قبل 24 فبراير، حين أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قراره المصيري بمهاجمة أوكرانيا، بدا هدف السياسة الأميركية الأساسي خلال هذه الأزمة المتفاقمة واضحاً، فحاولت واشنطن منع الغزو عبر رفع تكاليف أي عملية عسكرية قد يطلقها بوتين، وهددت بفرض عقوبات اقتصادية في معظمها إذا قررت موسكو تنفيذ العملية، لكن نظام الردع فشل بكل وضوح. اجتاحت روسيا أوكرانيا وقتلت قواتها العسكرية آلاف المدنيين ودمّرت مدناً عدة منذ ذلك الحين، واتخذ الأميركيون وحلفاؤهم وشركاؤهم خطوات جارفة رداً على العدوان الروسي ففرضوا عقوبات غير مسبوقة، مثل تجميد احتياطيات البنك المركزي وتسليم معدات بقيمة مئات ملايين الدولارات لدعم الجيش الأوكراني، لكن يبدو أن الحاجة المُلحّة إلى مجابهة بوتين طغت على أهمية تحديد الأهداف الأميركية المناسبة وأفضل الطرق لتحقيقها.لا مفر من تصاعد مشاعر السخط أمام أهوال الحرب، بما في ذلك تدمير مدن كبرى مثل "خاركيف" و«ماريوبول"، وتهجير ملايين الناس، وسقوط عدد هائل من المدنيين، يعكس تعليق الرئيس الأميركي جو بايدن في وارسو، يوم السبت الماضي، حول استحالة أن يبقى بوتين في السلطة فكرة شائعة تدعو إلى إعطاء الأولوية لمعاقبة بوتين أو حتى السعي إلى إسقاطه (مع أن البيت الأبيض أنكر أن يكون هذا الهدف جزءاً من السياسة الأميركية)، لكن يجب أن تحذر واشنطن من مخاطر التلويح بتغيير النظام، فقد يوحي هذا الهدف للوهلة الأولى بطرح حل عادل وفاعل، لكن تثبت التجارب الأميركية في العراق وليبيا وأماكن أخرى أن تحقيق النتائج المنشودة شبه مستحيل.
يجب أن يتعامل صانعو السياسة في واشنطن مع نوعَين مختلفين من الأهداف، فعلى المدى القريب، تُركّز الأولويات الأميركية على منع بوتين من تحقيق أي انتصار في ساحة المعركة، وتجنب تصعيد الصراع، والحد من الخسائر الإنسانية والاقتصادية، وعلى المدى الطويل، تريد الولايات المتحدة أن توجّه التحركات الروسية بطريقة تضمن تقليص المخاطر المطروحة على المصالح الأميركية الجيوسياسية والاستقرار الدولي وتمنع وقوع أي صراع إقليمي مستقبلي.تتعلق أكبر التحديات اليوم بتراجع احتمال أن تغلب المقاومة الأوكرانية الشُجاعة التفوق العسكري الروسي، حتى لو زادت الضغوط الغربية على موسكو بدرجة غير مسبوقة، فلا يمكن التكلم إذاً عن إسقاط بوتين، ومن دون عقد صفقة معيّنة مع الكرملين، تقتصر أفضل النتائج المتوقعة على خوض حرب طويلة وشاقة ستفوز بها روسيا في جميع الأحوال، فهذا الصراع المطوّل قد يؤجّج مستويات العدائية بين روسيا والغرب، مما يعني إضعاف المصالح الأميركية في الاستقرار الإقليمي والعالمي على المدى الطويل.يصعب تحقيق الأهداف الأميركية على المدى القصير والطويل إذا استمرت الحرب لأشهر إضافية، حتى أن هذه المهمة تبدو مستحيلة، وقد يكون التوصل إلى تسوية مع بوتين بعد المجازر التي ارتكبها أمراً بغيضاً، لكن يجب أن تسعى الولايات المتحدة إلى حل الصراع عبر التفاوض على تسوية مناسبة عاجلاً لا آجلاً.اعتبر بعض المراقبين الحرب المطوّلة فرصة لإضعاف روسيا بدرجة كبيرة وتفكيك نظام بوتين، لكن سبق أن أساء بوتين شخصياً إلى قوة بلده وامتيازاته وفرصه الاقتصادية، فقد تُمعن الحرب الطويلة في أوكرانيا بتهميش البلد وتسريع تراجعه، فتتحول روسيا إلى نسخة مضخّمة من كوريا الشمالية، مما يُهدد ثلاثة أهداف أميركية أساسية على المدى الطويل. أولاً، من مصلحة واشنطن أن يسود سلام دائم واستقرار طويل الأمد في أوكرانيا ومحيط روسيا بعد انتهاء الحرب لتخفيض احتمال أن يندلع صراع آخر من هذا النوع مستقبلاً، بالإضافة إلى حملة المساعدات الإنسانية والاقتصادية المكثفة لتجديد استقرار أوكرانيا، يتطلب هذا الهدف مشاورات لاحقة مع جميع الأطراف المعنية (روسيا والدول الأخرى المجاورة لها، أوكرانيا، الغرب). يجب أن تهدف هذه المحادثات إلى الاتفاق على خريطة طريق لتقليص احتمال وقوع حرب مستقبلية تشمل روسيا وجيرانها، وستكون هذه العملية طويلة ومشابهة للمحادثات التي أنتجت "قانون هلسنكي النهائي"، أي الاتفاق الأوروبي الذي غطّى مجموعة واسعة من المسائل الأمنية والإنسانية في عام 1975، فقد كشفت الحرب في أوكرانيا أن المنافسة على النفوذ في هذه المنطقة خرجت عن السيطرة، وقد تتكرر نسخة من الحرب الأوكرانية مثلاً في جورجيا أو بيلاروسيا (إذا حاول زعيم بيلاروسي مستقبلي إبعاد بلده عن روسيا التي بدأت تُضيّق الخناق على البلد)، إلا إذا طُرِحت هندسة أمنية لإدارة المنافسة الجيوسياسية وتشجيع الجميع على حل الخلافات سلمياً. لا يعني هذا النوع من الاتفاقيات حصول انفراج جديد في العلاقات أو قطع الروابط المتوترة والعدائية أحياناً مع روسيا، بل إنه يضمن حداً أدنى من الاستقرار بين الخصوم.ثانياً، يجب أن يحاسب الأميركيون وحلفاؤهم روسيا على الحرب التي أطلقتها، لكن من الضروري ألا يحوّلوا البلد إلى دولة متعثرة أو جهة تخريبية غير قابلة للإصلاح أو الاثنين معاً، ولن يكون إيجاد التوازن المناسب بين المهمتَين سهلاً بأي شكل. سيبقى جزء من العقوبات والتدابير الأخرى المفروضة على روسيا بسبب عدائيتها قائماً على الأرجح. لكن قد تؤدي أي صدمة اقتصادية حادة بما يكفي إلى زعزعة استقرار البلد، فيتكرر سيناريو التسعينيات الكارثي حيث أصبحت روسيا في حالة من الفوضى. في تلك الحقبة، استنتجت الولايات المتحدة أن روسيا الضعيفة التي تعجز عن السيطرة على أراضيها وترسانتها النووية الكبيرة قد تطرح خطراً هائلاً على الأمن القومي الأميركي، حتى أن الاضطرابات المستمرة في روسيا قد تدمّر اقتصاد مجموعة من الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى لأنها لا تزال تتّكل بشدة على التحويلات المالية من روسيا وروابطها الاقتصادية الأخرى مع موسكو.وحتى لو لم تتحول روسيا إلى دولة متعثرة اقتصادياً، يرتفع احتمال أن تصبح دولة مارقة، لقد أثبتت موسكو ميولها الفاسدة قبل الحرب، حين قررت ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 وتدخّلت في الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016، فإذا تلاشت جميع الحوافز التي تدعوها إلى تبنّي مقاربة معتدلة، فقد تصبح هذه الميول المعيار الجديد في مقاربتها، وإذا بدأت روسيا تتصرف وكأنها مُخرّبة دولية عدائية، على طريقة كوريا الشمالية، قد تدمّر ما تبقى من النظام متعدد الأطراف، بما في ذلك نظام منع الانتشار النووي ومجلس الأمن في الأمم المتحدة، وإذا بقي الاقتصاد الروسي معزولاً عن النظام المالي الدولي، فقد لا تجد موسكو ما يمنعها من الرد على البنوك والمؤسسات الغربية وجهات مالية أخرى عبر استعمال قدراتها السيبرانية القوية.أخيراً، من المتوقع أن يزيد اتكال روسيا على الصين بعد تحركها العدائي الأخير وبغض النظر عما تفعله واشنطن في الوقت الراهن، لكن من مصلحة الولايات المتحدة أن تتجنب نشوء ثنائية جديدة من هذا النوع على المدى الطويل، وقد يشكّل الطرفان تحالفاً حقيقياً في وجه الولايات المتحدة وحلفائها إذا بدأت روسيا تتكل بالكامل على الصين، وإذا أصبحت الصين مستعدة لدعم نظام بوتين، وهذه النتيجة قد تزيد التحديات المطروحة على واشنطن في خضم منافستها المطوّلة مع بكين.هذه المصالح الثلاث (إرساء الاستقرار الإقليمي، ومنع روسيا من التحول إلى دولة مارقة على الساحة الدولية، وتجنب نشوء ثنائية عالمية جديدة) يجب ألا تمنع صانعي السياسة الأميركية من زيادة التكاليف التي يتكبدها بوتين ونظامه، لكن يُفترض أن تُوجّه القرارات الأميركية، وسيكون أي اتفاق سلام يتم التفاوض عليه خلال الأسابيع المقبلة ويسمح برفع جزءٍ من العقوبات أول خطوة ضرورية لتحقيق تلك الأهداف الثلاثة، وإلا قد تستمر الصراعات الإقليمية، وينهار الاقتصاد الروسي، وتتوسع الاضطرابات الدولية، وينشأ تحالف روسي صيني حقيقي على المدى الطويل.بدأ عدد متزايد من المحللين والسياسيين في واشنطن يدعو إدارة بايدن إلى اعتبار تغيير النظام في روسيا أهم هدف أميركي مرتقب، إنه طلب مبرّر، فقد ارتكب بوتين ونظامه أعمال عنف مريعة ضد أوكرانيا، وأدت العقوبات المفروضة على روسيا إلى زعزعة الاقتصاد المحلي، فتراجع الازدهار والاستقرار النسبي في البلد، وهما من أبرز العوامل التي منحت بوتين شرعيته، ومن الواضح أن حربه على أوكرانيا زادت مخاطر الفوضى الداخلية على المدى الطويل، مما يعني أن عهده أصبح مُهدداً.لكن قد تترافق أي سياسة رسمية لتغيير النظام، أو حتى دعم هذا التغيير ضمناً، مع نتائج عسكية وكارثية على الولايات المتحدة، وحلفائها، وأوكرانيا، وحتى الشعب الروسي. لطالما افترض الخبراء الاستراتيجيون الروس أن أي محاولة غربية لإسقاط النظام ستجمع بين تهديدات هامشية، وحرب اقتصادية، واضطرابات داخلية متوسّعة وصولاً إلى شن هجوم عسكري مباشر، فإذا اقتنع الكرملين بأن السياسة الأميركية تهدف إلى تغيير النظام الروسي، فمن المتوقع أن يردّ بصرامة، ويصعب أن يسقط بوتين من دون خوض معركة كبرى ضد الأعداء المحليين أو الخارجيين، ولا تزال الدولة الروسية قادرة على قمع الناس محلياً عن طريق العنف ويمكنها أن تتصرف بعدائية تفوق ما فعلته خلال الشهر الماضي في الخارج.في ظل استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا وتفاقم الكارثة الإنسانية، فقد تميل واشنطن إلى التركيز على معاقبة بوتين حصراً، لكن قد تعطي هذه المقاربة نتائج عكسية، فعلى المدى القصير، قد تمنع أي تسوية يتم التفاوض عليها روسيا من تحقيق انتصار غير متوقع، وعلى المدى الطويل، تريد الولايات المتحدة إرساء الاستقرار والسلام في أوكرانيا ومحيطها ومعاقبة موسكو على عدائيتها، لكن من دون أن تصبح دولة منبوذة عالمياً، فقد أطلقت مناورة بوتين الإجرامية سخطاً مبرراً في كل مكان، لكن الحاجة تبرز إلى أكثر القادة عقلانية لتحقيق الأهداف الأميركية على المدى القصير والطويل.* سامويل شاراب
دوليات
لعبة طويلة وخطيرة في أوكرانيا
08-04-2022