قد يتبين أن القرار الذي اتخذه المبعوث الروسي لشؤون المناخ أناتولي تشوبايس قبل أيام بالاستقالة من الحكومة ومغادرة روسيا قرارا بالغ الأهمية، ومن خلال إعادة فتح نافذة على التاريخ الروسي الحديث، يمكن أن يعمل رحيل تشوبايس على تنظيم استراتيجية «كليبتو كابتشر» التي يتبناها الغرب، والتي تهدف إلى تجميد أصول نحو اثني عشر عضوا من أعضاء «حكومة الأقلية» الروسية الذين يُعتبرون من «أتباع نظام بوتين»، لكن يمكن لمغادرته أن تفعل أكثر من ذلك بكثير.

يُشكل تشوبايس مثالا حيا لكيفية توزيع ثروة البلاد، حيث كان مسؤولا عن برنامج الخصخصة المُكثفة في روسيا في عهد الرئيس بوريس يلتسين في التسعينيات، كما كان من أوائل مُشجعي فلاديمير بوتين باعتباره خليفة مؤهل ليلتسين، وعلى الرغم من أن تشوبايس ظل منذ فترة طويلة خارج دائرة بوتين الداخلية، فقد يكون قادرا على قيادة الغرب إلى أموال الرئيس، إذا كان يشعر بالأمان الكافي للتحدث.

Ad

إن فرض عقوبات على «أتباع» بوتين تبدو فكرة جيدة، لكن تشوبايس يُدرك جيدا أن استراتيجية «كليبتو كابتشر»، كما هو مُتصور حاليا، ربما تكون مبالغا فيها، فقد أصبح الأشخاص القلائل المستهدفين أغنياء في عهد يلتسين، لكنهم وجدوا أنفسهم في نهاية المطاف على خلاف مع بوتين وغادروا روسيا، أو ظلوا هناك حسب رغبته، إنهم يمتلكون ما يسمح لهم بوتين بامتلاكه طالما أنهم لا يعترضون طريقه، ولديهم نفوذ ضئيل عليه، فالمطلعون على الأمور في الكرملين اليوم هم من جواسيس الحقبة السوفياتية و «مديرون حمر» يسيطرون على معظم آلاف الشركات التي خُصخصت بين عامي 1992 و1996.

في ذلك الوقت، كان أعضاء حكومة الأقلية المستهدفون الآن بالعقوبات هم المصرفيون الذين أقرضوا 800 مليون دولار للحكومة الروسية مقابل أسهم الأقليات في 12 شركة كبرى للنفط والمعادن، وتم تصميم هذا المُخطط لمساعدة يلتسين في سد العجز الضخم في الميزانية وتجنب التضخم المفرط قبل انتخابات عام 1996، والتي كان من المتوقع أن يخسرها أمام منافسه الشيوعي جينادي زيوغانوف، وفي حال عدم قيام الحكومة بتسديد القروض مباشرة بعد الانتخابات، يمكن للدائنين طرح الأسهم المرهونة للبيع بالمزاد، وبالتالي تعزيز الخصخصة، بغض النظر عمن يفوز في الانتخابات.

وعلى الرغم من إعادة انتخاب يلتسين على نحو غير مُتوقع، فإن الدولة تخلفت عن سداد هذه القروض، ربما بشكل مُتعمد، لمكافأة المصرفيين على مساعدتهم، وقد تم «بيع» حصص الملكية، التي كانت تُقدر قيمتها آنذاك بما يتراوح بين 1.5 و2 مليار دولار، في مزادات وهمية في الغالب للمقرضين، مما أدى إلى تحويل العديد من المُمولين الشباب إلى أعضاء في حكومة الأقلية.

وبصفتي مستشارا لتشوبايس وفريقه في ذلك الوقت، جادلتُ بأن مزادات «القروض مقابل الأسهم» أفسدت عملية الخصخصة وأعطت الانطباع بأن يلتسين كان يتعمد إثراء مجموعة صغيرة من كبار رجال الأعمال من خلال البيع الفعلي للأسهم المهمة بأسعار زهيدة، وقد اعترف تشوبايس لاحقا بأن المخطط كان «رأسمالية قطاع الطرق»، ولكنه كان ضروريا لتجنب العودة إلى «شيوعية العصابات».

اكتسبت مزادات القروض مقابل الأسهم أهمية أسطورية في تاريخ الخصخصة الروسية، مُتجاوزة بذلك الخصخصة المُكثفة لآلاف الشركات الأخرى التي أشرف عليها تشوبايس، وقد تبين أن المأساة الحقيقية بالنسبة إلى روسيا كانت ترقية تشوبايس لبوتين، الذي سارع إلى إعادة تأكيد سيطرته على الشركات لمصلحته الخاصة.

وفي عام 1999، استقال يلتسين المريض قبل نهاية فترة ولايته الثانية، ثم قام بتعيين بوتين، الرئيس السابق لجهاز الأمن الفدرالي (خلَف جهاز المخابرات السوفياتي) والذي كان قد اكتسب في وقت سابق سمعة جيدة باعتباره إصلاحيا مؤهلا عندما عمل كنائب لرئيس بلدية سانت بطرسبورغ، وقد أيدت الأسواق المالية على نطاق واسع اختيار يلتسين، والذي أشاد به تشوبايس نفسه باعتباره «قرارا رائعا وبالغ الدقة والعمق وشجاعا للغاية، بغض النظر عن أي شيء آخر».

وعند تولي بوتين منصب الرئيس وعد بأن الدولة ستحمي بشكل موثوق «حرية التعبير، وحرية الضمير، وحرية الصحافة، والحق في الملكية الخاصة»، والتي تُشكل مبادئ أساسية لمجتمع مُتحضر، لقد دعم بوتين بالفعل إصلاحات السوق لفترة من الوقت، شريطة أن يظل أعضاء حكومة الأقلية خارج السياسة وأن يتقاسموا الفوائد الاقتصادية معه ومع رفاقه في الجهاز الأمني، ولكن عندما أعرب ميخائيل خودوركوفسكي- مؤسس بنك ميناتيب الذي سيطر على شركة النفط «يوكوس» بموجب مزادات القروض مقابل الأسهم- عن طموحاته السياسية، سُجن لما يقرب من عقد من الزمان، ثم أُعيد تأميم أصول شركة يوكوس.

انقلب بوتين أيضا ضد بوريس بيريزوفسكي، وهو صديق آخر ليلتسين، الذي يُعتقد أنه أدى دورا رئيسا في إقناع يلتسين باختيار بوتين خلفا له، وقام بنفي بيل براودر، وهو مستثمر أميركي ناجح «ناشط بناء» مقيم في موسكو والذي تولى إدارة شركات روسية كبرى، وفي وقت لاحق، تم إلقاء القبض على سيرجي ماغنيتسكي محامي ضرائب براودر، وتوفي في السجن في عام 2009، فمنذ ذلك الحين كرس براودر كل جهوده لتحقيق العدالة لماغنيتسكي.

فقد حقق العديد من أعضاء حكومة الأقلية الروسية ثرواتهم على هامش برنامج الخصخصة الروسي المُتعثر، فالبعض، مثل قطب تجارة المعادن أوليج ديريباسكا، ظلوا في روسيا، حيث كانوا يمارسون نفوذا ضئيلا في الداخل أثناء الاستثمار في العقارات في الخارج، وقد احتفظ آخرون، مثل المصرفيين ميخائيل فريدمان وبيتر أفين، بشركاتهم الروسية، لكن ربما اضطروا إلى تقاسم ممتلكاتهم أو ثرواتهم مع بوتين و«مسؤولين» حكوميين آخرين، وقد حصل الثلاثة على جوازات سفر أجنبية، فأولئك الذين عارضوا بوتين علانية مثل بيريزوفسكي، ماتوا في ظروف غامضة، كما حدث مع المعارضين السياسيين النشطين مثل بوريس نيمتسوف، الذي اغتيل خارج الكرملين في عام 2015.

كان بعض رجال الأعمال الذين أسسوا شركاتهم من الصفر يتمتعون ببعد نظر إزاء بيع هذه الشركات ومغادرة روسيا عندما وصل بوتين إلى السلطة، فقد أسس فلاديمير جوسينسكي- أول صديق لي من رجال الأعمال الروس في عام 1989- محطة «إن تي في»، وهي أول شركة إعلامية مستقلة في روسيا، ولكن في عام 2001، باعها لشركة غازبروم التي تملكها الدولة وهاجر، واليوم تُعد محطة «إن تي في» واحدة من أهم محطات بوتين التلفزيونية.

سواء حققوا ثرواتهم الخاصة أو أصبحوا مستفيدين ماكرين من رأسمالية يلتسين الفاسدة، يُظهر معظم هؤلاء الروس الأغنياء الذين يمتلكون أصولا في الخارج بوضوح رغبة مشتركة في كسب القبول الاجتماعي خارج روسيا، وقد قام كثيرون باستثمارات كبيرة في أوروبا والولايات المتحدة، حيث أصبحوا نجوما لامعة في سماء المتاحف والمؤسسات الخيرية وغيرها من المؤسسات الثقافية.

لا يبدو أن أيا من هؤلاء الرجال له تأثير على بوتين، ناهيك عن السيطرة عليه، بل على العكس من ذلك، فهو الذي يشكل تهديدا مستمرا لثرواتهم وسلامتهم، وبدلا من تشويه سمعتهم ومعاقبتهم، قد يكسب القادة الغربيون المزيد من خلال جعلهم- وتشوبايس، راعيهم السابق- مرتاحين بدرجة كافية لمشاركة كل ما قد يعرفونه عن المكان الذي يمكن أن توجد فيه أموال بوتين حقا.

* الرئيس التنفيذي السابق لشركة «Xerion Investments»، ومستشار للبنك الدولي والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية لأناتولي تشوبايس في برنامج الخصخصة الروسي.

* دانيال جيه أربيس

Project Syndicate