تخرج على يد الفنان الراحل كرم مطاوع كبار الفنانين في مصر والوطن العربي، ولمع اسمه بين مبدعين متميزين أمثال نبيل الألفي، وسعد أردش، وألفريد فرج، ونعمان عاشور وكمال ياسين وحمدي غيث وعبدالرحيم الزرقاني وغيرهم، وتنوعت أعماله بين المسرح، والسينما، والتلفزيون، لكن المسرح ظل عشقه الأول والأخير، ومجال إبداعه المتفرد، وقدَّم من خلاله العديد من الأعمال المسرحية تمثيلاً وإخراجاً، ولاقت نجاحاً كبيراً، ما جعله يُلقب بـ”رائد المسرح الحديث”، و”أيقونة الإخراج والتمثيل المسرحي”.

وأطلق عليه الناقد الراحل علي الراعي "فنان المهام الصعبة” نظراً لمشاركته القيمة بموهبته وخبراته وثقافته وإبداعه في إثراء الحركة الفنية، ويحسب له خلال مسيرته الفنية بصفة عامة إيمانه العميق بعروبته وبمسؤوليته التنويرية في جميع أقطار الوطن العربي.

Ad

رحلة فنية

بدأت رحلة كرم مطاوع بمولده عام 1933 على ضفاف نهر النيل بمدينة دسوق (شمالي القاهرة)، وظهرت موهبته الفنية منذ طفولته، وكان يقلد أفراد عائلته، ويشارك في العروض المسرحية التي يقدمها طلاب مدرسته، ورغم التحاقه بكلية الحقوق، لم يستطع الابتعاد عن التمثيل، وأدرك أن الموهبة وحدها لا تكفي، فالتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية أثناء دراسته بالكلية.

وتخرج مطاوع في كلية الحقوق ومعهد التمثيل في العام نفسه، وكان الأول على دفعته في المعهد، ونال بعثة لدراسة الإخراج في إيطاليا استمرت خمس سنوات، ودرس في الأكاديمية الوطنية للفنون الدرامية بروما.

وقام برحلة فنية في بعض الدول الأوروبية مثل إنكلترا وفرنسا وألمانيا والنمسا ليتعرف إلى الاتجاهات الحديثة في فنون المسرح، ومنها الأعمال الملحمية للكاتب الألماني برتولد بريخت، وتجارب مسرح "اللامعقول” للكاتب الأيرلندي الأصل صمويل بيكيت، والفرنسيين يوجين يونسكو وجان بول سارتر وألبير كامي.

السيد والفرفور

عاد مطاوع إلى مصر في أوائل عام 1964، ووقتها كانت الحركة المسرحية في قمة ازدهارها، وزاخرة بأسماء لامعة من الكتاب والمخرجين منهم ألفريد فرج ونعمان عاشور وسعدالدين وهبة وعبدالرحيم الزرقاني وسعد أردش.

بدأ مطاوع نشاطه الأكاديمي، كأستاذ في معهد الفنون المسرحية، لكنّ طموحاته الإبداعية دفعته نحو عالم التمثيل والإخراج، ووقع أوراق اعتماده كمخرج من خلال مسرحية "الفرافير” (1964)، للكاتب يوسف إدريس، ودارت أحداثها حول الصراع بين "السيد” الذي جسّده الفنان توفيق الدقن و”الفرفور” الفنان عبدالسلام محمد، وشارك في البطولة الفنانة سهير البابلي وعبدالرحمن أبوزهرة ورجاء حسين وعادل هاشم وأحمد الجزيري.

كانت "الفرافير” مغامرة مسرحية سواء للكاتب أو المخرج أو فريق العمل، وتناغم مشروعهم المسرحي في التفاعل مع المدارس الحديثة، وقدموا عرضاً ملحمياً، يعتمد على تحطيم الجدار الرابع بين الممثل والمتفرج، وإشراك الجمهور في العرض، والتمرد على التقمص في الأداء، أو "الاندماج الكامل للممثل” وكلها عناصر مغايرة لنمط العروض الكلاسيكية.

وحققت هذه المسرحية نجاحاً جماهيرياً ونقدياً كبيراً، وتوالت بعد ذلك مسرحيات كرم مطاوع ذات الطابع التراجيدي مثل "ياسين وبهية” للكاتب نجيب سرور، و”الفتى مهران” تأليف عبدالرحمن الشرقاوي”، و”شهر زاد” للكاتب توفيق الحكيم، و”ليلة مصرع جيفارا” لمؤلفها ميخائيل رومان.

وتراوحت أعمال مطاوع بين مضامين متنوعة، والتعبير عن هموم وقضايا الإنسان العربي، وتحقيق شروط وجماليات العرض المسرحي الجاذب للجمهور، وسط منافسة شديدة مع مسرح القطاع الخاص آنذاك، وأيضاً كرَّس إبداعه للارتقاء بوعي وذائقة المتفرج، وابتكار رؤى إخراجية غير مسبوقة في المسرح المصري.

وتعددت مهام كرم مطاوع كمخرج وممثل وأستاذ في معهد الفنون المسرحية وعمل أيضاً مديراً لمسرح الجيب، ومديراً للمسرح القومي والمسرح الغنائي ورئيساً للمركز القومي للسينما وللبيت الفني للمسرح.

عطاء أكاديمي

وطار كرم مطاوع إلى عدد من الدول العربية، وعمل أستاذاً في المعهد الوطني للفنون الدرامية بالجزائر والمعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت، وتخرج على يديه فنانون أصبحوا رواداً للمسرح فيما بعد، منهم من الكويت الفنانتين سعاد عبدالله، ومريم الصالح، والفنان علي المفيدي، ومن البحرين يوسف الحمدان وسامي القوز، وخليفة العريفي، وأحلام محمد وفاطمة الدوسري، وقحطان القحطاني، ومحمد المنصور، ومن الجزائر مرير جمال وصوفيا وماس حميد وظياني شريف وعياد مصطفى.

واستقر في ذاكرة تلاميذ مطاوع عطاؤه الأكاديمي، وصورة "الأستاذ” الأكثر جدية وأناقة وصرامة، من بين منْ تعلموا على أيديهم، وشغفه الهائل بدروسه الإخراجية والأدائية، إذ إن الدرس بالنسبة إليه تجربة متواصلة لا تتوقف أو تنتهي عند استراحة بين محاضرتين أو تدريبين.

ويروي الفنان البحريني يوسف الحمدان ذكرياته مع أستاذه في منتصف سبعينيات القرن الماضي، حيث كان طالباً في قسم النقد والأدب بالمعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت، أنه أثناء الوقت الذي يزاول فيه "الأستاذ” تدريباته المسرحية مع طلاب قسم التمثيل والإخراج في مسرح المعهد، لا يمكن لأي طالب من قسم آخر أو من دفعة أخرى أن يرفع صوته في مقهى المعهد، أو يأخذه المزاح مع زملائه إلى حد الضحك، فقد كانت له هيبة غير عادية في المعهد، وشخصيته الجادة الصارمة تجبر كل من هو خارج الدرس أو التدريب على الصمت، وحين يسمع ولو بعض صوت أو همس مرتفع، كان يخرج من المسرح، ليقف عند الباب من دون أن ينبس بكلمة، ليعم الصمت ثانية.

وكان الأستاذ كرم مطاوع حريصاً كل الحرص، أن يتعلم منه طلابه ما يدربهم عليه بدقة متناهية، كما لو أنه فعلاً يعدهم لعرض مسرحي في إطار فرقة مسرحية، وكما لو أنه يشعر هذه اللحظة أنه في مختبر مسرح الجيب المصري بين أقرانه من المسرحيين، لا بين طلبة يدربهم ويعلمهم في معهد مسرحي.

ليلة مصرع جيفارا

كان كرم مطاوع عاشقاً للمسرح ويتمتع بصوت قوي وحضور مميز، بما يشعر كل متفرج في صالة العرض، أنه يخاطبه من دون غيره من الحضور، ويُروى عن مدى اهتمامه بتأثير الممثل في الجمهور أنه في مسرحية "ليلة مصرع جيفارا” عام 1969 عمد كمخرج إلى اختراق قاعة العرض بخشبة مسرح إضافية، واختار الفنان محمود ياسين بصوته وأدائه المميز، ليشاركه البطولة، وفي إحدى ليالي العرض، كان مطاوع يخاطب الجمهور، وأشار ناحية أحد المتفرجين، فانتفض واقفاً وضجت القاعة بالضحك والتصفيق.

ورأى البعض أن قناعة مطاوع بالأداء المسرحي، جرفته بعيداً عن السينما، وكان يرى أن الممثل يجب أن يتمتع بقوة في الأداء ويمكن أن يقللها في السينما، لكنها يجب أن تتوفر لديه بكثرة، وأن من لديه موهبة كبيرة قادر على اختزالها في الوقت اللازم، والممثل الجيد يستطيع التعبير عن موهبته، وإيصالها للجمهور.

وعن مواصفات الممثل المثالي، كان مطاوع يقول: "يجب أن يكون لديه صوت قوي، وموهبة، وقبول، ثم تدخل فيه عناصر التدريب والتثقيف الفني، ويكمن في محاولته تدريب صوته ومعرفة مساحته، وكيف يكون لديه سيولة وليونة للتعبير الحركي والجسدي، إلى جانب دراسة علم النفس والديكورات المسرحية ليكون قادراً على التعامل مع كل عناصر المسرح”.

ورغم أنه يعتبر من أهم مجددي المسرح، فإن هذا النجاح المسرحي لم يكن بالقدر نفسه في السينما والتلفزيون، فكانت له بضعة أدوار مهمة فيهما لا يضاهي عددها إسهاماته الغزيرة في المسرح، ومنها دوره فى أفلام "سيد درويش” (1964) و”إضراب الشحاتين” (1967)، واحتجب عن السينما فترة طويلة ناهزت 20 عاماً، ليظهر مُجدداً في فيلم "المنسي” عام 1993 مع النجم عادل إمام ويسرا والمؤلف وحيد حامد والمخرج شريف عرفة.

وفي فترة غيابه عن السينما، قدّم العديد من المسرحيات التي قام بإخراج بعض منها وبطولة البعض الآخر، ومن أهمها "دنيا البيانولا”، و”اليهودي التائه”، و”السؤال”، و”أوديب”، و”هاملت”، و”خشب الورد”، و”وطني عكا”، و”يا بهية وخبريني”، و”شهرزاد”، و”الإسكندر الأكبر”.

كواليس إيزيس

وشهدت كواليس أعمال كرم مطاوع الكثير من المواقف الدالة على الإرادة والعزيمة والإصرار، ومنها مسرحية "إيزيس” (1986) للكاتب توفيق الحكيم، وبطولة سهير المرشدي وحمزة الشيمي وأحمد حمدي وأحمد حلاوة وفاتن أنور ونبيل بدر، وتدور أحداثها في العصر الفرعوني حول العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

ويروي المخرج عمرو دوارة ذكرياته كمساعد مخرج في تلك المسرحية، وكيف كانت البروفات تستمر لأكثر من 15 ساعة يومياً بين استديو 46 بالإذاعة لإتمام التسجيلات الصوتية وخشبة المسرح، ووقتها كان المخرج كرم مطاوع يغالب آلام نزلة برد حادة، ليستمر يومياً في متابعة البروفات حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي.

هكذا قال المخرج والمؤرخ المسرحي عمرو دوارة عن المخرج الراحل كرم مطاوع من خلال فصول كتابه "كرم مطاوع... مؤلف العرض المسرحي”، وتناول السيرة الذاتية والفنية لهذا المبدع من خلال مرافقته له كمخرج منفذ سواء في عروضه المسرحية أو حفلات افتتاح أغلب مسارح الدولة مثل "المسرح القومي” و”دار الأوبرا المصرية” التي أشرف عليها مطاوع إشرافاً كاملاً حتى جرى افتتاحها عام 1988.

ورغم موهبته التمثيلية الطاغية، فإنه قام ببطولة عشرة عروض فقط بينما صال وجال في مجال الإخراج المسرحي الأقرب إلى نفسه، فأخرج أكثر من 56 مسرحية كان أغلبها من نصيب مسرح الدولة وتحديداً فرقة المسرح القومي، منها "وطني عكا” (1969)، و”النسر الأحمر” (1975)، و”أنشودة الدم” (1991).

وظل مطاوع يزاوج بين إبداعه وعمله الأكاديمي، حتى أصيب بمرض سرطان الكبد، ورغم سفره للعلاج في الولايات المتحدة، فإن هذا لم يكن له تأثير فعّال، وعاد إلى مصر واشتدت عليه آلام المرض، ونُقِل إلى المشفى، ووقفت بجواره زوجته ورفيقة عمره الفنانة سهير المرشدي حتى رحيله في 9 ديسمبر 1996.

«ثأر الله» تثير أزمة مع الأزهر الشريف
اصطدمت أعمال الفنان الراحل كرم مطاوع كثيراً بالرقابة، ومن أبرزها مسرحية «ثار الله» للكاتب عبدالرحمن الشرقاوي، والتي كانت أحد أحلامه المسرحية.

وبدأت الأزمة عام 1972، حين قرّر مطاوع تحويل النص إلى عمل مسرحي يتناول قصة كفاح الإمام الحسين، وبالفعل بدأ في اختيار أبطال العمل مع التركيز على معايير معينة تتفق مع جلال النص.

وتحمس مطاوع وفريق العمل للانتهاء من البروفات، وتحديد موعد العرض الجماهيري، وخلال تلك الاستعدادات المكثفة، واجهتهم أزمة كبيرة وخيبة أمل لم تكن في الحسبان، حين اعترض الأزهر الشريف (أعلى مرجعية دينية إسلامية في مصر) على تجسيد الشخصيات التي تنتمي إلى آل البيت ضمن أحداث المسرحية.

وحصل مطاوع على موافقة الأزهر، بعد أن جرى الاتفاق على حلٍّ وسط، وهو أن يبدأ الفنان عبدالله غيث الذي يجسِّد شخصية الإمام الحسين كلامه بعبارة: "قال الحسين”، وأن تفعل الفنانة أمينة رزق التي تجسِّد شخصية السيدة زينب نفس الشيء أيضاً.

وقام مطاوع بدعوة عددٍ من علماء الأزهر الأجلاء وعدد من الصحافيين والكُتَّاب والمبدعين والمفكرين والأدباء لمشاهدة البروفة مع مسؤولين من الرقابة على المصنفات الفنية، وبدأت البروفة النهائية وأشاد بها كل الحضور.

وكانت البروفة بمثابة عرض مسرحي متكامل، وأبدع كرم مطاوع في إخراجها، كما تألق جميع النجوم في أداء أدوارهم، والحفاظ على الخط الإسلامي والمعايير الدينية وذلك بشهادة كل من حضر وشاهد البروفة التي تعتبر عرضاً خاصاً للمسرحية. ورغم توافر كل هذه العناصر أصر الأزهر على رأيه ولم يسحب اعتراضه، بالتالي لم تُعرض المسرحية للجمهور، ولم تُسجل تلفزيونياً، وباءت بالفشل محاولات كرم مطاوع لعرضها.

جوائز وتكريمات
حصل مطاوع على جوائز وتكريمات عدة، منها وسام الفنون من الدرجة الأولى من الرئيس جمال عبدالناصر، كما جرى تكريمه في مهرجان قرطاج بتونس.

وحرص مهرجان «شرم الشيخ للمسرح الشبابي» في دورته عام 2017 على تكريم الفنان الراحل بإطلاق اسمه على تلك الفعالية، وتعريف الفنانين الشباب بدوره الرائد في تحديث المسرح المصري.

وأقامت إدارة المهرجان ندوة خاصة للفنان كرم مطاوع بحضور أرملته الفنانة سهير المرشدي، وابنته الفنانة حنان مطاوع، والناقد حسن عطية، والمخرج عمرو دوارة، وأظهرت المرشدي سعادتها البالغة بالتكريم، وقالت وقتها: «كرم مطاوع فنان عظيم، وكل مَنْ تذكره وقرّر تكريمه بعد 20 عاماً على رحيله يفهم جيداً القيمة الفنية الكبيرة، التي قدّمها لمصر والوطن العربي».

وأضافت أن مطاوع كان ممثلاً عبقرياً، ظلم نفسه بالإخراج الذي أخذ كل وقته، لأن المخرج دائماً ما يقع تحت ضغوطات كبرى في التركيز على جميع عناصر العرض المسرحي.

أحمد الجمَّال