منذ غزو القوات الروسية لأوكرانيا في 24 فبراير الماضي، تكرر النقاش حول موقف الشعب الروسي من هذه الحرب في مناسبات عدة، حيث تكشف استطلاعات كثيرة في الأسابيع الأخيرة أن معظم الروس يدعمون الحرب، ورغم التشكيك الدائم بنتائج الاستطلاعات في الأنظمة الاستبدادية، تحمل الأرقام القوية أهمية رمزية دوماً، لكن تبقى آراء الروس بالحرب مسألة معقدة، لذلك تبرز الحاجة إلى إجراء تحليل أكثر تفصيلاً لمساعدة الرأي العام في فهم نظام فلاديمير بوتين وأصل الصراع القائم.عند مراعاة مجموعة من العوامل المؤثرة، لا سيما طبيعة نظام بوتين المتداخل مع التاريخ الروسي، والثقافة السياسية السائدة، والخطابات التي تروّج لها الحملات الدعائية، يتّضح سريعاً سبب اقتناع 46% من الروس بأن الأهداف الأساسية من «العملية العسكرية» في أوكرانيا تتعلق بالدفاع عن روسيا، ونزع سلاح أوكرانيا، ومنع توسّع حلف الناتو، كذلك، تهدف هذه العملية إلى نسف النازية من أوكرانيا برأي 19% من الروس، والدفاع عن إقليم «دونباس» برأي 17% منهم، واحتلال أوكرانيا وضمّها إلى روسيا برأي 5% منهم، وبعبارة أخرى، يبدو أن نصف الناس تقريباً يعترفون بدعمهم لاستعمال القوة في أوكرانيا ويبررون موقفهم عبر اعتبار هذه العملية ضربة استباقية أو تحركاً دفاعياً: لو لم تهاجم روسيا، كانت ستتعرض للغزو!
يحمل هذا المفهوم طابعاً دعائياً واضحاً لكنه يبقى قوياً، ولا يتقبل الناس مثلاً فوز الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ذلك اليهودي الناطق باللغة الروسية، في انتخابات حرّة ونزيهة، ما يجعله رئيساً شرعياً لأوكرانيا، وبحسب استطلاع أجرته منظمة Russian Field، يريد 88% من الروس أن يصبحوا أصدقاء لأوكرانيا على ما يبدو، مع أن القوات الروسية كانت قد بدأت بقصف البلد قبل أيام على إجراء هذا الاستطلاع.يشير هذا النوع من المواقف المتناقضة إلى عدم فهم حقيقة العدوان الروسي وجرائم الحرب المرتكبة في أوكرانيا وغياب أي تفكير نقدي عند تقييم المواضيع، ويبدو أن خطابات الحملات الدعائية الروسية تترسّخ في وعي الناس مباشرةً، لكنها لا تشكّل نظاماً متماسكاً من القناعات: يصعب أن نتخيل مثلاً ميل أي شخص إلى دعم قصف أوكرانيا «النازية» ورغبته في إقامة صداقة معها في الوقت نفسه.ربما ترتبط الأوهام ومواقف الإنكار بعناصر محورية من الهوية الوطنية التي تعتبر روسيا «البلد الذي فاز ضد الفاشية»، فهذا البلد ليس مجرّد طرف معتد بل إنه مضطر دوماً للدفاع عن نفسه ضد الغزاة (الغربيين في معظمهم). كان الفخر الوطني المرتبط بالتضحيات التي قدّمتها روسيا خلال الحرب العالمية الثانية قوياً لدرجة أن يعيش عدد صغير من الروس كابوساً مستمراً منذ أن استيقظوا في 24 فبراير الماضي على خبر مريع مفاده أن وطنهم الأم أطلق حرباً شاملة ضد أوكرانيا، لقد انهار ذلك الجزء من هويتهم بكل بساطة، فبرأي هؤلاء الروس الذين يتابعون دعم الحرب، كانت حكاية الفوز بالحرب العالمية الثانية بمزلة درعٍ يحميهم من الحقيقة، فلا أحد يعرف إلى متى ستستمر مظاهر الإنكار، لكن تثبت التجارب التاريخية أن هذا الموقف سينهار عاجلاً أو آجلاً، وستكون تداعيات إدراك الحقيقة المريعة مدمّرة.وفي حين يتخبط نظام بوتين للفوز بالحرب في أوكرانيا، يعيش الشعب الروسي اليوم في ظروفٍ فُرِضت عليه بحكم الواقع، فيتحمّل رقابة الحرب والأحكام العرفية، ورغم مشاعر الفخر التي تروّج لها الحملات الدعائية والأثر «المخدّر» المشتق من حجم الدعم الذي يحصده النظام الروسي، لا يسود أي «تفاؤل وطني عام» في البلد، ومن المتوقع أن يشعر جميع الروس بتداعيات العقوبات الغربية غير المسبوقة قريباً، مع أن أحداً لا يعرف بعد مدى تأثير هذا الوضع على قناعات أو تصرفات داعمي الحرب، وهذا ما أثبتته التجارب السابقة في إيران وكوريا الشمالية، فهل سيتحول هؤلاء الروس إلى أغلبية صامتة ولا مبالية أم أقلية عدائية ومتعطشة للحرب؟ لا تزال الأزمة الراهنة خطيرة جداً ومتقلبة وغير متوقعة، لكن حين ينهار هذا النظام يوماً، فلا مفر من أن يواجه الشعب الروسي الحقيقة، وفي تلك المرحلة، سيضطر كل من هو مستعد لتقبّل مسؤولية جرائم الحرب التي ارتكبها النظام لخوض رحلة روحية عميقة لاكتشاف الذات قبل الإجابة مباشرةً عن سؤال تطرحه أغنية سوفياتية شهيرة: «هل يتوق الروس إلى الحرب فعلاً»؟* أولغا خفوستونوفا
مقالات
هل يدعم الروس الحرب في أوكرانيا فعلاً؟
11-04-2022