أسرار نجاح فيكتور أوربان في المجر
حَكَم رئيس الوزراء فيكتور أوربان المجر لسنوات طويلة بعد الحقبة الشيوعية، ففاز بأربعة انتخابات بصفته المرشح الأبرز عن حزبه القومي الشعبوي "فيدز" (الاتحاد المدني المجري)، وقد حقق هذا السياسي البالغ من العمر 58 عاماً الفوز مجدداً هذا الشهر، مع أنه خاض هذه المرة منافسة أكثر احتداماً من انتصاراته السابقة التي منحت "فيدز" أغلبية ساحقة في البرلمان منذ عام 2010.وصوّت أكثر من نصف المجريين لحزب "فيدز" مجدداً، مما يعني ترسيخ مكانة أوربان كسياسي بارز في أوروبا الوسطى بدل اختيار ائتلاف "المعارضة الموحّدة" الذي يشمل 6 أحزاب ويشارك فيه اشتراكيون وليبراليون ومحافظون وأعضاء من حزب "الخضر"، واستفاد "فيدز" بكل وضوح من استعمال نفوذه السياسي للتلاعب بالمشهد الإعلامي والقانوني في المجر، لكن من الغباء أن ينكر أحد أن أوربان يتمتع بشعبية ديموقراطية حقيقية، فما الذي يفهمه أوربان إذاً عن مواطنيه المجريين؟ وكيف يستطيع تحقيق الفوز مراراً وتكراراً، مع أن كبار القادة يتناوبون على السلطة في جميع دول أوروبا الوسطى الأخرى؟في المقام الأول، يستطيع حزب "فيدز" التأثير على المجريين الذين يحملون رؤية عالمية قومية بارزة عبر إقامة توازن حذر بين المقاربة التعديلية والواقعية السياسية، ورغم انتشار ملصقات "المجر العظمى" على نوافذ السيارات، لم يعد هذا المعسكر العاطفي يصدّق أن توسيع المجر ممكن وراء حدودها الراهنة.
يقول لايسي كورنيتزر، كاتب ومخرج مجري مقيم في برلين: "من المستبعد أن يحاول أوربان الاستيلاء على جنوب سلوفاكيا أو غرب رومانيا عبر استعمال القوة العسكرية، كما يفعل بوتين اليوم في أوكرانيا، لكنّ حنينه إلى الماضي ونبرته الانتقامية القوية يُذكّران الناس بعظمة ماضٍ أسطوري حيث تكون الهوية المجرية وحدها كافية لتحقيق السعادة، فلدينا أجمل بلد مع أجمل امتداد لنهر الدانوب، ولدينا أجمل لغة وأعظم خطابات عن الأبطال والشهداء في التاريخ، وهذه الأفكار تعيد إحياء الحلم باسترجاع "حدود المجر التاريخية" يوماً، لكن من دون اتخاذ أي خطوة لتحقيق هذا الهدف".يستعمل السياسيون القوميون هذه الخطابات منذ عام 1990، لكن يعطي كلام أوربان أثراً مختلفاً حين يطرح الأفكار نفسها بفضل إرثه، حتى أنه لا يجد حزباً يمينياً متطرفاً ومستقلاً لمحاولة تحدّي حزب "فيدز" وانتزاع الناخبين منه، ففي النهاية، كان أوربان المسؤول عن منح جنسية مزدوجة إلى 2.4 مليون شخص من أصل مجري في الخارج خلال عام 2010، فكسب بذلك قلوب القوميين المجريين وحصد مئات آلاف الأصوات الجديدة، ومنذ ذلك الحين، زاد أوربان الدعم المالي لهذه الجماعات بعشرة أضعاف، فحصد "فيدز" أكثر من 90% من أصوات الشتات.يتزامن فكر أوربان القومي مع أجندة حمائية تُعنى بمصالح المجريين، على عكس أهداف الليبراليين، وحزب "الخضر"، والديموقراطيين المسيحيين، والاشتراكيين، إذ يلبّي هذا المعكسر برأي أوربان مطالب ألمانيا، والاتحاد الأوروبي، والمؤسسات المالية الدولية، والشركات العالمية. يقول أندراس بيرو ناغي، مدير منظمة "الحلول السياسية" في بودابست: "نجح أوربان في إقناع عدد كبير من الناس بأن حزب "فيدز" وحده قادر على حماية الشعب المجري من مختلف أشكال التدخل، وبما يصبّ في مصلحته ويُحقق سيادة المجر الوطنية، وفي ملفات مثل ارتفاع أسعار الطاقة، والهجرة، وحقوق المثليين، أو حتى الحرب على الحدود في الفترة الأخيرة، يشعر جزء كبير من مناصري "فيدز" أنه بأمان خلال عهد أوربان لأن رئيس الحكومة سيفعل كل ما يلزم لحمايتهم من الشرور الخارجية وسط هذا العالم المضطرب".أصبحت الحرب في أوكرانيا فجأةً أهم مسألة في الحملة الانتخابية، مما يثبت حقيقة الأهداف المنشودة، وقد حاول أوربان التقرب من بوتين طوال عشر سنوات لنيل المساعدة التي يريدها لبناء مفاعل نووي آخر في المجر، لكنه وجد نفسه فجأةً في موقف محرج حين أقدم بوتين على غزو أوكرانيا، وظنّ الكثيرون أن هذه الخطوة كفيلة بإسقاط الزعيم المجري، لكن ابتكر أوربان طريقة لجعل الوضع يصبّ في مصلحته.يقول دانيال فازيكاس، باحث في مواقع التواصل الاجتماعي في المجر: "المجريون يميلون بطبيعتهم إلى تجنب المخاطر والتفكير بما سيحصل على المدى القصير، فالحرب تخيفهم، لذا لا يريدون المشاركة في أي جزء منها"، ولهذا السبب، تعامل أوربان مع الوضع المستجد عبر طرح سياسة "الهدوء الاستراتيجي"، أو ما يسمّيه "سياسة سلام" تضع المجر في وجه روسيا بحذر وتنحاز إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، لكن مع الحفاظ على استقلالية البلد. تعارض المجر إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا، وحظر مصادر الطاقة، وفرض منطقة حظر جوي، حيث يُذَكّر أوربان المجريين بأن 65% من نفط المجر و85% من إمدادات غازها تأتي من روسيا، وتكشف استطلاعات الرأي أن 60% من المجريين يعتبرون استراتيجية أوربان أفضل طريقة للحفاظ على سلامتهم.سخرت وزيرة الدفاع التشيكية من حياد أوربان في تغريدة جديدة، فقالت إنها تشعر بالأسف "لأن النفط الروسي الرخيص يبدو أهم من دماء الأوكرانيين بالنسبة إلى السياسيين في المجر". يتكل أوربان أيضاً على شكلٍ آخر من النزعة الاجتماعية المحافِظة التي تحظى بمعظم الدعم في الأرياف التي أصبحت اليوم معقلاً لناخبي حزب "فيدز"، وعلى عكس الديموقراطية المسيحية التي تُعتبر مستنيرة نسبياً وكانت قد تطورت في إيطاليا وألمانيا خلال عقود الحرب الباردة، يبدو المعسكر المحافِظ في المجر تقليدياً، فهو يكرّم العائلة والزواج، ويعارض حقوق المثليين، ولا ينتقد سجل المجر الشائب تاريخياً، بما في ذلك معاداتها للسامية. المجر لا تشبه ألمانيا أو هولندا، كما يزعم أوربان، ولا تريد أن تشبههما أصلاً.للتأكد من مشاركة أعداد مناسبة من المسيحيين والمحافظين، أضاف حزب "فيدز" استفتاءً إلى الاقتراع في يوم الانتخاب، حيث سيُسأَل المواطنون المجريون عن دعمهم لحظر المنشورات التي تشمل محتوىً يرتبط بالمثليين وقد يؤثر على نمو الأولاد تحت السن القانوني"، ولن تُغيّر نتيجة الاستفتاء شيئاً، فقد مرّر المشرّعون المجريون في السنة الماضية قانوناً يُجرّم تجسيد مظاهر المثلية الجنسية وتعليم الجنس في المدارس والبرامج التلفزيونية التي تستهدف الناس تحت عمر الثامنة عشرة. برأي الحكومة، يستهدف هذا القانون في المقام الأول جرائم الاعتداء الجنسي على الأطفال، لكن خبراء حقوق الإنسان يحتجون عليه لأن الجمع بين المثليين والمعتدين على الأطفال ينتج أفكاراً نمطية مسيئة.لكن يوصل هذا الاستفتاء رسالة إلى ناخبي أوربان المحافظين مفادها أن المجر لن ترضخ لإرادة الاتحاد الأوروبي في المسائل الثقافية التي تبقى محورية بالنسبة إلى هوية البلد، واعتبرت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، ذلك القانون "مؤسفاً" واعتبرته الجماعات المدافعة عن المثليين الأكثر صرامة في أوروبا.يقول فيرينك ميسزليفيتز، مدير معهد الدراسات المتقدمة "كوسزيغ": "لا يظن المجريون بكل بساطة أن الاتحاد الأوروبي يفهم السياق المجري بما يكفي كي يبلغهم بما يجب فعله في هذا النوع من المسائل، فبعد تطبيق عدد من المقاربات المغلوطة التي أوصى بها الاتحاد الأوروبي أو صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، هم يعتبرون أوربان شخصاً مستعداً للتصرف بالطريقة التي ترضيهم، فهو يأتي من الريف أيضاً ويتكلم بلغتهم، لا بلغة بروكسل أو برلين". نجح أوربان في تمييز نفسه عن زعيم "المعارضة الموحّدة"، بيتر ماركي زاي، حين قال: "نحن نحمل رأياً مختلفاً حول مستقبل الأوطان والدول القومية، ونحمل رأياً مختلفاً حول العولمة، ويبدو أننا نختلف اليوم أيضاً حول مفهوم العائلة". بعد فوز أوربان بولاية رابعة على التوالي، تحظى أفكاره طبعاً بدعم هائل من أوساط الدولة القوية، ويوضح بيرو ناغي: "تُعتبر سيطرة حزب "فيدز" على عدد كبير من المؤسسات وهيمنته على وسائل الإعلام الرسمية عوامل أساسية لزيادة شعبيته"، فلم يكتفِ هذا الحزب بالتلاعب بخريطة البلد الانتخابية فحسب، بل كررت وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الحكومة أفكار الحزب أيضاً وراحت تهاجم المعارضة في كل فرصة، وفي الفترة الأخيرة، بثّت القناة التلفزيونية الرسمية خطاب أوربان في اليوم الوطني، في 15 مارس، 9 مرات في يوم واحد مقابل تخصيص 5 دقائق فقط من البث لمرشّح المعارضة ماركي زاي (إنه الحد الأدنى القانوني). كذلك، يساوي إنفاق حزب "فيدز" على إعلانات مواقع التواصل الاجتماعي ثلاثة أضعاف ميزانية أحزاب المعارضة.تكلم زولتان لاكنير، رئيس تحرير الموقع الإخباري "جيلين"، مع صحيفة "غارديان" حول التحول السريع في موقف حزب "فيدز" في مسألة روسيا وأوكرانيا، فقال: "لم يحتج هذا الحزب إلى أسبوع واحد لإطلاق حملة جديدة تُصوّر أوربان كحامي السلام وضامن الأمن، يملك أوربان موارد إضافية ومنصة أكبر حجماً للوصول إلى الناخبين".ويضيف بيرو ناغي: "في المدن، يطّلع الكثيرون على آخر الأخبار عبر شبكة الإنترنت، لكن يختلف الوضع في الريف، حيث تشمل هذه المنطقة قناة تلفزيونية وراديو ووسائل إعلام مطبوعة خاصة بها، ويكون معظمها بيد الحكومة"، فهل يُعقَل أن يبقى أوربان أربع سنوات إضافية في الحُكم؟ * بول هوكينوس