فرسان المسرح العربي

نجيب الريحاني... زعيم المسرح الفكاهي

نشر في 08-04-2022
آخر تحديث 08-04-2022 | 00:05
امتدت مسيرة الفنان نجيب الريحاني نحو 30 عاماً، وترك بصمة فارقة في التمثيل الكوميدي، وعكست أعماله المسرحية ملامح المجتمع المصري في النصف الأول من القرن الماضي، ونال ألقاباً عدة منها «موليير العرب» و«زعيم المسرح الفكاهي» و«الضاحك الباكي»، وعلى الرغم من رحيله في عام 1949، فإن حضوره لا يزال يتجدد في ذاكرة المسرح العربي باعتباره أحد فرسانه.
حفل مشوار نجيب الريحاني في المسرح، بنحو 33 مسرحية، منها “خلي بالك من إبليس” (1916)، و”ريا وسكينة” (1921)، و”الجنيه المصري” (1931)، و”الدنيا لما تضحك” (1934)، و”الستات مايعرفوش يكدبوا”، و”حكم قراقوش” (1936)، و”الدلوعة” (1939)، و”حكاية كل يوم”، و”الرجالة مايعرفوش يكدبوا” و”إلا خمسة” (1943)، وصولاً إلى آخر مسرحياته “حسن ومرقص وكوهين” عام 1945.

وظل هذا الفنان المبدع في موضع مقارنة مع نجوم الكوميديا اللاحقين، وبعد رحيله استمرت فرقته في تقديم أعماله خلال فترة الستينيات بأبطال آخرين، منهم عادل خيري وفريد شوقي، وأعاد الفنان محمد صبحي تقديم مسرحية “لعبة الست” عام 2000، ورغم تقليدهم لطريقة أداء البطل الأصلي، فقد انتزعوا التصفيق والضحك من جمهور “مسرح الريحاني”.

ولا يزال اسم نجيب الريحاني يتردد بقوة، رغم عدم وجود تسجيلات مرئية لمسرحياته، باستثناء مقاطع تبثها الإذاعة المصرية في ذكراه، وتحوَّل إلى أيقونة في مجال الكوميديا، ولكن الأجيال الجديدة لا تعرف سوى أعماله السينمائية فقط، بينما اندثرت مسرحياته، وسرى ذلك على رواد تلك الحقبة، مثل يوسف وهبي وجورج أبيض وعزيز عيد وفاطمة رشدي وغيرهم.

اقرأ أيضا

طريق الفن

وُلد الريحاني في عام 1889 بحي “باب الشعريَّة” في القاهرة، لأب عراقي من مدينة الموصل يُدعى إلياس ريحانة، كان يعمل بتجارة الخيل، وتلقَّى نجيب تعليمه في مدرسة “الفرير الفرنسية” بالقاهرة، وفيها ظهرت موهبته التمثيلية، فانضم إلى فريق التمثيل المدرسي، واشتهر بين مُعلميه بقدرته على إلقاء الشعر العربي.

وبعد حصوله على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة حاليًا)، اضطر لقطع دراسته إثر رحيل والده، وعمل موظفًا بسيطاً في شركةٍ لإنتاج السُّكر بصعيد مصر، لكنه ضاق بالعمل الوظيفي، وقدَّم استقالته، وعاد إلى القاهرة، وذات يوم قابل صديقه محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فعرض عليه أن يكوِّنا معاً فرقة مسرحية لتقديم الاسكتشات الفكاهية لجماهير الملاهي الليلية.

وكان لنشأته في حي شعبي وتجربته الوظيفية أثر في أدائه بالعديد من مسرحياته وأفلامه السينمائية لاحقًا، وتمتع بالكثير من خفة الظل الممزوجة بالسخرية، وقرّر أن يمضي في طريق الفن، وطرق أبواب المسارح، للبحث عن فرصة حقيقية أمام عمالقة التمثيل في عصره.

وصعد الريحاني للمرة الأولى على خشبة المسرح في عمل تراجيدي هو “صلاح الدين الأيوبي”، وكان الفنان جورج أبيض يقوم بدور الملك الإنكليزى ريتشارد قلب الأسد، بينما اختير للريحانى دور صغير (ملك النمسا) ويقتضي أن يبارزه، ويتكلَّم بضع كلماتٍ فقط.

وارتبطت تلك المسرحية بموقف طريف، وتزامن عرضها مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، وكانت الصحف والمجلات تنشر صورًا لملوك وأباطرة الدول المتحاربة ومن بينها صورة الإمبراطور النمساوي فرانس جوزيف الأول، فخطر ببال الريحاني أن يتقمَّص شخصية هذا الإمبراطور، وذات ليلة قبل أن يظهر على خشبة المسرح، وضع لحية اصطناعية على وجهه، وحين رآه الجمهور ضجَّ بالضحك، وفُصل بعدها من الفرقة!

وسرى خبر هذا الممثل غير الملتزم بين الفرق المسرحية، وأغلقت في وجهه الأبواب، وأخذ يتردد على مقهى في شارع عمادالدين بوسط القاهرة، ويجلس هناك ساعاتٍ طويلة، حتى قرّر أن يكوِّن فرقة مسرحية مع الفنان عزيز عيد وآخرين في صيف عام 1915، وتبرع أحد الأثرياء بمبلغ 10 جنيهات، واختاروا للفرقة اسم “فرقة المسرح العربي”، إلا أنها لم تصمد طويلا أمام المنافسة مع الفرق الأخرى.

وعاد الريحاني إلى تقديم الاسكتشات الفكاهية في الملاهي، وسطع نجمه من خلال شخصية “كشكش بك”، ومن خلالها تناول بشكل ساخر سلبيات المجتمع، وفي أواخر العشرينيات، أسس مع صديق عمره الكاتب بديع خيري “فرقة الريحاني”، وقدمت عروضًا مقتبسة من المسرحيات الكوميدية الفرنسية، وحققت الفرقة شهرة واسعة في أرجاء العالم العربي.

وانضم إلى الفرقة عمالقة التمثيل في ذلك الوقت، منهم عباس فارس وماري منيب وميمي شكيب وعبدالفتاح القصري، وانفرد الريحاني بدور البطولة، وغلبت عليه شخصية الموظف البسيط، والكادح الذي لا تبتسم له الدنيا، فقدمها بشكل كوميدي ساخر، حتى أن المُشاهد بمجرد النظر إليه لا يملك إلا أن يبتسم حتى في لحظات التراجيديا.





طابع بريد يحمل صورته

الجنيه المصري

تزوَّج الريحاني من سيدة لبنانية تُدعى بديعة مصابني تعرَّف عليها حين كان يقدم أحد عروضه في بيروت، واصطحبها معه إلى مصر، وافتتحت ملهى خاصًا بها اشتهر باسم “كازينو بديعة”، كما أسست فرقتها المسرحية الخاصة وعُرفت باسم “فرقة بديعة مصابني”، واكتشفت العديد من المواهب التمثيلية في مصر، وانفصل الزوجان في وقتٍ لاحق.

واجهت فرقة الريحاني منافسة شديدة من الفرق الأخرى، لا سيما فرقة “علي الكسَّار الكوميدية”، وكلاهما حاول جذب الجمهور إلى مسرحه، والاعتماد على الارتجال والخروج عن النص، وانطبع في الأذهان أن عروضهما هزلية، وغايتها انتزاع الضحك من دون تقديم مضمون جيد، وبات الجمهور يرتادها بحثًا عن التسلية فقط.

وفي عام 1931، طرأ تحوُّلٌ مفاجئ على مسيرة الريحاني، واقتبس مسرحية “توباز” لِلكاتب الفرنسي مارسيل بانيول، وكانت هذه أجرأ خطوة يتخذها نحو الكوميديا الجادة، لكنها صدمت جمهوره الباحث عن الضحك، ورغم فشلها، فإنها شهدت بداية نضجه كفنان كوميدي.

وللمرة الأولى، يتخلى الريحاني عن الكوميديا الهزلية، ويتناول في مسرحيته المقتبسة مضامين أخلاقية واجتماعية، وصاغها بديع خيري برؤية فنية تعكس هموم المجتمع المصري في ذلك الوقت، ولم يكن تطوُّر الكوميديا الجادة عند الريحاني يمثل ظاهرة منعزلة، بل ضمن قفزة نوعية في مظاهر الحياة والآداب والفنون، والاتجاه إلى تأصيل الثقافة العربية والمشرقية.

وأطلق الريحاني على مسرحيته المقتبسة عنوان “الجنيه المصري”، وبدأ عرضها في 3 ديسمبر 1931، على مسرح “الكورسال” الأرستقراطي، وكان سقوطها مدويًا، وبلغ إيراد الافتتاح 30 جنيهاً فقط، ثم انخفض في الليلة التالية إلى ستة جنيهات، ثم تراجع إلى ثلاثة جنيهات في الليلة الثالثة. واستقبل الجمهور المسرحية بفتور، ورأى أنها غير مشوّقة، لخلوها من كوميديا “الفارس” Farce، كما لم تضم شخصيات نمطية ومواقف هزلية مما اعتاد تقديمه في مسرحياته السابقة.

الرفق بالحموات

وبعد فشل مسرحيته، أصيب الريحاني بخيبة أمل، وكان يتحمل مسؤولية فرقة كاملة، وأوشكت على الانهيار، واضطر إلى مغازلة الجمهور مرة أخرى، والكف عن تجاربه في الكوميديا الجادة، حتى لا تتضاعف خسائره، ولذا وصف مسرحيته التالية بأنها “انتقامه من الجمهور”، وهي استعراض فرانكوعربي بعنوان “المحفظة يا مدام”، وجاءت شبيهة بإنتاج العشرينيات، وتتألف من سلسلة من المشاهد المفككة المليئة بالنِكات والمؤثرات الكوميدية والاستعراضات الراقصة، والمفارقة أن المسرح كان يمتلئ بالمتفرجين كل ليلة.

وفي ذلك الموسم قدّم مسرحية “الرفق بالحموات” للكاتب أمين صدقي، ولم يستمر عرضها سوى أسبوع واحد، وبعدها أخرج الريحاني استعراضًا موسيقيًا آخر بعنوان “أولاد الحلال”، وبهذه المسرحية انتهى الموسم. وشعر الريحاني بإخفاقه في الارتفاع بذوق الجمهور، وضاعف من مرارته أن الدولة منحته الجائزة الرابعة فقط عن هذا الموسم، في حين نال يوسف وهبي الجائزة الأولى.

شبح الاعتزال

واضطر الريحاني إلى الاستدانة لتغطية نفقات “أولاد الحلال” وراوده شبح اعتزال المسرح، نتيجة هذا الفشل، وبعد فترة طويلة من التوقف، وافق على العمل بمسرح “الفانتازيو” الصيفي بمحافظة الجيزة (جنوبي القاهرة)، الذي عُرف بعد ذلك باسم “سمر فوليز”، وهناك كانت الفرقة تمثِّل - في أغلب الأيام - مسرحية مختلفة كل ليلة، ومنها عروض مُعادة، مثل “ياسمينة” وأُخرى حديثة، وعبارة عن استعراضاتٍ راقصة وأغنيات ومونولوجات.

وصادف هذا الموسم الصيفي نجاحًا كبيرا، بسبب إقامة العروض في الهواء الطلق وانخفاض أسعار التذاكر بأكثر من نصف أسعار المسارح الشتوية.

الليالي المِلاحر

وتهيَّب الريحاني من مواجهة جمهور القاهرة في الموسم الشتوي، وقرَّر القيام برحلة إلى تونس والجزائر والمغرب، وكان يأمل من ورائها دعم مركزه المالي المهتز. وعندما وافق أحد الأجانب على تمويل الرحلة في مقابل نسبة من الأرباح، سارع الريحاني بالسفر في شتاء 1933، وفي ذلك العام تمَّ الصلح بينه وبين بديعة مصابني، التي رافقته في تلك الرحلة الفنية.

واستُقبل الريحاني بحفاوةٍ شديدة في البلدان التي زارها، وقدم بعض أوبريتاته القديمة مثل “الشاطر حسن” و”الليالي المِلاح” و”ليالي العز” و”البرنسيس”، لكن الرحلة انتهت بكارثة مالية، وسبَّب له المتعهد المحتال خسائر فادحة، حتى أنه أفلس في نهاية الرحلة، وعندما عاد إلى القاهرة في شهر أبريل 1933، واجه مزيدًا من المتاعب، لأن الحكومة المصرية حرمته من المساعدة المالية عن تلك السنة، لتغيُّبه عن الموسم المسرحي.

وفي ذروة معاناته، تشاجرت معه بديعة، وشنت ضده حملة في الصحف، واتهمته بأنه فنان كسول، وتضاعفت آلامه وجعلته أشد عداءً للمسرح. وفكَّر مرة أخرى في الاعتزال، وحينها تلقى دعوة من إميل خوري أحد أثرياء الشام آنذاك والذي كان يقيم في فرنسا، لتمثيل فيلم عربي في باريس من إنتاج شركة “إخوان جومون” الفرنسية، فقبل العرض على الفور.

وكان الريحاني مفلسًا تمامًا حتى أن خوري أرسل إليه تذكرة السفر، وعندما وصل إلى باريس وقَّع عقدًا لتمثيل ثلاثة أفلام سنوياً لمدة ثلاث سنوات، وابتعد تمامًا عن المسرح، وملأ جيوبه الخاوية بالمال، إلا أنه تلقَّى برقية تتعجَّل عودته إلى القاهرة، وعرض عليه مرسلها العمل بمسرح “برنتانيا”، ففرح الريحاني بتلك الفرصة، فقد كان يشعر بحنين كبير لخشبة للمسرح.

وأبحر “الضاحك الباكي” عائدًا إلى مصر في ديسمبر 1933، وفي 11 مارس من العام التالي، عاد الريحاني إلى المسرح بكوميديا “الدنيا لمَّا تضحك”، وحقَّقت المسرحية نجاحًا كبيرا، واستقبله الجمهور في ليلة الافتتاح بعاصفة من التصفيق، حتى بكى من شدة التأثر، وتلاشت المرارة التي ذاقها بفشل “الجنيه المصري”.

وفي ذلك الموسم ضمَّ الريحاني إلى فرقته عدة أسماء جديدة، منها بشارة واكيم الذي كان يتمتع بموهبة كوميدية كبيرة، وماري منيب التي تخصصت في أدوار الحماة، بالإضافة إلى فؤاد شفيق، ومحمود رضا، وتوفيق صادق، وحسن فائق، وجبران نعوم، وعبدالفتاح القصري.

وفي الفترة الباقية من الموسم، قدّم الريحاني إحدى مسرحياته السابقة بدلًا من “الدنيا لمَّا تضحك”، واتفق على إحياء موسم الصيف بمسرح “لونابارك” الصيفي في مدينة الإسكندرية (شمال غربي القاهرة). وهناك ظلت الفرقة تعمل حتى نهاية سبتمبر، وفي الشهر التالي وقَّع عقدا مع زينب شكيب (زوزو شكيب)، وفي وقتٍ لاحق انضمت إلى الفرقة شقيقتها أمينة (ميمي شكيب)، وفي تلك الفترة انضمَّ للفرقة أيضاً استيفان روستي كعضو دائم.

كشكش بك

واستعادت “فرقة الريحاني” حضورها في الساحة المسرحية، وكتب بديع خيري مسرحيتين لموسم 1935، الأولى كوميديا اجتماعية بعنوان “الشايب لمَّا يدلَّع”، والثانية الأوبريت الغنائي “الدنيا جرى فيها إيه؟”، ومن خلالها أعاد الريحاني تقديم شخصية “كشكش بك”.

وذات ليلة شعر الريحاني بالتعب والإرهاق أثناء العرض، وعندما علم الجمهور أن نقودهم ستُرد إليهم، أصرّوا على مواصلة العرض بدافع من حماسهم الشديد لنجمهم المفضل، واستمرَّ في تمثيل دوره في تلك الليلة، لكن الفرقة توقفت في الأيام التالية، وبعد أن استرد صحته، قدَّم هاتين المسرحيتين في جولة بالأقاليم المصرية.

وانتهت تلك المرحلة من حياة الريحاني الفنية، واقترب من قمة تطوره وعطائه الفني، إلا أنه قرّر اعتزال المسرح عام 1946، وتفرغ للسينما، وخلال عمله في فيلم “غزل البنات”، أصيب بمرض التيفود، ورحل في 8 يونيو 1949، تاركًا وراءه بصمة لا تنمحي في ذاكرة المسرح المصري.

»
الملك فاروق ومشاهير الأدب والفن يحتفون بـ «موليير العرب

نال الفنان نجيب الريحاني خلال مشواره الفني وحتى بعد رحيله الكثير من التكريمات وتم وضع صورته على طابع بريد عام 1995 تخليداً لاسمه ومشواره الفني، ونعاه ملك مصر فاروق الأول، ورثاه عميد الأدب العربي طه حسين، وأطلق عليه الكاتب المسرحي الفرنسي أندريه جيد، لقب “موليير العرب”، فلم يكن مجرد فنان كوميدي فقط، بل كان يضحك ويبكي من دون افتعال أو تكلف، وصار من أبرز الممثلين في تاريخ الفن المصري.

ولا يخلو عام من دون استعادة تراثه المسرحي، والاحتفال بذكراه، ومنذ سنوات قليلة، أقامت دار الأوبرا المصرية معرضًا لأهم المقتنيات واللوحات التي ترصد مراحل حياته، منها 40 لوحة بريشة الفنان حمدي الكيّال تروي لحظات نادرة في تاريخ الريحاني، من بينها لوحة تعبِّر عن حزن الملك فاروق عليه، وأخرى تضم الريحاني مع أحد الكتاب الفرنسيين، وهناك خمس لوحات منها جرى عرضها منذ نحو 50 عاماً بمسرح الريحاني، ولوحات عُرضت في يونيو 2010 بمكتبة الإسكندرية.

أحمد الجمَّال

خريج مدرسة «الفرير» يتخلى عن وظيفته من أجل التمثيل

نجم العروض الهزلية يتلقى صدمة في ليلة افتتاح «توباز»

بديعة مصابني تشن هجوماً على زوجها «الفنان الكسول»

عاصفة من التصفيق تدفعه للبكاء في «الدنيا لما تضحك»

محمد صبحي يستعيد تراث الضاحك الباكي في «لعبة الست»

فريد شوقي وعادل خيري أبرز من قدموا مسرحياته بعد رحيله
back to top