أوكرانيا غيّرت ميزان القوى في أوروبا إلى الأبد
تتوقف الشروط التي سيوافق عليها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وروسيا لإنهاء الأعمال العدائية على أهداف الأطراف المتناحرة، فبعد الغزو الروسي، تراجعت أوكرانيا عن موقفها حول الحياد، حيث يدعو الدستور الأوكراني إلى انضمام البلد إلى الناتو، ومع ذلك تطرّق زيلينسكي إلى مسألة انحياز أوكرانيا كنقطة أساسية في أي مفاوضات محتملة بعد ثلاثة أيام فقط على بدء الهجوم الروسي.لكن سيكون التفاوض حول حياد البلد صعباً، فمن المتوقع أن يطالب زيلينسكي وبوتين بالتزامات واقعية من واشنطن وحلف الناتو لضمان حياد أوكرانيا من الناحية القانونية، بما يشبه على الأرجح معاهدة الدولة النمساوية في عام 1955.ستكون أي معادلة تضمن الحياد بين أوكرانيا وروسيا بداية العقبات الدبلوماسية التي تواجهها واشنطن، وسيحاول بوتين طبعاً المطالبة بإلغاء العقوبات الغربية ضد بلده كشرط أساسي لوقف الأعمال العدائية، لكن يعارض الليبراليون العالميون رفع العقوبات ويشددون على دور الولايات المتحدة في دعم «الشعوب الحرّة»، ويصعب أن يتقبّل هذا المعسكر عدم معاقبة روسيا على غزو أوكرانيا أو احتلالها العسكري لشبه جزيرة القرم ودونباس، حتى لو وافقت أوكرانيا في نهاية المطاف على استمرار ذلك الاحتلال لإنهاء القتال، إذ يريد مؤيدو العولمة أن تُعاقَب روسيا اليوم، مثلما أراد الفائزون في فرساي أن تدفع ألمانيا ثمن أخطائها في الماضي، لكن أي صيغة سلام لصالح أوكرانيا ستكون شبه مستحيلة إذا لم يكن الغرب مستعداً لتقبّل حل لا يهين أياً من الطرفَين، ومن المتوقع أن تطول عملية التفاوض وتصل الحرب إلى طريق مسدود، لكن قد تعتبر واشنطن هذا السيناريو مقبولاً لأنه يستنزف موارد الدولة الروسية ويُضعِف قدرة بوتين على البقاء في السلطة.
تزامناً مع تدمير أوكرانيا، بدأ الغزو الروسي يغيّر ميزان القوى بطريقة قد تمنح منافع استراتيجية لأوروبا وتنعكس إيجاباً على الأمن العالمي أيضاً، فقد كان التحرك الروسي الأحمق في أوكرانيا كفيلاً بإيقاظ حلفاء واشنطن الأوروبيين، حيث بدأت دول الناتو العمل على تحديث جيوشها كي تُحسّن قدرتها على الدفاع عن نفسها ضد أي عدوان روسي لا يصل إلى مستوى الحرب النووية، ويستطيع الأوروبيون تحقيق هذا الهدف، فقد أثبت الجيش الروسي في أوكرانيا أنه ليس بالقوة التي كان يخشاها الغرب. في مجال السياسة الخارجية، يجب أن تعطي الولايات المتحدة الأولوية لوضع خطة تمتد على سنوات عدة وتهدف إلى نقل معظم مسؤوليات قيادة الدفاع الأوروبي إلى الحلفاء، ولن يكون تقليص البصمة العسكرية الأميركية تدريجاً في أوروبا مرادفاً للعودة إلى حقبة العزلة الأميركية، بل إن تعديل الموارد العسكرية بطريقة استراتيجية قد يسمح للولايات المتحدة بإعادة نشر قواتها المتوسّعة بدرجة مفرطة تمهيداً لتجاوز التحديات العالمية الأخرى، إذ كان يُفترض أن يُعاد تنظيم المسؤوليات والموارد العسكرية بين الديموقراطيات في أوروبا منذ وقت طويل.لإحداث هذا التغيير، قد لا يتعلق أكبر عائق بمعارضة أوروبا بل بالعقلية السائدة في واشنطن، ففي آخر 75 سنة، تمسّكت سياسة الأمن القومي الأميركية بالمبدأ القائل إن الولايات المتحدة يجب أن تتسلم القيادة العسكرية العالمية لحماية الديموقراطية، وفي حين تبحث أوروبا عن خيارات بديلة لبناء قوة قتالية أكثر فاعلية، يجب أن يتقبل الدبلوماسيون الأميركيون والبنتاغون الأحداث الحتمية التي ينذر بها تاريخ القارة، ويُفترض أن يتعلق الهدف الأساسي بدعم الحلفاء الأوروبيين إلى أن يجدوا الصيغة المناسبة لحماية أمنهم، حيث تخوض أوكرانيا اليوم حرباً شاملة بسبب إصرارها على السير في طريق بعيد عن الهيمنة الروسية، فعلى المستوى الاستراتيجي، يجب أن يشجّع الغزو الروسي الديموقراطيات الأوروبية على التخلي عن البنية البالية للحرب الباردة التي ركّزت لفترة طويلة على درجة فائقة من الحماية الأميركية.* رامون ماركس