في ظلال الدستور: الاقتراع على اختيار قضاة المحكمة الدستورية محاولة للفهم (3 من 3)
وجود محكمة التمييز في تشكيل المحكمة الدستورية ضمانة لصون قضائها عند ممارستها اختصاصها الموضوعي بالفصل في الطعون الانتخابية، من التوغل على اختصاص القضاء العام صاحب الولاية العامة في رقابة مشروعية القرارات الإدارية، وصاحب الولاية العامة في تطبيق القوانين الجزائية، وتوقيع العقوبات الأصلية، وما يتبعها من عقوبات تبعية.
بينا في المقالين السابقين تحت العنوان ذاته يومي الأحد والاثنين الماضيين، أن الاقتراع السري الأخير في تشكيل المحكمة الدستورية، وقد غيب محكمة التمييز عن هذا التشكيل، لأول مرة منذ إنشاء المحكمة الدستورية سنة 1973، وتداعيات ذلك المختلفة على ضوابط العمل القضائي وعلى التقاليد القضائية، وعلى ركن هام في القضاء لا يقوم على عاطفة العدل وحدها، بل على تأمين الناس من شر الاختلاف في تفسير القانون، أو الالتباس في تأويله وتطبيقه، وهو الأساس في إنشاء محكمة التمييز.افتقاد التآخي والتراحم
ولعل ما بدا لي أشد وطأة على النفس وأشد ألما في الاقتراع الأخير على اختيار قضاة المحكمة الدستورية، فقدانه التآخي والود والتراحم والاحترام بين القضاة، الذين هم القدوة بين الناس جميعا، وفي سياق ما قلناه في المقالين السابقين، من أن القضاة يلزمون أنفسهم، بما لا يلتزم به الآخرون، وأول ما يلتزمون به هو العدل، ولكن ليس بالمفهوم الضيق الذي تعارف عليه عامة الناس، وهو تحقيق المساواة بينهم، وقد حقق الاقتراع هذه المساواة، بأن يكون لكل من المقترعين صوت واحد، بل بالمفهوم الأوسع وهو الإحسان، وقد قرن الله تعالى العدل بالإحسان في قوله سبحانه «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ» والذي يعني التآخي والود والتراحم، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى له سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى». وقد تداعى الجسد القضائي كله في وحدته وقوته وتماسكه، بما لحق المحكمة الدستورية من ضرر بالغ، بإهدار الركن المكين في تكوينها، والعمود الفقري في قضائها، الذي صان الدستور، عبر نصف قرن منذ إنشائها وهو غياب قضاء التمييز في الاقتراع الأخير بتشكيل المحكمة الدستورية. مقاصد المشرع وليس من ذنب المشرع أنه أراد أن ينأى بالسلطة التنفيذية عن أي دور لها في اختيار قضاة المحكمة الدستورية، بأن عهد إلى المجلس الأعلى للقضاء بإجراء هذا الاقتراع، من بين أعضائه ومن غيرهم من المستشارين الكويتيين، وقد أنشأ الدستور هذا المجلس في المادة (168) لإدارة شؤون القضاة، بما يحقق ضمانة جوهرية لاستقلال الجهة القضائية التي عهد الدستور إليها برقابة دستورية القوانين واللوائح في المادة (173)، واشترطت المادة الثانية من قانون المحكمة الدستورية، سرية الاقتراع، لرفع الحرج عن أعضاء هذا المجلس في هذا الاختيار، وضمان الحيدة والتجرد في هذا الاختيار، خاصة أن المحكمة الدستورية، ومهمتها صون الدستور، بما يفرض عليها فضلا عن تفسير النص الدستوري، وفقا لدلالة ألفاظه وعباراته، أن تبحث مقاصد المشرع الدستوري، وهي مقاصد سياسية، فضلا عن التعرف على الواقع وحاجاته، وفرض ما هو واجب على هذا الواقع، فيختلط العمل الفني القضائي، بالواقع السياسي، مستلهما مبادئ المجتمع الذي يعيش فيه، بحسب فهمه لهذه المبادئ. كما كان للمشرع مقصد آخر هو أن يؤكد على الطابع القضائي للمحكمة الدستورية، بما لا يخالف المادة (173) من الدستور التي نصت على أن: «يعين القانون الجهة القضائية التي تختص بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح»، وكان بعض أعضاء مجلس الأمة قد قدموا اقتراحا بديلا لمشروع الحكومة وقتئذ، بتشكيل المحكمة الدستورية من سبعة أعضاء، ثلاثه منهم فقط من القضاة، وتختار الحكومة والمجلس الأربعة الآخرين مناصفة. إلا أنه قد غاب عن المشرع في قانون إنشاء المحكمة الدستورية، أن من بين أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، وكيل وزارة العدل الذي يتبع وزير العدل، والنائب العام، الذي يتبعه كذلك إعمالا لأحكام المادة (60) من قانون تنظيم القضاء، وذلك «فيما عدا الاختصاص المتعلق بشأن من شؤون الدعوى الجزائية وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بتحريك هذه الدعوى ومباشرتها وتحقيقها والتصرف والادعاء فيها». فلا تثريب عليهما، أن صوتا، طبقا لما يراه وزير العدل، وهو أحد أعضاء السلطة التنفيذية. محكمة التمييز صمام أمان للقانون وتفسيره وتطبيقه، بما يرسي مبدأ سيادة القانون والدولة القانونية، ويحافظ على وحدة النظام القضائي وتماسكه، فقد كان وجود محكمة التمييز، ممثلة في تشكيل المحكمة الدستورية طيلة نصف قرن، عاصما لهذه المحكمة من التوغل على الولاية العامة للقضاء العام، سواء في تطبيق القوانين الجزائية أو في رقابته لمشروعية القرارات الإدارية الصادرة في العملية الانتخابية. حيث حجبت المحكمة الدستورية نفسها عن اقتحام الدرب الصعب الذي تخشاه أي رقابة قضائية على دستورية القوانين في الصراع مع السلطة السياسية المنتخبة من الشعب، وعلى دستورية اللوائح التي تصدرها السلطة التنفيذية، وهي سلطة سياسية أيضا، بما وفرته محكمة التمييز، من تفسير النصوص التشريعية المطعون بعدم دستوريتها، على الوجه الصحيح، بالنأي بالمحكمة الدستورية عن القضاء بعدم دستورية هذه النصوص، إذا كان هذا القضاء، ليس ضروريا أو حتميا، لتفصل محكمة الموضوع في النزاع المقام أمامها، وفقا لدلالة من دلالات النص، ومحكمة التمييز صاحبة الاختصاص الأصيل والوحيد في النظام القضائي كله، بهذا الأمر. كما كان وجود محكمة التمييز، في تشكيل المحكمة الدستورية ضمانة لصون قضائها عند ممارستها اختصاصها الموضوعي بالفصل في الطعون الانتخابية، من التوغل على اختصاص القضاء العام صاحب الولاية العامة في رقابة مشروعية القرارات الإدارية، وصاحب الولاية العامة في تطبيق القوانين الجزائية، وتوقيع العقوبات الأصلية، وما يتبعها من عقوبات تبعية، عندما قصرت الدستورية مهمتها في الفصل في الطعون الانتخابية، رقابة شروط الإجراءات من بدء التصويت، حتى إعلان نتائج الانتخابات بعد أن يكون القضاء العام قد استنفد ولايته في الطعن على الإجراءات السابقة، على عملية بدء التصويت. وقد كان حصاد ذلك توغل المحكمة الدستورية على هاتين الولايتين في حكمها الصادر في الطعن رقم 2580 لسنة 2020 بإبطال انتخاب المطعون على انتخابه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وإهدارها أحكاما قضائية نهائية وباتة، حائزة قوة الأمر المقضي فيه. وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.