بقايا خيال: «Infophobia»
كتاب «وعاظ السلاطين»، للكاتب علي الوردي، ممنوع من التوزيع في دول الديموقراطيات الورقية، كآلاف الكتب التي تتفنن الحكومات بمنع تداولها بين الناس، خوفاً من انحرافهم نحو الحقيقة، ولأن كل ممنوع مرغوب فإن الكتب الممنوعة راجت في السوق السوداء حتى أخذت «دكاكين الثقافة» ببيعها وراء كواليس المتنفذين بأضعاف أسعارها المعروفة، وللعلم لا أحد يجرؤ على منع أي كتاب حسب مزاجه إلا أن يكون من بطانات مسؤولين كبار جميعهم يعانون رهاب المعرفة (Infophobia)، فلا علاقة لهم بالثقافة ولا يحملون صفة رجال دولة إلا بالمظهر الخارجي، حتى إن صاروا قياديين في غفلة من الزمن، وهذه النوعية من البطانة سهل عليها أن تزين لأسيادها الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعكس ما هي عليه، لتخفي عن متخذي القرار حقيقة ما يعانيه الناس في حياتهم اليومية، ولو سُمح بتداول الكتب الممنوعة داخل البلدان التي تدعي الديموقراطية وحرية الفكر والاعتقاد والتعبير لانقلبت أوضاعها رأساً على عقب، وأول خطوة ستكون تطاير رؤوس الوعاظ والمنافقين. عنوان الكتاب «وعاظ السلاطين» يوحي لك وكأن أي مسؤول حكومي كبير لديه واعظ أو مجموعة وعاظ، لا ينقلون إليه ما يجري حوله بموضوعية أو كما هي، بل ينقلون إليه ما يشتهونه هم، ويقومون بتزوير الحقائق فلا ينقلون ما يجب أن يكون عليه حال الناس وما يتمناه «المسؤول»، ولا ينقلون واقع الحال. فالبطانة والوعاظ هم في مجموعهم منافقون يستفيدون من المستنقعات الراكدة لكي يمسكوا بزمام الأمور والتحكم في مصائر بلدانهم، وهم يعرفون أن الكتب المعرفية الممنوعة وما شابه كتاب «وعاظ السلاطين» فيه كشف لعورات كثير من البطانات، وفيه خراب بيوت لعدد غير قليل من حاشية أي مسؤول كبير، ويعرفون أن هذا الكتاب بالذات من أول صفحة فيه حتى آخره، يصف بدقة كيف تعظ الحاشية المنافقة مسؤوليها لإبعادهم عن الحقيقة المرة والواقع المعيش، وما عليك إلا أن تتفحص ما ذكره الكاتب في مقدمة كتابه عندما قال: «اعتاد مفكرو السلطة أن يعزوا علة ما نعاني من تفسخ اجتماعي إلى سوء أخلاقنا، وهم بذلك يعتبرون الإصلاح أمرا ميسورا، فبمجرد أن تصلح أخلاقنا ونغسل من قلوبنا أدران الحسد والأنانية والشهوة نصبح على زعمهم سعداء مرفهين ونعيد مجد الأجداد، إنهم يحسبون النفس البشرية كالثوب الذي يغسل بالماء والصابون فيزول عنه ما اعتراه من وسخ طارئ، وتراهم لذلك يهتفون بملء أفواههم: هذبوا أخلاقكم أيها الناس ونظفوا قلوبكم! فإذا وجدوا الناس لا يتأثرون بمنطقهم هذا انهالوا عليهم بوابل من الخطب الشعواء وصبوا على رؤوسهم الويل والثبور، وإني لأعتقد أن هذا أسخف رأي وأخبثه من ناحية الإصلاح الاجتماعي، فنحن لو بقينا مئات السنين نفعل كما فعل أجدادنا من قبل نصرخ في الناس ونهيب بهم أن يغيروا من طبائعهم، لما وصلنا إلى نتيجة مجدية». انتهى الاقتباس.
وهذا يذكرنا بسالفة جلال الدين الرومي، وقضية رياضة اليوغا في مكان خاص، وحادثة منع عرض التماثيل في المحال التجارية، ومنع الأغاني والاختلاط بين الجنسين وغيرها قضايا كثيرة تافهة لا يثيرها إلا الوعاظ ومن له مصالح لإلهاء الناس بأمور ثانوية، مستخدمين مشرعين للدخول في حروب بالوكالة.