حول الثقافة في العلاقات الدولية
إذا ما التفتنا إلى النصف الأخير من القرن العشرين نجد أن الثقافة أصبحت في مقدمة المشهد بعد أن كانت في خلفية المشهد في الحقب السابقة، والواقع أن الثقافة حظيت بالاهتمام، وأصبحت موضوعا للعديد من مجالات البحث، فهي تؤدي دوراً مهماً في حياة الفرد، وتشكل مرآته أمام الإنسانية، فإما أن تعكس تخلفه أو تقدمه، انسجامه أو تباينه؛ وعلى نحو ما فالثقافة تنطوي في جوهرها على مطابقة لصورة واقع سلبي أو إيجابي بين مراحل التطور الإنساني، فهذا المفهوم المثقل بالمعاني هو ظاهرة ملازمة للإنسان وتأثيراتها ظاهرة في جميع مناحي حياته، بها يعبر عن نفسه واختياراته، وتؤكد صفته إنسانيته.وحينما يتأمل المرء الأحداث التي تمر بها البشرية اليوم، يجد أن الثقافة قضية حيوية، فمنظومة القيم الثقافية تتحكم في سياسات واختيارات الدول والتكتلات الإقليمية والدولية؛ ولا نجافي الصواب إذا قلنا إن الأبعاد الثقافية قد تتجاوز الحقل السياسي إلى بقية الحقول لتكون خلفية وركيزة لاتخاذ مجموعة من القرارات في إطار العلاقات بين الدول.وكما يبدو فإن سرعة ووتيرة التحولات التي تجري في العالم وعلى مختلف الصعد، جعلت البشرية جمعاء تعيش مرحلة انتقالية ومنعطفا تاريخيا، إذ غدت الثقافة حاضرة في كل الرهانات والصراعات السياسية والأيديولوجية، وتصدرت الهويات الطائفية والقومية والإثنية المشهد، مما أدى إلى تزايد الأفعال الإرهابية ذات المصدر الديني وتصاعد حدة الحروب العرقية التي ظننا أنها أصبحت من الماضي.
وإن التأمل الجاد في هذا الوضع يدعونا إلى القول، بأن الثقافة تقف خلف نشر التعصب والعنف وتأجيج العديد من الظواهر الصراعية، لتتحول إلى أداة لفرض أنماط محددة من الأفكار والسلوكيات، في محاولة من الأطراف القوية والمختلفة توحيد وتنميط البنى الثقافية وفقا لأولوياتها، ولما يجب أن تكون عليه الثقافة، انطلاقا من نظرتها وتبعا لأهدافها ومصالحها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يمكن للثقافة كونها قوة فاعلة مساهمة في تشكيل وعي الإنسان وتوجيه رؤاه وتحديد آفاقه، أن تفسح المجال للحوار بين الثقافات وتقبل الآخر؛ خصوصاً إذا علمنا أننا نعيش في عصر أصبحت فيه وسائل الاتصال والتواصل كثيرة ومتعددة وسريعة الانتشار، مما أنتج لنا نوعا من التداخل الثقافي أو الغزو الثقافي، أدى إلى خلق تجاذب وتنافر وحركة تناقضات لا تتوقف بين الأمم والشعوب، بل حتى داخل المجتمع الواحد. وبالتالي فإن التعايش والتعاون بين الثقافات أصبح غاية ضرورية لبناء عالم أقل عنفا وأكثر عدلا وإنسانية، من خلال تبني قيم التسامح وتحويل نقاط الخلاف إلى مساحة للحوار بدلا من تأجيج نقط الصراع؛ وفي خضم وضع يعيش فيه العالم فترة انتقالية تطبعها تحديات ومآزق حقيقية تتطلب من الجميع التفكير العميق، وإعادة اكتشاف العوامل الإيجابية ذات الجوهر الثقافي في العلاقات الدولية. وبناء على ذلك، فقد حظي البعد الثقافي باهتمام كبير من لدن الباحثين والدارسين في فهم المجتمعات وتحليل الفوارق فيما بين المجتمعات وتفسير التطور الاقتصادي والسياسي لدول دون أخرى، باعتباره أحد المتغيرات التفسيرية لعمليات التحديث والدمقرطة، والتركيز على دور القيم والاتجاهات الثقافية كعوامل تيسر أو تعوق العلاقات بين الدول. في مقدورنا القول إن الاهتمام بالعلاقات الثقافية غدا رهانا كبيرا بالنسبة لجميع المجتمعات، لارتباطها بقضايا معاصرة كالديموقراطية وحقوق الإنسان والتنمية والتعايش والحوار بين الثقافات، في مواجهة مفهوم الأيديولوجية الذي هيمن على الفكر السياسي والفلسفي لما يناهز قرنا من الزمن وأفل نجمه مع نهاية الحرب الباردة، لصالح مفهوم الثقافة والعلاقات الثقافية؛ إذ أصبح المحللون السياسيون وخبراء العلاقات الدولية يولون أولوية لإشكاليات المرتبطة ارتباطا وثيقا بهذا المفهوم مثل الهوية الثقافية والسياسات الثقافية والحوار بين الثقافات والتعاون الثقافي.ونتيجة لما شهدته العلاقات الدولية والنظام الدولي من تغيرات بنيوية عميقة وبروز ظاهرة العولمة، هذه الظاهرة المتعددة الأبعاد والتي شكلت جزءا من تحول ثقافي شامل، حيث استبدلت الحدود السياسية والجغرافية والإيديولوجية، لتحتل العوامل الثقافية حيزا كبيرا في أدبيات دراسة العلاقات الدولية وتعدد وجهات النظر بشأن تأثير العامل الثقافي ودوره في تفسير وصياغة السياسة الدولية. وبالتالي، فإن علاقة الثقافة بمجال العلاقات الدولية، يعتبر إشكالية كبرى في هذه المرحلة، لمركزية البعد الثقافي وإسهامه المتزايد سواء في تغذية العديد من الصراعات الدولية أو مساهمته في بلورة وتدعيم السياسات الخارجية للدول باعتبارها قنطرة وجسرا لا غنى عنه في عمليات التقدم والتنمية أو في تلاقي الثقافات وتلاقحها وتعايشها من أجل بناء السلام العالمي. * باحثة في العلاقات الدولية