حين أطلقت روسيا حربها الشاملة ضد أوكرانيا، بدت الهند للوهلة الأولى في موقف لا تُحسَد عليه، فبعدما تقرّبت نيودلهي من الغرب في السنوات الأخيرة لحماية نفسها من الصين، عدوتها الأساسية، كان منطقياً أن تصطف مع واشنطن وحلفائها في الصراع الأخير، لكن الهند ترددت في إدانة روسيا التي تتكل عليها بشدة لتلقي معظم معداتها العسكرية، وفي الوقت نفسه، تحمل الهند مخزوناً كبيراً من النوايا الحسنة تجاه روسيا كونها شريكتها منذ الخمسينيات، فقد دعمت موسكو حينها نيودلهي في حين اصطفت القوى الغربية مع إسلام أباد، فقد تطورت الروابط بين الهند والغرب بسرعة في آخر عقدَين، لكن بقي التعاطف مع روسيا قائماً، فلم يكن مفاجئاً إذاً أن تمتنع الهند عن التصويت على جميع القرارات التي تستنكر الغزو الروسي في مجلس الأمن والجمعية العامة في الأمم المتحدة، فكان تشابه المواقف الهندية والصينية في هذا الملف جزءاً من المفارقات الكبرى التي أنتجتها الحرب في أوكرانيا.

اليوم، يبدو أن هذه الحرب ستمنح نيودلهي مكافأة كبرى، حيث أوقفت واشنطن انتقاداتها لأنها تعرف أنها تحتاج إلى الهند كشريكة لها للتصدي لبكين وتتفهم اتكال الهند على المعدات العسكرية الروسية، مما يدفعها إلى التساهل مع موسكو، وعلى غرار الصين، استفادت الهند ذات الموارد المحدودة من هذه الأزمة لتلقي نفط روسي قليل الكلفة، فهي تشتريه بسعر مُخفّض جداً مقارنةً بأسعار السوق فيما يرفض العملاء الغربيون استلام المنتجات الروسية.

Ad

في غضون ذلك، تستغل الصين وروسيا تردد الهند في الانضمام إلى الغرب لإدانة الغزو الروسي لتشجيعها على توسيع تعاونها السياسي معهما، وفي غضون ذلك وصل وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، إلى نيودلهي في زيارة غير معلنة، وزارها بعده وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، وتأمل بكين وموسكو استمالة نيودلهي وإقناعها بالانضمام إلى ائتلاف آسيوي جديد ومعاد للغرب، لكن من المستبعد أن تتخلى الهند عن وجهتها الاستراتيجية المتجددة نحو الولايات المتحدة وحلفائها، وفي مطلق الأحوال، أصبحت الهند المستفيدة الكبرى من محاولات التقرب منها في هذه الفترة.

لا تبدو نيودلهي إذاً في موقف محرج اليوم، بل إنها أصبحت قادرة على تحسين مكانتها الوسطية لتحقيق مصالحها الخاصة على المدى القصير والطويل، حيث تحصل الهند على النفط والأسمدة وسلع أخرى بأسعار مُخفّضة من روسيا، إذ تتوق موسكو اليوم إلى إيجاد عملاء جدد، وتسعى إلى تخفيف حدة المواجهة العسكرية بين الصين والهند في الهيمالايا، وتحاول الاستفادة من الولايات المتحدة وشركائها الغربيين الآخرين لتحديث قاعدتها الصناعية الدفاعية وتخفيف اتكالها على الإمدادات العسكرية الروسية.

استاءت واشنطن في البداية من تصويت الهند في الأمم المتحدة، وقال الرئيس الأميركي جو بايدن إن الهند "تتردد" في فرض العقوبات على روسيا، لكن كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية أعلنوا منذ ذلك الحين أنهم يتفهمون مواقف الهند، واعترف المسؤولون الأميركيون بأن إقدام الهند على شراء النفط من روسيا لا ينتهك العقوبات الراهنة، وفي المقابل، تجنّبت نيودلهي أي انتهاك لنظام العقوبات، وفي ما يخص اتكال الهند المستمر على الأسلحة الروسية، اعترفت وكيلة وزارة الخارجية الأميركية، فيكتوريا نولاند، بأن الولايات المتحدة تتحمل جزءاً من اللوم في هذا المجال لأنها ترددت في تزويد الهند بأسلحة حديثة خلال الحرب الباردة، ثم قالت نولاند، خلال زيارتها الأخيرة إلى نيودلهي، إن واشنطن أصبحت مستعدة الآن لتعديل مقاربتها وقد تذهب إلى حد تقوية التعاون في قطاع الدفاع، ومن المتوقع أن يصبح هذا الموضوع محط نقاش خلال اجتماع لوزراء الخارجية والدفاع الأميركيين والهنود في نوفمبر.

بعد الإخفاقات العسكرية الروسية الصادمة والوحدة الغربية غير المسبوقة ضد الحرب غير المبررة التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تحاول بكين وموسكو التقرب من بعضهما وتسعيان إلى ضم شركاء جدد إلى التحالف غير الغربي، وتُعتبر الهند على رأس الدول المرشّحة للانضمام إلى هذا المعسكر، ولتحقيق هذه الغاية، تكلم وانغ عما تعتبره الصين "لحظة آسيوية مميزة" في الشؤون العالمية ودعا إلى تكثيف التعاون بين الصين والهند، كذلك، ذكّر وانغ نيودلهي بأن الصين ستستضيف قمة مجموعة "بريكس" في عام 2022، وقد لاحظ الطرفان طبعاً أن البرازيل وجنوب إفريقيا المنتسبتَين إلى هذه المجموعة ترددتا أيضاً في دعم الغرب خلال الأزمة الروسية الأوكرانية. يعتبر وانغ مجموعة "بريكس" و«منظمة شنغهاي للتعاون" (منتديان غير غربيَين ومتعددا الأطراف حيث تجتمع الهند والصين وروسيا بانتظام) من أبرز الأدوات للتصدي للهيمنة الغربية غير المقبولة على النظام العالمي، علماً أن مظاهر هذه الهيمنة تتضح اليوم عبر العقوبات الجارفة المفروضة على روسيا.

لكنّ نيودلهي ليست مستعدة بعد للانضمام إلى ائتلاف جديد تقوده بكين وشريكتها الصغرى، موسكو، أكثر ما يهمّ الهند اليوم هو إنهاء حربها الحدودية المنخفضة الحدّة مع الصين في الهيمالايا، حيث تمتنع بكين حتى الآن عن تغيير وجهتها، فقد أصرّت نيودلهي من جهتها على اعتبار العودة إلى الوضع القائم قبل توغل الصين في عام 2020 واحتلالها الأراضي التي تطالب بها الهند شرطاً مسبقاً للتعاون في مجالات أخرى، فقد ساهمت 15 جولة من المحادثات بين القادة العسكريين الهنود والصينيين في تخفيف حدة المواجهات العسكرية في "لاداخ"، لكن يضغط وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار اليوم لتسريع وتيرة فك الارتباط، بدءاً من سحب آلاف القوات المتمركزة بالقرب من الخط الحدودي المتنازع عليه، فلا تتوق الهند إلى حصول ذلك، لكنها سترحّب بأي تراجع للضغوط العسكرية الصينية على الحدود.

لكن حتى لو عدّلت بكين سياساتها وغيّرت نيودلهي رأيها بالصين، لا تملك الهند أسباباً كثيرة لتغيير مستوى تركيزها على التعاون الأمني المتزايد مع الولايات المتحدة، ولا سيما عن طريق "الحوار الأمني الرباعي" (تشمل هذه الشراكة اليابان وأستراليا أيضاً)، ومثلما اعتبرت الهند نفسها محايدة خلال الحرب الباردة لكنها كانت تميل إلى الاتحاد السوفياتي، وسيبقى توجّه الهند الراهن (اصطفاف متعدد الجوانب بين الصين والولايات المتحدة وروسيا) أقرب إلى الولايات المتحدة والغرب، ورغم جميع المناورات الحاصلة، لن تتلاشى المشاكل بين الهند والصين في أي وقت قريب، ولن تمنع موسكو تراجع أهميتها في نيودلهي.

في ظل الظروف الجديدة التي أنتجتها حرب روسيا، لاحظت إدارة بايدن حجم اتكال الهند على موسكو لتلقي الأسلحة، ومن المستبعد أن يتراجع اتكال الهند الهائل على الأسلحة وقطع الغيار الروسية سريعاً، لكن تستطيع الولايات المتحدة أن تؤدي دوراً محورياً لتنويع الجهات التي تتكل عليها الهند في أسرع وقت، حيث تملك حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي اليوم الفرصة المناسبة لجذب الاستثمارات الأميركية والغربية لتحديث القاعدة الصناعية الدفاعية في الهند وإعطائها طابعاً محلياً.

وفق السيناريو المثالي والمستبعد الذي تتمناه الهند، يُفترض أن تتصالح روسيا مع أوروبا والولايات المتحدة وتشارك في تجديد استقرار ميزان القوى الآسيوي (أو تبقى خارجه)، لكن روسيا في عهد بوتين دعمت الصين بكل وضوح، وأثارت حفيظة الغرب بحربها على أوكرانيا، وصعّبت مساعي الهند لإقامة التوازن الآسيوي المناسب، وهذا الوضع يُضعِف أي خطوات تستطيع الهند اتخاذها مع روسيا (وبالتالي مع الصين) في المستقبل القريب، مع أنها تبقى منفتحة على إشراك موسكو في مبادراتها وتريد متابعة التواصل مع الصين أيضاً.

* تشيلامكوري رجا موهان

فورين بوليسي