إن الرأي الذي يقول إن أسعار الفائدة المرتفعة تساعد في القضاء على التضخم هو في الأساس عقيدة إيمانية، تستند إلى الأدبيات الاقتصادية الراسخة لقانون العرض والطلب. لكن كيف تعمل حقا، وهل ستنجح هذه المرة، عندما تبدو الأسعار المتضخمة، جزئياً على الأقل بعيدة عن متناول السياسة النقدية التقليدية؟الإجابة عن هذا السؤال قد تقلل من ارتباك «وول ستريت» وتقلب الأسواق.
قدّم كبير مسؤولي الاستثمار في شركة بلانت موران للاستشارات المالية، جيم بيرد، إجابة أولية على مدى قدرة بنك الاحتياطي الفدرالي في خفض التضخم عبر سياسة الفائدة، والتي كانت «لا»، مشيراً إلى أن السياسات النقدية يمكنها بالتأكيد المساعدة في كبح جماح جانب الطلب من خلال رفع أسعار الفائدة، لكنها لن تفرغ سفن الحاويات، ولن تعيد فتح الطاقة الإنتاجية في الصين، ولن تقوم بتوظيف سائقي الشاحنات الكبيرة، والتي تنقل البضائع عبر البلاد.ومع ذلك، سيحاول صناع السياسة إبطاء الاقتصاد وكبح التضخم.
نهج ذو شقين
وللتوضيح أكثر، فإن هذا النهج ذو شقين: سيرفع البنك المركزي أسعار الفائدة المعيارية قصيرة الأجل مع التخلص من سندات بقيمة تتجاوز 8 تريليونات دولار، التي تراكمت على مر السنين للمساعدة في الحفاظ على تدفق الأموال عبر الاقتصاد.وبموجب مخطط بنك الاحتياطي الفدرالي، فإن الانتقال من هذه الإجراءات إلى تضخم أقل يسير على النحو التالي:المعدلات المرتفعة تجعل التمويل أكثر تكلفة والاقتراض أقل جاذبية، وهذا بدوره يؤدي إلى إبطاء الطلب لمواكبة العرض، الذي تأخر بشدة خلال الوباء، ومع انخفاض الطلب يعني أن التجار سيتعرضون لضغوط لخفض الأسعار لجذب الناس لشراء منتجاتهم.في حين تشمل الآثار المحتملة انخفاض الأجور، ووقف أو حتى انخفاض أسعار المساكن المرتفعة، وبالتأكيد الانخفاض في التقييمات لسوق الأوراق المالية الذي صمد حتى الآن بشكل جيد إلى حد ما في مواجهة التضخم المرتفع وتداعيات الحرب في أوكرانيا.وقال بيرد: «قد نجح الفدرالي إلى حد معقول في إقناع الأسواق بأن عينها على ما يحدث، وتوقعات التضخم طويلة الأجل قيد السيطرة».يأتي ذلك، في حين ارتفع رقم التضخم لأسعار المستهلكين بمعدل سنوي 7.9 في المئة في فبراير وربما ارتفع بوتيرة أسرع في مارس. كما قفزت أسعار البنزين بنسبة 38 في المئة خلال فترة الـ 12 شهراً، بينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 7.9 في المئة، كما ارتفعت تكاليف السكن بنسبة 4.7 في المئة، وفقاً لبيانات وزارة العمل.لعبة التوقعات
لكن هذا ليس كل شيء، فهناك أيضاً عامل نفسي في المعادلة، إذ يُعتقد أن التضخم هو شيء من نبوءة تحقق ذاتها. وعندما يعتقد الناس أن تكلفة المعيشة ستكون أعلى، فإنهم يعدلون سلوكهم وفقاً لذلك.وعلى الجانب الآخر، ترفع الشركات أسعار منتجاتها وخدماتها، في حين يطالب العمال بأجور أفضل، وفي هذه الحلقة يمكن أن تؤدي إلى زيادة التضخم.وهذا هو السبب في أن مسؤولي «الفدرالي» لم يوافقوا فقط على رفع أسعار الفائدة لأول مرة منذ أكثر من 3 سنوات، ولكنهم تحدثوا أيضاً بحزم بشأن التضخم، في محاولة لكبح التوقعات المستقبلية.وفي هذا السياق، ألقت عضوة مجلس محافظي «الفدرالي» لايل برينارد- التي كثيرا ما كانت من دعاة أسعار الفائدة المنخفضة - خطاباً أذهل الأسواق الثلاثاء الماضي عندما قالت إن السياسة النقدية بحاجة إلى أن تكون أكثر تشدداً.ولحل هذه المعضلة فإن مزيج من- التحركات الملموسة بشأن أسعار الفائدة، بالإضافة إلى رسائل «التوقعات المستقبلية» بشأن الاتجاه الذي تسير فيه الأمور- يأمل من خلاله «الفدرالي» خفض التضخم.إبطاء النمو
بدوره، قال كبير الاقتصاديين في وكالة موديز، مارك زاندي: «إنهم بحاجة إلى إبطاء النمو»، مضيفا «الحل سيكون بنزع بعض القوة التي يتسم بها سوق الأسهم، وتوسيع هوامش الائتمان ووضع معايير أكثر إحكاماً للاكتتابات، فضلاً عن إبطاء نمو أسعار الإسكان، مما سيعمل على خفض نمو الطلب، وهذا جزء أساسي مما يحاولون القيام به حالياً، في محاولة لتضييق الأوضاع المالية قليلاً حتى يتباطأ نمو الطلب والاعتدال في الاقتصاد».صعوبة الحل
تعتبر الظروف المالية وفقاً للمعايير التاريخية حالياً فضفاضة، على الرغم من تشديدها.وفي الواقع، هناك الكثير من المتغيرات، وأكبر مخاوف صانعي السياسة هو أنهم في محاولة كبح جماح التضخم لا يتسببون في تراجع بقية الاقتصاد في نفس الوقت، ودفعه للركود.ويرى زاندي، أن موازنة هذه الأمور تحتاج إلى القليل من الحظ، محذرا من أنه في حال فشل الموازنة بين كبح التضخم والتأثير السلبي على النمو، فإن الاقتصاد سيدخل في سيناريو الركود التضخمي وسيحتاجون وقتها لعلاجه بالدخول في ركود فقط. في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، يتذكر العديد من الاقتصاديين جهود رئيس «الفدرالي» آنذاك، بول فولكر، لمواجهة الأسعار الجامحة عبر رفع أسعار الفائدة إلى ما يقرب من 20 في المئة، مما دفع الاقتصاد إلى الركود قبل ترويض وحش التضخم.وغني عن القول إن مسؤولي الاحتياطي الفدرالي يريدون تجنب سيناريو شبيه بسيناريو فولكر.لكن بعد أشهر من الإصرار على أن التضخم كان «مؤقتاً»، يضطر البنك المركزي لتشديد سياسته النقدية بصورة سريعة بعدما تأخر في قراءة الأرقام بشكل جيد في البداية.من جانبه، قال كبير الاقتصاديين السابق في عملاق السندات بيمكو، بول ماكولي: «سواء أكان ما تم التخطيط له كافياً أم لا، فنكتشف ذلك في الوقت المناسب».لكنه أضاف «ما يخبروننا به هو، إذا لم يكن ذلك كافياً، فسنبذل المزيد، وهو اعتراف ضمني بأنهم سيزيدون من مخاطر الانحدار على الاقتصاد، ويؤكد أنهم يعيشون أجواء فولكر الخاصة بهم».حقيقة الركود
ويعد أحد أكثر المعتقدات انتشاراً هو أن التوظيف، وتحديداً الطلب على العمال، أقوى من أن يولد الركود، في الوقت الحالي، إذ يوجد نحو 5 ملايين فرصة عمل أكثر من العمالة المتاحة، وفقاً لوزارة العمل، مما يعكس واحداً من أضيق أسواق الوظائف في التاريخ.غير أن هذا الوضع يساهم في ارتفاع الأجور، التي ارتفعت 5.6 في المئة عن العام الماضي في مارس.ويرى الاقتصاديون في بنك غولدمان ساكس، أن فجوة الوظائف هي حالة يجب على «الفدرالي» معالجتها أو المخاطرة بالتضخم المستمر.وقالت الشركة إن «الفدرالي» قد يحتاج إلى خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى النطاق السنوي (من 1 إلى 1.5 في المئة) لإبطاء سوق العمل، مما يعني أن معدل الفائدة أعلى من أسعار العملات في الأسواق- ومساحة أقل للمناورة للاقتصاد للتراجع على الأقل نحو الانكماش الضحل.توقعات برفع الفائدة الأميركية 100 نقطة أساس بنهاية يونيو
أظهر استطلاع أجرته وكالة «رويترز» أن الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي)، قد يرفع أسعار الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس في اجتماعي مايو ويونيو، أي بإجمالي 100 نقطة، وفق ما قاله 56 اقتصاديا من بين 102 استطلعت الوكالة آراءهم. وأشارت نتائج الاستطلاع، أمس، إلى توقعات ببلوغ متوسط مؤشر أسعار المستهلك 6.8 في المئة في 2022، و3.0 في المئة و2.5 في المئة في 2023 و2024 (مقابل 6.1 في المئة، و2.6 في المئة و2.2 في المئة في استطلاع مارس).وأظهر الاستطلاع أيضاً احتمالية حدوث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة في عام واحد بواقع 25 في المئة، وفي عامين بـ40 في المئة. وبعد خفض المعدلات إلى الصفر في بداية الوباء في مارس 2020، أبقى بنك الفدرالي المعدلات عند ذلك الحد حتى رفعها في النهاية إلى نطاق يتراوح بين 0.25 في المئة و0.5 في المئة في مارس.ومع بلوغ التضخم مستويات مرتفعة، يحاول مسؤولو الفدرالي توظيف السياسات النقدية في محاولة لكبح موجة ارتفاع الأسعار.