصره الإغريقي في ازدهار النشاط المسرحي، وأن تهتم المؤسسات الثقافية بالمسرح ودوره التنويري في نشر الوعي الثقافي مثل المدرسة والجامعة، وأن يصبح واجبًا وطنيًا على كل مواطن أن يشاهد المسرح.وامتدت رحلة الفنان صاحب العطاء المسرحي المتفرد، وقد تزوج من الفنانة التشكيلية نادية يوسف خفاجي في إيطاليا عام 1959، وله من الأبناء ثلاثة (هالة وفريدة ومحمد) ورحل في 13 يونيو 2008 أثناء رحلة علاج بالولايات المتحدة عن عمر ناهز 84 عامًا.مناصب وجوائز
نال سعد أردش العديد من المناصب خلال مسيرته الإبداعية، منها عمله رقيبًا على المصنفات الفنية من 1952 إلى 1955، وفي العام نفسه مديرًا لمصلحة الفنون، وأصبح مديرًا لمسرح الجيب عام 1961، ومسرح الحكيم (1966) والمسرح القومي (1970)، ورئيس البيت الفني للمسرح والمجلس الأعلى لقطاع المسرح عام 1984.وعمل أردش أستاذًا ورئيسا لقسم التمثيل والإخراج بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ورئيس مجلس إدارة مجلة المسرح عام 1984، كما رأس مهرجان القاهرة التجريبي في دورته الأولى (1988).وكان سعد ممثلا ومخرجًا وأستاذًا جامعيًا وإداريًا ناجحًا، وعمل مدرسًا للتمثيل والإخراج في المعاهد الفنية في القاهرة والجزائر وأخيرًا الكويت، بالإضافة إلى تاريخه الكبير في مجال الترجمة.ونال الفنان الراحل العديد من الجوائز والأوسمة، منها وسام العلوم والفنون (1967)، وجائزة الدولة التقديرية من المجلس الأعلى للثقافة (1990)، وجائزة مهرجان قرطاج (1991)، وحصل على عدة جوائز وتكريمات من عواصم عربية عدة، كان آخرها جائزة الشارقة المسرحية عام 2007.أحمد الجمَّال
موظف السكة الحديد يطير إلى روما لدراسة الإخراج المسرحي
كوَّن مع الكاتب نعمان عاشور ثنائياً فريداً في مسرح الستينيات
أسس «مسرح الجيب» للانفتاح على روائع المسرح العالمي
سميحة أيوب بطلة معظم مسرحياته مع برتولد بريخت
كوَّن مع الكاتب نعمان عاشور ثنائياً فريداً في مسرح الستينيات
أسس «مسرح الجيب» للانفتاح على روائع المسرح العالمي
سميحة أيوب بطلة معظم مسرحياته مع برتولد بريخت