صانع الحب والضحكة، الإنسان الذي كرّس حياته للفن، وأعطى المسرح روحه، عمل واجتهد متجاهلاً صعوبات المرحلة التي ولد فيها، فابتكر شخصيات تحركت على المسرح كما تحركت في قلوبنا وفي وجدان كل إنسان. عرفناه من خلال شخصية «حسني البورظان» بسيطاً لطيفاً مستقيماً. امتلأت حياته بالمقالب الطريفة، المضحك منها والمؤلم. على الخشبة والشاشة، لم تأت الرياح بما تشتهي سفنه. وفي الكواليس كان الفنان المخرج والممثل نهاد قلعي ينظر إلى تلك الشخصية كمرآة حقيقية له. أضحك الملايين في البلدان العربية بوجبات كوميدية ساخرة وهادفة، مقدماً مضمون ما يكتب من نصوص على حساب شخصيات العمل، فلا بطولة في أعماله إلا للفكرة، معتبراً العطاء واجباً لا استثناء. وفيما يلي تفاصيل الحلقة الثالثة:
انتقل نهاد قلعي من مسرح المدرسة إلى الأعمال الحرة، ثم إلى أعمال مسرحية في فرق صغيرة لعبت دوراً كبيراً في توليه إدارة المسرح القومي، ليتابع شغفه على خشبة المسرح، مرة كممثل ومرة كمخرج، وأحياناً الاثنتان معاً، متمسكاً بمبادئه التي تعلمها عبر تجارب طويلة، ومحاولاً الابتعاد عن المكرر والموجود، فالطريق أمامه ما زالت طويلة، والإرث الذي يجب أن يقدمه يحتاج إلى مضاعفة في الجهد وثبات في الموقف، خصوصاً أن المرحلة القادمة ستكون مرحلة الاتجاه إلى الكوميديا، والتي يعتبرها معظم النقاد من أصعب أنواع الفنون نصاً وتمثيلاً وإخراجاً، خصوصاً في مرحلة الانتقال للظهور على الشاشة لأول مرة.
غوار والبورظان
أوجد قلعي بعد لقائه رفيق دربه الطالب الجامعي «دريد لحام» شخصية مناسبة له، بعد أن كان الفنان لحام متمسكاً بشخصية أخرى يؤدي أدوارها في بداية عمله، وهي «كارلوس ميرندا الإسباني»، فتغيرت بابتكار من قلعي لتصبح «غوار الطوشي» أو «غوار مشعل الطوشي»، مستلهماً الاسم الأول من أحد العاملين في مبنى الإذاعة والتلفزيون (غوار الجدعان)، وفقاً لبعض المصادر. ليقع بعدها على عاتق لحّام رسم الشخصية بكراكتر معين، فاختار شكلها ولباسها من طربوش وقبقاب ونظارات وشارب وسروال، لتشتهر الشخصية وتبدع في أداء المقالب، التي كتبها الفنان قلعي. بقي «غوار» شخصية ملازمة لدريد طوال حياته حتى الآن (المشاكس صاحب المقالب والمشاكل)، رغم تعدد الشخصيات التي لعبها، خصوصاً بعد انفصالهما لاحقاً ورحيل الفنان قلعي. وسجلت الذاكرة لدى أجيال متلاحقة تلك الشخصية التي لن تتكرر. كما اختار الفنان قلعي لنفسه شخصية حسني البورظان، وتقول بعض المصادر القريبة منه إنه عندما لاقى برنامج «سهرة دمشق» جماهيرية واسعة، وكان تأليفاً مشتركاً بين دريد ونهاد، كان الاسم بداية في هذا العمل «حسني» فقط، وذات مرة كان يتحدث على الهاتف في مشهد تمثيلي يُبثّ على الهواء مباشرة، فنسي الحوار. وتداركاً للموقف، ارتجل نهاد الحوار وقال: «أنا حسني... حسني مين؟ وفي تلك اللحظة لمح خلف الكواليس أحد أفراد الفرقة الموسيقية يحمل بورظاناً، فقال: «حسني البورظان». أعجب الجمهور بهذا الاسم، الذي اخترعته المصادفة، وظلّ مرافقاً لنهاد قلعي حتى الممات. ومن سمات شخصية «حسني البورظان» أنه مثقف هادئ، ويقع دائماً في شرك المقالب التي ينفذها غوار. وهو يختلف عن غوار في الشكل واللباس، حتى إن البعض شبه غوار النحيل وحسني البدين بالثنائي الإنكليزي الكوميدي (لوريل وهاردي) شكلاً وطباعاً. ويمكننا القول إن هذا الثنائي رسما تاريخ الكوميديا في التلفزيون العربي السوري منذ بداياته. أدار دريد لحام فرقة التلفزيون السوري الناشئة للرقص والفن الشعبي، لولعه برقصات الدبكة، فقدم سنة 1961 بمناسبة أعياد الثورة مع شريكه نهاد قلعي «أوبريت» مسرحياً عنوانه «عقد اللولو»، على مسرح نادي الضباط بدمشق، وأعجب العرض الجمهور ولفت انتباه المنتجَين تحسين قوادري ونادر الأتاسي وإعجابهما، فقررا تحويله إلى فيلم سينمائي في عام 1964، وحقق هذا العمل نجاحات كبيرة. وأخرج الفيلم يوسف معلوف، وخلدون المالح مساعداً. صُنف الفيلم من النوع الرومانسي، ويحكي قصة سالم (الفنان السوري الكبير فهد بلان)، الذي أحب ابنة قريته بدور(الفنانة اللبنانية القديرة صباح)، وأراد الزواج منها. ويواجه سالم في الفيلم الطامعين في أرضه. وضمن أحداثه، تقع بين يدي سالم رسالة يعتقد أنها مكتوبة لحبيبته، وهنا تبدأ المشاكل، خصوصاً مع عودة غوار من المهجر، والذي يحب بدور أيضاً، حاملاً من أجلها عقد اللؤلؤ. شارك في هذا العمل أيضاً نهاد قلعي في شخصية «فرحان بيك»، والممثل صبري عياد (أبو زيد)، والفنانة ملك سكر (هدى)، والفنانة السورية إغراء في دور الراقصة، وكل من الفنانين يسرا البدوية ومحمود المصري وأنطوان زخور ومحمد العقاد وأحمد عداس وشارلوت رشدي، وغيرهم.«فقاقيع»
نجاح الثنائي نهاد ودريد دفع تلفزيون لبنان والمشرق إلى أن يخرج لهما مسلسلاً كاملاً من خمس عشرة حلقة سنة 1963 حمل عنوان «فقاقيع»، وشارك فيه نخبة من نجوم الفن في سورية ولبنان، أمثال رفيق سبيعي وطلحت حمدي وملك سكر ورينيه فرح وألبير سابا وسعاد كريم وميشلين ضو وديب صابات ويوسف فخري، وكان يتناول في كل حلقة ظاهرة اجتماعية سلبية، والعمل أربع عشرة حلقة من تأليف فرانسواز يغمور، وإخراج نقولا أبو سمح وإيلي سعادة. كان أول عمل لهذا الثنائي هو مسلسل «مقالب غوار»، الذي أنتجه التلفزيون السوري عام 1963 وأخرجه خلدون المالح، وقد صورت نسخة أخرى للمسلسل في استديوهات بيروت عام 1967 أخرجها أنطوان ريمي، ونقولا أبو سمح. وشارك في هذه النسخة بأدوار ثانوية ممثلون لبنانيون غير الممثلين السوريين الذين شاركوا في النسخة الأولى. العمل في إطاره الكوميدي يتناول قصة منافسة قوية بين مطرب يدعى غوار، ومطرب يدعى حسني، حيث يتنافسان على الغناء في مقهى يدعى «مقهى الانشراح»، وهناك تقع العديد من المواقف والمقالب الكوميدية. تميزت كل حلقة في المسلسل باختلافها عن الأخرى، ففي كل مرة قصة جديدة لنفس الفكرة الأساسية، إذ يكتشف غوار في الحلقة الأولى اختيار حسني بدلا منه للغناء في مقهى الانشراح، خلال سهرات رمضان، فيذهب ويسرق العود الخاص بحسني وملابسه حتى لا يذهب الأخير للحفل. وفي الحلقة الأخيرة يؤدي غوار وحسني فقرات غنائية للمساجين، ويصدر قرار من البلدية بهدم المقهى، فيقرر أبو صياح بيع المقهى لغوار وخداعه، ويكتشف غوار الأمر بعد فوات الأوان. شارك في هذا العمل الفنان السوري الراحل رفيق سبيعي (أبو صياح) الملقب بـ «فنان الشعب»، من بين المجموعة الكبيرة التي اجتمعت لاحقاً في أعمال أخرى، والتي سنأتي على ذكرها تباعاً. العمل بنسخته السورية مكون من إحدى عشرة حلقة، ومن بطولة: نهاد قلعي ودريد لحام ورفيق سبيعي وهالة شوكت ومظهر الحكيم وزياد مولوي ويعقوب أبو غزالة وأحمد طرابيشي وميليا فؤاد وصالح الحايك وأنطوانيت نجيب وعبدالله النشواني وعمر حجو. وأخرج معظم حلقاته خلدون المالح، وأخرج بعضها المخرج العراقي فيصل الياسري. وفي النسخة اللبنانية المكونة من خمس وعشرين حلقة شارك مع دريد ونهاد وأبو صياح كل من: شفيق حسن وسعاد كريم وعوني المصري وزين الصيداني وسليم حانا وحنا معلوف وديب صابات وعادل سابا وغازي منذر وجيزيل خوري.مسرح مقالب غوار الغنائي
ومن جميل ما يذكر هنا أن المسلسل بنسختيه اللبنانية والسورية قدم وصلات غنائية طربية لفنانين مختلفين بين الحين والآخر، حيث اعتمد مقهى الانشراح كمنصة لتقديم أغان جديدة مختلفة، حيث قدم فيه الفنان اللبناني محمد مرعي، في الجزء اللبناني من المسلسل، أغنيتين في حلقة واحدة: «يا لطيف» و«تسرح وتمرح»، وهما طقطوقتان من ألحان الرحابنة. كما أدت الفنانة السورية الراحلة فضلية مقلي، المعروفة بـ «سحر» وصلة تراثية جمعت فيها «يا طيرة طيري» و«يا مال الشام» وموال «اشرب فديتك من يدي الراح». في حين قدم الفنان اللبناني سعيد عازار أغنيتي «مين عذبك» و«أنا هويت»، ومقاطع من التراث الشامي في إطلالات كثيرة بجزئه الأول. وتقول بعض المصادر إن الفنان المصري الموسيقار محمد عبدالوهاب كان موجودا في مدينة شتورة اللبنانية، عند بث تلك الحلقة، والتي غنى فيها عازار موال «لما انت ناوي تغيب على طول»، واستمع لغنائه وأعجبه الأداء، فطلب مقابلته وقدم له نصائح في الغناء، وطلب من مدير مجلة الشبكة وقتها، جورج إبراهيم خوري، تقديم عازار لأصدقائه الملحنين. وفي تلك الحلقة يقول غوار «روح، ان شالله العين تطرقو اللي ما بيحبك”. أما الفنان غسان أفندي ناجي فقدم بالمقهى أغنية «العمر مهما يطول» من ألحان «سهيل عرفة»، وقدم الفنان إبراهيم علوان موال «يوم اللقا»، من تأليفه، وقدم الفنان نهاد عرنوق أغنية «يا عيد لونا» من كلمات الشاعر نجاة قصاب حسن، وألحان نمر كركي. أما أبوصياح، المعروف بأنه أول من قدم المونولوج الفكاهي الشامي للتلفزيون السوري، فقد قدم في مقهى الانشراح مونولوج «قعود تحبك»، يخاطب فيه القبضاي جغل الحارة مقدماً له نصائح حسن السلوك. ويحسب لذلك المقهى أنه سجل الظهور التلفزيوني الأول للفنان السوري الكبير المطرب صباح فخري، بعمر 34 عاماً، وقدمه المخرج أنطوان ريمي، في الحلقة الأخيرة من المسلسل، في وصلة امتدت لعشرين دقيقة غنى فيها «فوق إلنا خل، يا طيرة طيري، يا مال الشام وغيرها”.الأفلام السينمائية
في بداية الستينيات تتالت الأفلام المشتركة للثنائي (غوار وحسني)، وتتالت في السبعينيات، حيث بلغ عددها ستة وعشرين فيلماً، شكلت علامة مميزة طبعت السينما السورية عقدي الستينيات والسبعينيات، وجذبت العديد من نجوم الفن العربي نجوم تلك المرحلة، وخصوصاً المصريين، كما حققت جماهيرية واسعة على الرغم من الطابع التجاري لتلك الأفلام. بعد فيلم «عقد اللولو»، تم العمل على فيلم «لقاء في تدمر» عام 1٩٦٥. ويحكي الفيلم قصة أحد رجال الأعمال الأغنياء، يموت في ظروف غامضة، وتتولى الشرطة التحقيق في الجريمة، وتتجه أصابع الاتهام إلى شريكه في الشركة، الذي كان يحاول التخلص منه للانفراد بإدارتها، وفي خطة من الشرطة تقوم على إرسال أحد رجالها السريين للعمل فى تلك الشركة كموظف جديد، فيتعرف إلى شقيقة الشريك الذي تحوم حوله الشبهات، ويقع في غرامها، ويحاول في الوقت ذاته معرفة الحقيقة، وحل لغز جريمة القتل. الفيلم من إخراج وتأليف يوسف معلوف. وظهر في الفيلم إلى جانب دريد ونهاد كل من: يسرا البدوية وهالة شوكت وصبري عياد ويعقوب أبوغزالة وأحمد عداس ومحمود جركس... وغيرهم.صفعة «الشريدان»
ثم جاء فيلم «الشريدان» في نفس العام، كتبه دريد لحام وأخرجه رضا ميسر، وشارك فيه سمير شمص ونادية جمال وميادة وسلوى مطر وصبحي أبويوسف وديب عزام... وغيرهم. ويحكي قصة رجل يخرج من السجن، ويبدأ البحث عن عمل ومسكن بعد فترة سجنه، ليكتشف أنه أصبح وحيداً بلا أهل أو أسرة، فيقوم أحد أصدقائه القدامى بتأمين عمل شريف له، ليقرر لاحقاً العودة إلى السجن مرة أخرى، فيرتكب في سبيل ذلك العديد من الأعمال الخارجة عن القانون. لكنه يفشل في لفت أنظار رجال الشرطة. ويصف قلعي هذا الفيلم بأنه فشل ولم يحقق نجاحاً كغيره، واعتبره البعض عملاً غير ناجح، والسبب الرئيسي في ذلك كان تقنياً، إذ كان هناك خطأ في المطابقة بين الصوت والصورة، وبالتالي أصبح السعي بعد هذا الفيلم إلى استعادة ثقة الجمهور بهما، فقدما فيلم «فندق الأحلام» عام 1966، وكان أول فيلم ملوناً، وشاركهم في البطولة الممثلة اللبنانية ميشلين ضو، وكل من: فريال كريم وعمر ذوالفقار وعلي دياب ومارسيل مارينا ومحمد الدكش. وكانت الفنانة اللبنانية الشحرورة صباح ضيفة شرف. وهو من تأليف أنور عبدالملك، وإخراج ألبير نجيب، ليعود النجاح مجدداً مع هذا الفيلم، حيث يتحدث عن صديقين يعملان كحراس على إحدى الفيلات الفخمة التي لا يأتي صاحبها سوى على فترات متباعدة، ويحولانها إلى فندق، ويأتى صاحب الفيلا فجأة، ومعه خطيبته، ويكتشف الموقف، فتحصل مجموعة من الأحداث الطريفة. ونذكر أنهما قدما أيضاً سنة 1965 فيلم «سلطانة”. وأما فيلم «أنا عنتر» عام 1966 ، فتدور أحداثه حول دكتور نفساني يستغل مريضاته ويسرقهن عن طريق التنويم المغناطيسي دون دليل على قيامه بعملية السرقة، فتقوم إحدى الشركات، التي تمت فيها عملية السرقة، بالذهاب إلى «عنتر» التحري الخاص غريب الأطوار، من أجل الاستعانة بخدماته للبحث عمن يقف وراء تلك السرقات. والفيلم من إخراج وتأليف يوسف معلوف، والممثلون هم: رندة وشفيق هاشم ووداد جبور وهالة الشواربي وحنا المعلوف وخالد قرانوح وصفوح الشربجي وماروشكا. . . وغيرهم. وفي نفس العام، شارك الثنائي في فيلم «المليونيرة» الذي يحكي قصة مجموعة من الشباب الباحثين عن الثراء السريع، وفي أحداثه تأتي أرملة مليونيرة شابة للمدينة، فيمثل أحدهم دور أمير ويجعلها تقع في حبه، إلا أنه وفي صحوة ضمير تنتابه اتجاهها يحاول الاعتراف لها بالحقيقة. الفيلم من تأليف محمود نصير، وإخراج يوسف معلوف، وتمثيل: الشحرورة صباح ومنير معاصري وهالة شوكت وكواكب وسهيل نعماني وغازي جرمانوس ودياب الحاج. . . وغيرهم.لبنانية توبخ البورظان في الشارع
أجاب قلعي مرة عن سؤال وجه له في لقاء تلفزيوني ضمن برنامج سهرة مع فنان عام 1978، من أنت؟ فقال: أنا إنسان، على الرغم من أنني لا أحب الحديث عن نفسي، وأختصر الإجابة بأنني إنسان يحب الآخرين أكثر مما يحب نفسه، وشخصيتي (حسني) الرجل الطيب في العمل التلفزيوني هي شخصيتي في الواقع، لكن مع أقل «جدبة». وتابع: ربما تسببت تلك الشخصية ببعض الإحراج مع بعض الأشخاص في مواقف معينة، وأستذكر حادثة لن أنساها أبداً، ففي الوقت الذي كان مسلسل «مقالب غوار» يعرض في لبنان فوجئت بسيدة تعترضني في منتصف الطريق وتهاجمني بشكل مباشر، قائلة: هل أنت رجل؟ أليس لديك إحساس؟ فقلت لها: لابد أنك مخطئة سيدتي في شخص آخر، فردت: لا لست مخطئة. وفي هذا الوقت بدأت الناس بالتجمع حولنا، وتابعت حديثها: لست مخطئة، أنت حسني. وعندها عرفت ما قصدها، وأكملت المرأة: «مو عيب عليك هاد الصغير النص دكة يلعب عليك ويعمل فيك مقالب؟ مو زلمى أنت؟ دافع عن نفسك». فقلت لها: «لا تواخذيني يا أختي، الدور بيتطلب مني هيك شخصية، سامحيني رح حاول بالمرات الجاية”.