فور ذيوع حريق سوق المباركية، كان وقع الصدمة كبيرا على الجميع، فكل من عاش على أرض الكويت، أو زارها يوما، يعرف قيمة سوق المباركية، وكانت للخبراء والمتخصصين آراؤهم الخاصة في هذا الصدد.في البداية، تحدث المهندس المعماري المعروف، صباح الريس، لـ «الجريدة» فقال: «أعلم أن حديثي سيزعج الكثيرين، لأنني أرى أن الخلل في منظومة المطافئ المسؤولة عن كارثة حريق المباركية، الذي التهم تاريخنا في حادث مأساوي أليم، حيث إن المطافئ تعطينا نحن المهندسين الكثير من التعليمات الأمنية الخاصة بسلامة المباني ومكافحة الحريق، ويستغرقون وقتا طويل للموافقة على مخططاتنا الهندسية، لكنهم في الحقيقة لا يبذلون أي جهد لمراقبة المباني بعد التنفيذ، والتأكد من تطبيق تلك الإجراءات على أرض الواقع».
واستذكر الريس كلا من نائب رئيس الإطفاء الراحل، حمد البدر، وغيره من رجال الإطفاء السابقين أمثال علي المطوع وخالد الياسين، مؤكدا أنهم كانوا يتجولون ويراقبون حتى المكاتب الإدارية، كمكتبه الهندسي سابقا في شارع فهد السالم، ويتأكدون من كل عوامل سلامة المباني، ومع وجود أي مخالفة كانوا يوقّعون على المكتب المخالفات والغرامات.
لا رقابة ولا محاسبة
واستطرد الريس: «الآن أصبح الوضع مختلفا، فلا رقابة ولا محاسبة للمخالفين، فقط تنتظر الإطفاء حدوث الحريق حتى تتحرك، ولكنه تحرُّك متأخر جدا، فواجب إدارة الإطفاء يبدأ قبل وقوع الحريق، للوقاية من الكوارث، وليس عند اندلاع الكارثة ثم نتحرك».وأكد أن «سوق المباركية من أكثر المناطق التي كانت تتطلب رعاية خاصة، لأنه بالفعل مكان قديم، وأغلب مكوناته من الخشب، وهي مادة سريعة الاشتعال، فضلا عن المنتجات داخل السوق كالعطور، والتي هي أيضا مواد سريعة الاشتعال، فكان من الأحرى أن يتم التعامل مع هذا الصرح التاريخي بكل أساليب الوقاية والحماية الممكنة قبل الحادث. ونحمد الله أن الحريق لم يحدث في الصيف، وإلا لكان التهم منطقة المباركية بالكامل».وحول القيمة التاريخية للمنطقة، قال الريس: «المباركية من أكثر المناطق تاريخا وحيوية في الكويت، وتتضمن كشك مبارك، الذي كان مبارك الصباح يستخدمه لاستقبال شكاوى الناس، إلى أن بنى قصر السيف عام 1906 ولم تعد للكشك أهمية، إلا أنه ظل شاهدا على هذا العصر بما يحمله من تاريخ».وقفة تضامنية للحفاظ على الآثار
أقيمت وقفة تضامنية بعد ظهر أمس في سوق المباركية أمام كشك مبارك وفاء لتراث الكويت المهدد بالزوال. وجاءت الوقفة لتؤكد على مطالب أبناء الكويت بالحفاظ على ما تبقى من التراث الكويتي ليبقى شاهدا على الحقب والسنوات التي مرت بحياة الكويتيين.وشارك في الوقفة عدد من أساتذة كليتي العمارة والآثار وأصحاب المحلات المتضررة من حريق المباركية، وطالب الجميع بضرورة إحياء السوق بالطراز القديم والتراثي الذي كان عليه وعدم اللجوء لتطوير الشكل العمراني للمحلات القديمة.
حماية التراث
وأوضح الريس أنه بالتأكيد سيتم بناء ما دمّره الحريق، ولدينا من المخططات والصور ما يساعدنا على العودة بالسوق كما كان، لكن ذلك، مع الأسف، لا يعني أننا حافظنا على ما لدينا من معالم تاريخية، وخاصة أنها قليلة بالفعل في الكويت، فلم يتبق لدينا سوى البوابات، التي لا تعتبر تاريخية لأنها لم تُبنَ وفقا للمعايير التي حددتها «اليونسكو»، فضلا عن بعض المناطق داخل سوق المباركية كسوق التجار ومبنى الإرسالية الأميركية ودواوين قبلة وشرق، وغيرها أشياء بسيطة، ولا أعلم لماذا ليس لدينا الهيئة والأشخاص المؤهلون لحماية تراثنا».وطالب الريس بتغيير قانون تحوّل المباني إلى تاريخية بعد مرور 40 عاما على إنشائها، ضاربا مثالا بمبنى قصر العدل وعمره الآن 37 عاما، وهناك مخطط لدى وزارة العدل لهدمه، رغم أن تكلفته 50 مليون دينار، وصممه أحد أفضل المهندسين البريطانيين بالعالم، دون أن يكون للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب أي تدخّل، رغم أنه المنوط بحماية تلك الأماكن، ولكن لا أحد يستمع له.تاريخ اقتصادي
من جانبه، قال رئيس الجمعية الكويتية للتراث، فهد العبدالجليل، إن الأسواق داخل المباركية من المواقع التراثية المهمة في الكويت، حيث شهدت حقبة مهمة من تاريخنا الاقتصادي، وكانت محطة لالتقاء القوافل التجارية في الماضي، كما ضمّت أقدم مقهى ومكتبة وغيرها من المعالم غير الاقتصادية، ولذلك فإنه من الحتمي أن تتمتع منطقة المباركية بنظام حماية خاص بها لحمايتها من الأضرار أو التقليل من وطأتها في حين حدوثها. وأكد العبدالجليل أن أصل المشكلة يعود إلى عدم اهتمام الدولة بقضية الآثار التاريخية في الكويت، سواء من ناحية الحكومة أو مجلس الأمة، حيث طرحنا من خلال الجمعية على عدة نواب تبنّي قضية تشريع قانون يصب في مصلحة التراث، ولكن - مع الأسف - لا يعطونها أي أهمية، لأنها قضايا غير شعبوية بالنسبة إلى النواب، ولذلك فالتراث آخر اهتمامات نواب مجلس الأمة.لجنة برلمانية
وطالب العبدالجليل بأن يكون التراث من أولويات الدولة من خلال إنشاء هيئة معنيّة بالمعالم التاريخية والحفاظ عليها، بعدما تم هدم مبانٍ ومساجد، ومحو جزء كبير من تاريخ الكويت، وبأن تكون هناك لجنة للتراث داخل مجلس الأمة، على غرار لجان الإسكان والتعليم والصحة، للتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني ومكافحة الإهمال الذي يعانيه تاريخنا.وأضاف أن حادث الحريق حرّك الكثير من الغيورين على تاريخنا، وإن كان تحركا متأخرا، إلا أننا نأمل في تغيير سياسة الدولة تجاه التراث المهمل، والإجابة عن عدة تساؤلات تطرح نفسها، وهي كيف ستكون عملية الترميم وإعادة الإعمار؟ ومن الجهة المسؤولة؟ والمواد المستخدمة في الترميم؟ وهل سيتم الاستعانة بمؤرخين ومعماريين ومهتمين بالتراث للاستفادة منهم لعودة السوق كما كان، من دون أن تشوهه معالم الحضارة الحديثة وتمحو روحه التاريخية؟جرح كبير
من ناحيته، أكد أستاذ التصميم الداخلي بجامعة الكويت، عضو مجلس الحرف العالمي، د. علي النجادة، أن إصابة السوق الكويتي الأقدم والأهم بهذا الحريق المدمر إنما أصابت الكويت والكويتيين بجرح كبير في مقتل، مضيفا أنه كالكثيرين من أبناء جيله له العديد من الذكريات التي احترقت كما احترق سوق السلاح، وغيره من الأماكن الجميلة كسوق الحمام والحريم والبشوت والتتن والتبغ، وغيرها من أسواق الحرف والسلع.وذكر أن سوق المباركية ليس مزارا مفضلا لدى أهل الكويت فقط، لكن أيضا للزوار الذين يحرصون على التجول في السوق، باعتباره أقدم وأعرق أسواق الكويت والخليج بشكل عام، وهو ما يعكس قيمته التاريخية والتراثية لدى الجميع.وأعرب النجادة عن أسفه لتأثير حريق المباركية على نفس وذاكرة الأجيال المتعاقبة، تاركا ندبة وجرحا، سواء عند الأطفال أو الكبار أو حتى الكهول، وكل من عاصر كارثة الحريق، موضحا أن سوق السلاح والأسواق الملاصقة له كان يعد آخر ما تبقى لنا من تراث الكويت، فضلا عن كشك الشيخ مبارك الكبير، وحتى سوق الصفاة، وهي المنطقة التي تتميز بمذاق ورائحة خاصة تعبّر عن هوية الكويت وتاريخها.ولم ينكر النجادة وجود اهتمام نسبي بالتراث الكويتي، إلا أنه أكد أن هذا الاهتمام هو جهد غير كاف، وغير مكافئ لقيمة معالمنا التاريخية، حيث كان من الضروري توفير طفايات حريق، وخراطيم مياه داخل السوق، وأن تكون المياه معالجة لعملية الإطفاء بمواد تكافح الحرائق، كما هو معمول به في الأسواق التجارية الحديثة، من أنظمة حماية وسلامة.وقال: «ربما ستعود المباركية كما كانت بعد عمليات الترميم، لكنه سيكون بداية لتاريخ جديد، بعد أن التهم الحريق التراث الحالي، كما سيسجل التاريخ حادثة الحريق المظلمة في سجلاته لتبقى من أكبر الكوارث المدمرة التي حلّت على الكويت في العهد الحديث».بناء مستدام
من جانبه، أعرب أستاذ العمارة بجامعة الكويت، د. محمد الجسار، عن أسفه لغياب الوعي الكافي بالبناء المستدام، والذي يضمن أعلى سبل الأمان والبقاء لمعالمنا التراثية، مؤكدا أن الكويت تعاني قصورا تشريعيا ومهنيا للحفاظ على المباني التاريخية، وهو ما نتج عنه فاجعة حريق المباركية.وأشار إلى أن الكثير من المعالم التراثية لا يمكن إعادة ترميمها، لأنه لا توجد بالكويت جهة تضم الخبرات القادرة على التعامل مع مبانينا التاريخية، ونضطر إلى الاستعانة بخبرات من دول خليجية مجاورة لديها قدرة تفوق الكويت في الحفاظ على تاريخها ومعالمها، كالسعودية والبحرين وعمان والإمارات.وتعجب الجسار من الآلية التي تم على أساسها منح تراخيص لمحال داخل السوق، وجميعها غبر آمنة، حيث تم بناؤها من الخشب القابل للاشتعال، وأن تكون الأنشطة كالعطور والورش الحرفية، وهي أماكن معرّضة للحريق والاشتعال، دون وجود وسائل أمان كافية، متسائلا: «من المسؤول عن منح تلك الأنشطة رخصا لمزاولة نشاطها داخل سوق أغلبه من الخشب، ومن الذي سمح لمحال بتغيير واجهاتها من الشكل التراثي البسيط إلى الزجاج والأضواء والطراز العصري، كما هو موجود بالمولات التجارية؟».وطالب الجسار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالتدخل السريع، والقيام بدوره لحماية التراث الكويتي، وأن تقوم البلدية بدورها الرقابي بالتعاون مع المجلس الوطني لحماية ما تبقى من سوق المباركية، وغيرها من المباني ذات الأهمية التاريخية والتراثية.وقع الصدمة وقانون الآثار
اعتبر أستــاذ العمــارة بجامعة الكويت، د. محمد الدواير، أن المباركية ليست مجرد منطقة أسواق، بل ذاكرة وطن وذكريات أجيال، ولذلك لا يمكن أن ننكر على الكويت حزنها وغضبها لآثار هذا الحريق المدمر، في الوقت الذي انتفضت فرنسا وأوروبا كاملة، وربما العالم، لحريق كنيسة نوتردام عام 2019، ليس لأنها مكان ديني، فأغلب الشعب الفرنسي غير متدين، و5 بالمئة فقط يزورون الكنيسة، ولكن لتاريخ وحضارة هذا المبنى الذي اجتمع من أجله البرلمان الفرنسي لمناقشة الأزمة، وسرعان ما استعادت الكنيسة طرازها السابق.وتساءل الدواير: «من المسيطر على سوق المباركية؟، وما الجهة التي يمكن محاسبتها عن آثار هذا الحريق؟»، مضيفا أن على البلدية والمجلس الوطني أن يتحملا مسؤوليتهما تجاه هذا الدمار وتجاه إعادة الترميم على أفضل المستويات العلمية.وقال: «لا يعقل في بلد كالكويت صدر فيه قانون الآثار عام 1960 قبل الاستقلال، وقبل صدوره في أميركا التي أصدرته عام 1966، أن يكون القانون غير مفعّل نتيجة ضعف الجهاز المسيطر على معالمنا الأثرية، وهما البلدية والمجلس الوطني، سواء على مستوى التراخيص والرقابة، والتعامل معه على أنه ليس سوقا ربحيا، لكنه تراث مرتبط بذاكرة الأجيال».وطالب بأن تكون فاجعة احتراق المباركية فرصة للمتخصصين والتشريع الكويتي والجهات المعنية لتفعيل المادة رقم 13 في قانون الآثار، التي تقضي بإعادة المباني الأثرية إلى سابق عهدها دون تغيير.واختتم الدواير حديثه بالتساؤل عن دور إدارة الإطفاء التي «أظهرت خللا كبيرا في الحادث الأخير»، متسائلا: أين أنتم يا رجال الإطفاء؟ ولماذا لم تبرز جهودكم لحماية تراثنا الوطني؟... بالتأكيد المشهد محزن ويترك جرحا في قلب كل كويتي، وربما كل زائر للسوق».«المهندسين»: خارطة تراثية - معمارية لإعادة بناء المباني المتضررة من الحريق
دعت جمعية المهندسين إلى الوقف الفوري لعملية إزالة وهدم المباني المتبقية والمتضررة جراء الحريق الأخير الذي شهده سوق المباركية، مشيرة إلى ضرورة التأني لوضع خارطة ترميم فني - هندسي تأخذ بعين الاعتبار العناصر التراثية لهذا السوق التاريخي، والذي يجب أن تتم المحافظة على ما تبقى منه ليبقى شاهدا على تاريخ وتراث الكويت المعماري والاقتصادي.وأعرب رئيس الجمعية المهندس فيصل العتل، في تصريح صحافي، عن استغراب الجمعية ومعمارييها بشكل خاص من المسارعة بإزالة ما تبقى من شواهد معمارية يمكن الاستفادة منها والحفاظ عليها رغم تضررها الكبير جراء الحريق، مضيفا أنه لابد من وضع خارطة تراثية - معمارية لإعادة بناء ما تبقى من المباني الصالحة، وإعادة تأهيلها وفق المعايير المعمارية للحفاظ على التراث. وطالب العتل بوقف عمليات الإزالة والسماح للمتخصصين في العمل، والمسارعة إلى توثيق ما تبقى والحفاظ عليه، فمن الضروري الاعتماد على المخطط الهيكلي للمواقع التي تمت إزالتها، تمهيدا لإعاة بناء السوق المدمر كما كان عليه قبل الحريق، مؤكدا ضرورة الحفاظ على الطابع المعماري التراثي لسوق السلاح وسوق الطحين وسوق الصفافير التي تضررت بشكل خاص في الحريق الأخير.وأشار إلى أن «ما شهدناه من إسراع في إزالة الأنقاض، وهدم ما تبقى من بعض المواقع، سيدمر الموقع تراثيا، كما أنه سيعوق عملية إجراء تحقيق موسع حول الحريق»، مضيفا أن الخسارة الكبرى هي فقدان الهوية التراثية والمعمارية والإرث التاريخي للسوق، والذي يصعب تعويضه.الحريق التهم 19% من السوق
أعلنت القوة العامة للإطفاء أن المساحة الإجمالية التي تضررت من حريق المباركية الذي اندلع الخميس الماضي بلغت 25 ألف متر مربع من إجمالي المساحة الكلية لمنطقة أسواق المباركية، التي تبلغ 132 الف متر، أي بنسبة تقارب 19 بالمئة.وقد أتى الحريق الذي استمرت مكافحته يومين على عشرات المحال، لاسيما في سوق السلاح الذي كان الأكثر تضررا بالحريق.