حسني البورظان... عراب الكوميديا السورية (2-6)
أمينة رزق أجبرت قلعي على البكاء فلم يتمالك دموعه!
صانع الحب والضحكة، الإنسان الذي كرّس حياته للفن، وأعطى المسرح روحه، عمل واجتهد متجاهلاً صعوبات المرحلة التي ولد فيها، فابتكر شخصيات تحركت على المسرح كما تحركت في قلوبنا وفي وجدان كل إنسان. عرفناه من خلال شخصية «حسني البورظان» بسيطاً لطيفاً مستقيماً. امتلأت حياته بالمقالب الطريفة، المضحك منها والمؤلم. على الخشبة والشاشة، لم تأت الرياح بما تشتهي سفنه. وفي الكواليس كان الفنان المخرج والممثل نهاد قلعي ينظر إلى تلك الشخصية كمرآة حقيقية له. أضحك الملايين في البلدان العربية بوجبات كوميدية ساخرة وهادفة، مقدماً مضمون ما يكتب من نصوص على حساب شخصيات العمل، فلا بطولة في أعماله إلا للفكرة، معتبراً العطاء واجباً لا استثناء. وفيما يلي تفاصيل الحلقة الثانية:
قُدمت بعض الأعمال المسرحية، التي أخرجها نهاد قلعي وشارك في التمثيل بها على مسارح القاهرة، حيث لقيت إشادة كبيرة من الصحافة المصرية وإعجاباً من المسرحيين المصريين، وهنا بدأت أولى خطوات نجاحه كممثل ومخرج مسرحي، على الرغم من صعوبة الحصول على اسم بين الأسماء الكبيرة في الفن بتلك الفترة، لضعف في الإمكانات عموماً وقلة وسائل الإعلام.
«البرجوازي النبيل»
بقي قلعي على تواضعه وثباته واجتهاده، فهو لا يحب أن يشمل كلامه الحديث عن الأنا. ويقول: عندما يكون في الأمر عبرة، سأكون مضطراً لذلك. وفي سنة من السنوات، قررت الدولة الاحتفاء بأوائل الطلاب السوريين، ومن جملة الاحتفالات، تقديم مسرحية، وكانت المسرحية التي قررتها الوزارة هي «البرجوازي النبيل»؛ حيث كان بطل المسرحية نهاد قلعي، إضافة إلى أنه مخرج المسرحية. وقبل رفع الستار بنصف ساعة، وكبار المسؤولين موجودون في الصالة مع أوائل الطلبة، تعرض نهاد لثلاثة كسور في قدمه دفعة واحدة، وقرر الأطباء الموجودون عدم مشاركته في العرض، بسبب وضعه الصحي. لكن الفنان لم يقبل، وشارك في العرض المسرحي رغم مرضه، كمثال يريد تقديمه لزملائه في العرض والفنانين عموماً، بأن لا شيء يوقف الفنان عن عمله سوى الموت. ولفت إلى أن شخصية البرجوازي في تلك المسرحية، والتي كانت الشخصية التي مثلها، ساعدته في ذلك، ففي أول المسرحية يقول البرجوازي للحذّاء: «لقد أرسلت لي حذاء أدمى قدمي». وبذلك تخلص قلعي من قصة العرج التي أصابته طوال المسرحية. والطريف أن أحد المسؤولين خاطب وزير الثقافة قائلاً: «أعرف أن نهاد فنان ذو خبرة كبيرة، لكنه هذه المرة أتقن دور الأعرج بشكل رائع». فأجابه الوزير بقصة الكسور الثلاثة، ليتفق الاثنان لاحقاً أنه وابتداء من أول فاصل في المسرحية سيتم الاعتذار من الحاضرين وإيقاف العرض، فتم تبليغ الفنان بالأمر، فرفض قائلا «لو سمعت أي إعلان بخصوص إيقاف المسرحية سأنتحر»، والمدير الذي كان مسؤولاً بشكل مباشر عن نهاد وقتها كان هو الأستاذ «نجاة قصاب حسن”. أكمل قلعي المسرحية بفصولها الخمسة، ومن ضمن العرض كان هناك رقصة من المفروض أن يؤديها ويدور حول الممثلين، وهو في حالة من الجنون، ويغني أغاني بلا معنى، كما تنص المسرحية، فدار المرة الأولى وكاد يقع، مما اضطره إلى الاتكاء على الممثلين وتم إنزال الستار وقتها. عبر قلعي عن حبه لتلك اللحظة قائلاً: «امتلأت الصالة بالتصفيق تحية لي، بعد أن علم الجميع بقصة كسوري الثلاثة ومتابعتي العرض رغم ذلك”. تحدثنا في الحلقة السابقة عن نقطة مضيئة شكلتها مسرحية «ثمن الحرية» في حياة قلعي، وعند الخوض في تفاصيل تلك الحالة التي جعلته يشعر بذلك لابد أن تقف أكثر من مرة عندها وتعيد قراءة الوصف جيداً، حتى يتسنى لك معرفة ذلك، فالمسرحية التي قدمت على أرض معرض دمشق الدولي عام 1959 ولعبت في أحد أدوار البطولة فيها مع نهاد قلعي الممثلة المصرية القديرة أمينة رزق، كان وراء كواليسها ما وراءها. يقول قلعي إنه بعد عرض المسرحية في مصر والعودة إلى دمشق، طلبت إدارة معرض دمشق الدولي منهم تغطية عدة أيام من الفعاليات المسرحية للمعرض، وتقرر أن تكون «ثمن الحرية» هي المسرحية المختارة. في تلك الفترة، كانت بطلة المسرحية الآنسة «أولدا غنوم» طالبة في السنة الثالثة بكلية الحقوق، ولسبب اضطراري، كان عائلياً على الأغلب، مُنعت من المشاركة بالعمل، فقاموا بتدارك الأمر، وذهب بعض أعضاء النادي للقاهرة وطلبوا من الفنانة القديرة أمينة رزق المشاركة بالمسرحية. يقول نهاد: كنا على علم بحضورها العرض في القاهرة، وحصلنا على موافقتها، وقدمت معنا العمل في دمشق، وكان للحادثة تاريخ شخصي بالنسبة إليّ، وعندما جاءت الفنانة رزق لنجري البروفات في النادي لم يكن لدينا مسرح لنؤدي بروفاتنا عليه. وكان من عادة الفنانة أمينة أنها لا تمثل أثناء حفظ الدور. وفي الوقت الذي كنا نرسم فيه حركاتها على المسرح في الجهة اليمنى أو اليسرى كانت تقرأ حوارها. وأذكر أن دورها كان ذا طابع تراجيدي مؤثر (سيدة تخرج من بيتها لتحضر الحليب لأطفالها الصغار فيلقي الفرنسيون القبض عليها، مع خمسة أشخاص آخرين، لينفذ بهم حكم الإعدام. كنت أقوم بدور الكولونيل مارسيل السفاح، والمفروض أنا من يأمر بإعدام تلك السيدة، وخلال العرض تدخل السيدة إلى الكولونيل وتركع عند رجليه طلبا لإعفائها من الإعدام لأن أطفالها ينتظرونها في المنزل). كانت أمينة تقرأ النص قراءة بصوتها، وعندما صعدنا المسرح وقدمنا عرضنا الأول، وكانت شخصية الكولونيل تتميز بوجود يد مقطوعة ومربوطة إلى فخذه الأيسر.
«الإجازة السعيدة» تجمع بين الطالب دريد والمخرج نهاد لأول مرة
عن اللقاء الأول بين دريد لحام ونهاد قلعي عام 1960 يقول لحام: يوم افتتاح التلفزيون المصري كان يوماً مهماً في حياة الشعبين المصري والسوري، وفوجئت يومها بمدير التلفزيون السوري صباح قباني، يستدعيني ويطلب مني تقديم بعض أعمالي الجامعية على الشاشة الصغيرة، وقد كان لصباح فكرة مسبقة عن نشاطاتي المسرحية لطلاب الجامعة، وقد أعجبتني الفكرة وبدأت العمل في التلفزيون بدءاً من الأسبوع الثاني من بدء الإرسال، وكان العمل الأول لي كهاوٍ هو اسكتش «الإجازة السعيدة» من إخراج خلدون المالح. وعرض البرنامج، الذي أصبح اسمه فيما بعد «سهرة دمشق»، على التلفزيون المصري أيام الوحدة، وفي هذا العمل كنا مجموعة من الزملاء، حتى الحلقة التاسعة، ثم بقيت أنا ونهاد فقط وأكملنا ما تبقى معاً.
موقف مؤثر
في اللحظة التي بدأت فيها أمينة التمثيل، شعرت بهجوم دموعي على عيني، وفكرت وقتها؛ إن بكيت فسأسقط وستسقط معي المسرحية، فلا يمكن لكولونيل سفاح أن يبكي. وقررت وقتها أن أخرج عن أمينة في بعض اللحظات ذهنياً، وقمت بقرص فخذي قرصة قوية بقيت نحو ستة أشهر مطبوعة بلون أزرق، وعندما شعرت بالألم في رجلي خرجت من حالة التأثر وأكملنا المشهد. لكن حادثة بكائي بقيت بداخلي حتى انتهى عرض المسرحية. فكان الذي حصل، أن بقيت في غرفة الملابس ساعة ونصف الساعة، وأنا أبكي وأقبل يدي أمينة. ومنذ تلك الحادثة كلما قابلت الفنانة القديرة رزق أبكي، حيث بقي المشهد مؤثراً بي كل الوقت.تأثُّر أمينة
من جهتها، قالت أمينة رزق، في لقاء مع الإعلامي السوري مروان صواف: كنت متأثرة جداً بالمسرحية، وبالدور الذي أسند إلي بشكل خاص، إذ تتجلى فيه مكافحة الاستعمار. وعادة عندما يكون هناك وطن محتل، وأقول أي وطن، ليس وطني أنا فقط، فإنني أتأثر، وعندما تكون الأوطان العربية تحت أغلال الاستعمار ينتابني شعور فياض، على الرغم من أنه مكبل بالحديد والأغلال والسطوة والقسوة والظلم. وشعرت في دوري بظلم المواطنين، تحت ضغط هذا الاستعمار، وتأثرت كثيراً بشخصية الأم، التي تركت أطفالها وهم بحاجة للحليب. وكان الرجل القاسي الظالم بعد اعتقالها، لا يريد حتى أن يسمح لها بإرسال الحليب لأطفالها. وكان بالطبع شعوراً رهيباً شعرت به بكل أحاسيسي، كم هذا المستمعر قاسٍ، فقمت بأداء الدور بكل إحساس وعقيدة وإيمان، ولم أكن أعرف أن أدائي، سيؤثر على زميلي العزيز الأستاذ نهاد إلى هذه الدرجة، وعندما وصلتني مشاعره، فأنا حتى الآن أعود بها وبحنين إلى الماضي الجميل عندما عرضنا المسرحية. وأشكره على هذا الإحساس، وأعتقد أن هذه القصة (قصة المسرحية) ستسجل للتاريخ عن تصوير ظلم وقسوة المستعمر.المسرح القومي
نجاح هذا العمل تحديداً دعم قراراً بتعيين قلعي عام 1960 مديراً للمسرح القومي في دمشق، ومؤسساً له. وعلى مدار خمس سنوات من التأسيس، أخرج نهاد خمس مسرحيات للمسرح القومي، وشارك في التمثيل أيضاً بمسرحيات أخرى، ومنها «المزيفون» و«ثمن الحرية» و«البرجوازي النبيل» و«مدرسة الفضائح»، واشترك في بطولة أربع مسرحيات «المفتش العام» و«مروحة ليدي وندرنر» و«رجل القدر». والمسرحيات من إخراج هاني إبراهيم صنوبر، أما مسرحية «الإخوة كارمازوف» فكانت من إخراج الفنان السوري القدير أسعد فضة، وكانت تلك المسرحية آخر أعماله قبل الاستقالة من المسرح القومي عام 1964. أسست وزارة الثقافة في سورية في سنة 1959، وتولّى الأستاذ نجاة قصاب حسن منصب مدير المسارح والموسيقى، ساعياً بجهد كبير إلى إنشاء فرقة مسرحية تكون «المسرح القومي». في تلك الفترة كانت هناك بعض الفرق المسرحية الصغيرة، التي لا تملك المقومات التي تملكها وزارة الثقافة، ومنها فرقة «المسرح الحر» التي تأسست سنة 1956 على يد عبداللطيف فتحي ورفيق السبيعي، وفرقة «النادي الفتي» التي تأسست في العام نفسه على يد محمود جبر، ومثيلاتها من فرق الهواة، فقرر نجاة قصاب حسن جمع الفنانين وفرقهم، واختار منهم فريقاً كان عماد المسرح القومي. تولّى محمود المصري الإدارة العامة ونهاد قلعي الإدارة الفنية بالمشاركة مع رفيق الصبان. كان الافتتاح سنة 1960 بمسرحية «براكسا جورا» من إخراج رفيق الصبان. وهي من التراث المسرحي الإغريقي؛ كوميديا كتبها أريستوفانيس، واستوحى توفيق الحكيم من موضوعها وشخصيتها الرئيسية مسرحيته «براكسا أو مشكلة الحكم». وكانت المسرحية الثانية «المزيفون» من تأليف الأديب المصري محمود تيمور وإخراج نهاد قلعي، الذي أخرج بعد ذلك مسرحية موليير «البورجوازي النبيل»، ثم أعاد إخراج «ثمن الحرية» وشارك في التمثيل نجوم المسرح القومي الجدد؛ ثراء وسناء دبسي، وسليم صبري وسواهم. ومن ثم انضم إلى المسرح القومي في سورية المخرج الأردني هاني صنوبر. وبعد أن أدى نهاد قلعي مهامه الموكلة إليه والمحببة في آن معاً، مهمة الإخراج المسرحي، إلى جانب التمثيل طبعاً، استقال من المسرح القومي. ويذكر أنه في عام افتتاح «المسرح القومي» تأسس التلفزيون السوري، وكان المدير العام صباح قباني، الدبلوماسي وشقيق الشاعر السوري الكبير نزارقباني.العمل في التلفزيون
انضم نهاد قلعي إلى التلفزيون السوري مع عدد من النجوم السوريين أمثال دريد لحام وياسين بقوش وعمر حجو وياسر العظمة، وقدم مع التوأم الفني له في تلك الفترة الفنان دريد برنامج «سهرة دمشق»، وبعد نجاحات متكررة قدم الثنائي عدداً من الأعمال والمسرحيات التلفزيونية والسينمائية. يقول الفنان السوري القدير دريد لحام عن تلك الفترة: عندما جمعنا الأستاذ خلدون في البرنامج وجدنا تطابقا كبيراً في الأفكار بيننا، حيث كان لنا جميعا هدف نريد تحقيقه في الكوميديا، وألا يكون هناك نص بدون معنى، بل يجب أن تكون هناك كلمة تصل للجمهور، فبدأت معه العمل على نقد اجتماعي بشكل خفيف قدر الإمكان، كفائدة توجيهية غير مباشرة، والتقت أفكارنا معا، مما أدى إلى استمرار العمل مع نهاد. ويضيف: في الحلقة الأولى كان من المفروض أن يظهر خمسة أشخاص، أنا وثلاثة آخرون، وبقي اختيار الشخص الخامس، حيث تم اختيار الموظف الجمركي نهاد قلعي، وفي هذه المناسبة التقيت بنهاد.الضحك على الهواء مباشرة في «سهرة دمشق»
في بدايات التلفزيون، لم تكن التقنيات متطورة في مجال التصوير، كاستعمال «الفيديو تيب»، إلا على الهواء مباشرة، ومن المواقف الطريفة التي حصلت مع قلعي أنه كان يقدم البرنامج التلفزيوني «سهرة دمشق»، ومن ضمن البرنامج كان هناك عدة حلقات تحت اسم «الخياط»، حيث كان كل من دريد ونهاد يعملان خياطَين في محل خاص بهما، ومن ضمن المشاهد أن يحدث خطأ مع أحد الزبائن، فتكون الخياطة لبنطاله غير متناسقة، والخياطان اختلط عليهما السرج والساق فكانت الساق على طول السرج والعكس مع السرج، فعندما يلبسه الزبون يصل السرج حتى الرقبة وساق البنطال حتى الركبة فقط، وقام قسم الأكسسوار في التلفزيون بتفصيل هذا البنطال، ولكن أثناء البروفات لم يلبسه الممثل، بل قام بارتدائه مباشرة على الهواء وعندما دخل عليهم هذا الزبون بهذا المنظر على الهواء مباشرة لم يستطع الثنائي كبت ضحكتهما العفوية الطويلة.
شادي عباس
المسؤولون أرادوا إيقاف مسرحية «البرجوازي النبيل» فهددهم نهاد بالانتحار!
بعض أعماله التي أخرجها وشارك في تمثيلها على مسارح القاهرة لقيت إشادة من الصحافة والجمهور في مصر
الفنانة المصرية أمينة رزق حلّت بديلة للبطلة السورية على أرض معرض دمشق الدولي
الكولونيل الفرنسي السفاح يقف محتاراً بدموعه أمام الأم قبل إعدامها
مدير المسرح القومي أخرج خمس مسرحيات قبل الاستقالة والتوجه إلى التلفزيون
بعض أعماله التي أخرجها وشارك في تمثيلها على مسارح القاهرة لقيت إشادة من الصحافة والجمهور في مصر
الفنانة المصرية أمينة رزق حلّت بديلة للبطلة السورية على أرض معرض دمشق الدولي
الكولونيل الفرنسي السفاح يقف محتاراً بدموعه أمام الأم قبل إعدامها
مدير المسرح القومي أخرج خمس مسرحيات قبل الاستقالة والتوجه إلى التلفزيون