ولد الفنان نهاد قلعي في حي ساروجا بدمشق، في السابع عشر من أكتوبر عام 1928، واسمه الحقيقي أحمد نهاد قلعي الخربوطلي، لكنه اعتمد اسم «نهاد قلعي» في أعماله الفنية. والده محمد رفقي، ووالدته بدرية العطري. ونتيجة لقلة المصادر حول حياة الفنان في بداياتها، فقد سُجل العديد من الأخطاء في توثيق معلومات مولده على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام، التي نسبت مواليده إلى مدينة زحلة في لبنان لأب سوري. ومن المعروف عنه لاحقاً أنه قضى وقتاً طويلاً، متنقلاً بين لبنان وسورية؛ يقدم باكورة أعماله، ويسجل ويصور للشاشة، ويعتلي خشبة المسرح بحب وثبات. تعلم نهاد في مدارس دمشق، حيث بدأ في مدرسة «البخارية الابتدائية»، وفي هذه المرحلة اكتشفه أحد أساتذته، وهو أستاذ مادة الرسم الفنان عبدالوهاب أبوسعود، وهو أيضاً من الجيل المؤسس في المسرح السوري، اكتشف موهبته في التمثيل عندما كان الفنان نهاد يشارك في المسرحيات المدرسية، الأمر الذي دفع بالفنان وصفي المالح إلى أن يوكل إلى قلعي دوراً صغيراً في مسرحية «مجنون ليلى»، حيث قدم فيه قصيدة بعنوان «قلب الأم» للشاعر الصحافي والأديب اللبناني إبراهيم بن ميخائيل المنذر، التي كانت تُعرض على مسرح الهبرا في حيّ القصاع.
أول الأدوار
وعن تلك المرحلة يقول نهاد: عندما كان عمري سبع سنوات تعرفت في داخلي على الفنان الممثل، وما زلت أذكر أول أدواري حتى الآن، فعندما كنت أكتب الجزء الثاني من المسلسل الكوميدي «صح النوم»، وتحديدا في الحلقة التي تتحدث عن عيد الأم كتبت نفس القصيدة التي قمت بتمثيلها أول مرة في حياتي، فقد حاولت أن أتذكرها، والتي كانت قصتها تدور حول موضوع «الشاب الذي تم إغراؤه لقتل أمه، وقتلها بالفعل، ولو أنها حالة نادرة الحدوث:أغرى امرؤ يوماً غلاماً جاهلاً بنقوده حتى ينال به الوطر قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى ولك الدراهم والجواهر والدرر انتسب قلعي مطلع عام 1946 إلى نادي «استوديو البرق الفني»، في مبنى العابد، وسط ساحة المرجة، وفيه قدم مع زملاء له مسرحية «جيشنا السوري»، احتفالاً بجلاء الجيش الفرنسي عن سورية وعيد الجلاء الأول، في 17 أبريل 1946، إلا أن دور نهاد قلعي كان متواضعاً فيها. وتقول بعض المصادر إن السلطات اعتقلت حينها بطل المسرحية «حسن ستّي»، فاضطر نهاد لأن يلعب دوره عشية العرض الأول، في دار سينما عائدة بساحة الحجاز.المكتشف الحقيقي
أنهى نهاد قلعي دراسته في المرحلة الثانوية في «ثانوية التجهيز» بدمشق، وهي «ثانوية جودت الهاشمي»، اليوم، ويعتبر خاله «توفيق العطري» المسرحي المعروف أول من اكتشف موهبته التمثيلية الحقيقية، فأوصى بإرساله لدراسة التمثيل في القاهرة، حيث استطاع قلعي لقاء مدير معهد التمثيل زكي طليمات في إحدى زيارته لدمشق وإقناعه بموهبته التمثيلية، فأرسل زكي خطاباً إلى السفارة المصرية في سورية طالباً تأشيرة دخول لقلعي إلى مصر، للالتحاق بالمعهد، إلا أنه تعرض للسرقة، قبل سفره بأيام قليلة، حيث سرقت نقوده التي حولها للجنيه المصري، ولم يستطع السفر إلى مصر فاضطر للبقاء في دمشق والعمل فيها، وكانت هذه الحادثة هي أولى العقبات التي تعرض لها في بداية مشواره لتحقيق حلمه. قرر نهاد وقتها الانصراف إلى العمل في عدة مهن مختلفة، لا علاقة لها بالفن، ومن تلك المهن عمله كمراقب للعمل في معمل للمعكرونة بمنطقة الميدان في دمشق، وبعد فترة قام بتكبير عمره في السجل المدني سنتين، ليستطيع الحصول على عمل جديد كضارب على الآلة الكاتبة في جامعة دمشق بقي فيها ست سنوات، وخلال هذه السنوات الست تزوج وأنجب، ثم انتقل بنفس عمله على الآلة الكاتبة إلى وزارة الدفاع فترة من الزمن، ثم استقال ليعمل بعد ذلك كمخلص جمركي مدة خمس سنوات، وقرر بعدها العمل كمخلص جمركي أيضاً لكن لحسابه الخاص.تعرض نهاد في بداية مشواره لعقبات كبيرة حالت دون مباشرته العمل في التمثيل، الذي مثل له حلماً حقيقياً. وفي أحد لقاءاته التلفزيونية، بعد سنوات طويلة من عمله الفني، اعتبر البورظان أن وجود لحظات قد يشعر فيها بالندم كونه ترك التجارة واتجه إلى الفن هي لحظات ضعف لا أكثر، قد تكون عابرة، على الرغم من أن العمل الفني بالنسبة له أفقده الكثير من هويته الشخصية.«النادي الشرقي»
أسس قلعي عام 1954 «النادي الشرقي» مع كل من سامي جانو والمخرج خلدون المالح وعادل خياطة، وفيه قدم أول دور كوميدي له على خشبة مسرح «مدرسة اللايك»، قبل المشاركة في العروض الفنية على مسرح معرض دمشق الدولي، وبدأ في هذه المرحلة بتقديم عدد من المسرحيات ذات الطابع الكوميدي بين عامي (1957- 1959)، وكانت مسرحية «الأستاذ كلينيكوف» هي أول عمل تقدمه الفرقة، وكان هذا العمل أساساً في اكتشاف قلعي لنفسه كممثل كوميدي من خلال الشخصية التي أداها، كما قدم مع الفرقة الخاصة به العديد من الأعمال المسرحية، ومنها «لولا النساء» التي كتبها سامي جانو عام 1957، و”ثمن الحرية» عام 1958 التي أخرجها قلعي؛ تلك المسرحية التي نالت رضا وإعجاب النقاد، ففي زمن الوحدة مع مصر، توجه قلعي إلى القاهرة لتقديم مسرحية «ثمن الحرية» على مسرح الأزبكية في فبراير 1959. كانت مسرحية أجنبية لعمانويل روبلزس، وقد عربها د. زهير براقي ونقل أحداثها من فنزويلا إلى أرض الجزائر الثائرة ضد الفرنسيين، وأدخل عليها حوارات عميقة عن القومية العربية.عرضت هذه المسرحية في القاهرة ثلاثة أسابيع، وكانت باللغة العربية الفصحى، وقد أثنى عليها عميد المسرح المصري يوسف بك وهبي. ثم عاد قلعي بعدها إلى دمشق، حيث كلفته وزارة الثقافة بتأسيس المسرح القومي وإدارته، ليكون مسرحاً رسمياً مدعوماً من حكومة الجمهورية العربية المتحدة.مراحل حياته
قسم الفنان نهاد قلعي حياته الفنية إلى مرحلتين، مرحلة الهواية ثم مرحلة الاحتراف، فبعد أن بدأت بوادر هواية التمثيل لديه في عمر ست سنوات، واكتشف بنفسه أن لديه ميولاً كبيرة تجاه الفن وعشقاً للتمثيل، وشاركه في هذا الاكتشاف أساتذته وزملاؤه في المدرسة. يقول عن هذه المرحلة، في حوار له على الشاشة: بدأت مع زملاء لي بتشكيل فرقة فنية أطلقنا عليها اسم «النادي الشرقي» في بداية الخمسينيات. ويضيف أنها ربما لم تكن جيدة، لكنها بداية للانطلاق. أما المسرحية التي اعتبرها قلعي النقطة المضيئة في مشواره الفني كانت مسرحية «ثمن الحرية»، التي عرضت في دمشق وفي القاهرة أيضاً، حيث اعتمد كادرُ المسرحية، الذي كان عبارة عن فريق مشكل حديثاً، في سفره إلى مصر، على ما تحتويه جيوبهم من مبالغ ضئيلة وقتها، حيث كان أعضاء المسرحية يجمعون ما يستطيعون من مال مدخر لفرصة كهذه، وكان الكادر يقدم مسرحية واحدة في السنة أو اثنتين على الأكثر، فالعمل المسرحي في تلك الفترة كان دائماً خاسراً. ولتسديد ما عليهم من ديون في المسرحية الأولى كانوا يقدمون المسرحية الثانية. ويتابع قلعي: كان من الجيد أن يتقبل الجمهور المصري عرض مسرحية «ثمن الحرية» بشكل رائع وبحماس شديد، ففي ذاك الوقت كانت المسرحيات الوطنية في مصر شبه معدومة، كما كانت الثورة الجزائرية في أوجها، لذلك تجاوب الشعب المصري مع المسرحية تجاوباً كبيراً. ومن الناحية الفنية تم تعريب المسرحية الأجنبية، لتكون الأحداث بين الجزائر وفرنسا، وأعد تلك المسرحية د. زهير بقاعي مما جعل قبولها كبيراً. وبعد أن شعر بعض المسؤولين أن هناك نواة لتشكيل فرقة مسرحية جيدة تم تكليف نهاد مع بعض الزملاء لتشكيل هذه الفرقة في المسرح القومي الموجود إلى الآن، فكان مديراً للمسرح وممثلاً ومخرجاً. يقول «لقد كنت عتالاً أيضاً، كنت أعمل كل ما بوسعي حتى ينجح المسرح، أي أن تلك المرحلة الجديدة مشابهة لمرحلة الهواية، حتى نقنع الناس والمسؤولين بجدوى عملنا، ونجحنا فعلا في تلك الفترة”. كان قلعي في المرحلة التي سماها مرحلة الهواية يعمل مخرجا لجميع المسرحيات، إلا أن بعضها كان من إخراج آخرين كالمذيع المعروف في الإذاعة السورية والتلفزيون وقتها، الراحل عادل خياطة. أما في المسرح القومي فيذكر قلعي المخرج هاني صنوبر، الذي ساعد بشكل كبير في تأسيس المسرح ونشأته، ويعود الفضل في كل ذلك، كما قال الفنان قلعي، إلى مسرحية «ثمن الحرية»، التي كانت طريقه المباشر للاحتراف.كانت مسرحية "المزيفون” هي أول مسرحية تقدم على المسرح القومي لمحمود تيمور، والإخراج لنهاد قلعي، مشاركا في التمثيل أيضاً، كما قُدمت على المسرح القومي وقتها مختلف أنواع المسرحيات، ومنها التجارية، فقد كان المسرح نشطاً ويقدم أسبوعياً مسرحياته، ومنها ما قدمه الفنان الراحل عبد اللطيف فتحي، فكان يقدم كل يوم خميس مسرحية جديدة. وعن المسرح واختلافه بين الأمس واليوم، يؤكد قلعي أن الاختلافات أصبحت واضحة، بدون أدنى شك، فالفنان المتواضع يعمل دائماً كهاوٍ، فيتعب على عمله وأدائه كثيراً، ليقدم المزيد، إلى أن وصلنا إلى مرحلة التقاعس لدى بعض الفنانين.لم تكن تجاربه سهلة، ودائماً ما واجه المصاعب خلال عمله في تلك المرحلة تحديداً، لتبقى في ذاكرته درساً يتعلم منه ويكرره، ليتعلم منه الفنانون الجدد.فنانات الليل!
ويشير قلعي في حوار أجراه معه «رياض سفلو» على شاشة التلفزيون السوري إلى عدد من ذكرياته، خلال تلك المرحلة. ومن الذكريات، التي تحدث عنها، ما كان خلال فترة انتمائه للنادي الشرقي، إذ تم وقتها الإعداد لمسرحية «الأستاذ كلينوف»، وبعد انتهاء تدريباتها وتحديد موعدها على مسرح اللايك بدمشق، وبعد الانتهاء أيضاً من دفع الرسوم المالية المترتبة على الفرقة، والحصول على رخصة العرض وتوزيع البطاقات، وكان من المتعارف عليه وقتها أن إحدى أهم المشاكل التي كانت تعانيها الفرقة هي عدم وفرة العنصر النسائي، فقرروا وقتها العمل على إقناع طالبة جامعية في كلية الحقوق بتمثيل الدور على المسرح، إلا أن المفاجأة كانت أن أمانة العاصمة تقدمت إليهم بطلب غريب وهو أن يتم تحويل الممثلة إلى لجنة طبية كأي فنانة من فنانات الليل، والغريب أن هذا النص موجود من أيام تواجد الاحتلال الفرنسي في سورية، واعتبر الطلب بمثابة إهانة للفتاة، وفي حال الاعتراض وعدم الاستجابة منهم فإن العرض لن يتم، ليتوجه قلعي وعدد من زملائه للقاء أمين العاصمة، الذي استجاب لطلبهم مقررا إجراء تعديل على النص القانوني تستثنى فيه الممثلة التي تعمل على المسرح. ومن جهته اعتبر قلعي أن ذلك التغيير كان أكبر المكاسب بالنسبة إليهم. وعن ذكرياته في مدينة حلب يتحدث البورظان بأن الفرقة كانت على استعداد لتقديم مسرحيتين في حلب «البرجوازي النبيل» و«ثمن الحرية»، إلا ان المفاجأة كانت في اعتذار الممثلة البطلة في المسرحيتين عن عدم السفر في اليوم المحدد لذلك، وكان لدينا وقتها ممثلتان جديدتان منتسبتان إلى المسرح القومي؛ «قامت إحداهما بأداء الدور بدلا عنها في وقت قصير جدا، وأصبحت هذه الممثلة من نجمات الصف الأول في سورية”.بدلة الشرطي حرمته الدور الذي أحبه
الدور الذي أحب نهاد لعبه ولم تتح له الفرصة، عندما كان مديراً للمسرح القومي وممثلاً، هو دور كومبارس في مسرحية "الفخ”، والدور الذي أحبه كان لشرطي لا يتحدث في المسرحية، حيث إن الممثل المسند إليه الدور حصلت له حادثة في حلب وتأخر، فلم يستطع أداء الدور، ليفاجئ المخرج فناننا قبل رفع الستار بربع ساعة أنه كلف أحد زملائه الممثلين المبتدئين، ورفض ذاك الممثل الدور، ليقرر قلعي أداءه متجها إلى غرفة الملابس الخاصة، محاولا ارتداء البدلة الخاصة بالشرطي، لكنها كانت أصغر من مقاسه، مما منعه من أداء أحب الأدوار إلى قلبه، موجها رسالة إلى جميع الممثلين أنه لا يوجد في التمثيل دور صغير ودور كبير.