منذ نشوء «داعش» في عام 2014، حين اجتاحت هذه الجماعة الإرهابية شمال العراق وشرق سورية، توقّع الكثيرون ألا يحتاج التنظيم إلى وقتٍ طويل قبل ترسيخ نفسه في باكستان، وكانوا محقين في توقعاتهم، فقد استفاد «داعش» من البيئة الحاضنة له هناك، وبدأت باكستان تزرع بذور التطرف الديني والطائفي منذ عقود.كما حصل في بلدان أخرى، دقّ ظهور «داعش» المتجدّد ناقوس الخطر في أروقة السلطة داخل باكستان، فاتخذت المؤسسات الأمنية الباكستانية خطوات صارمة ضد جماعات إرهابية أخرى، لا سيما الفرع الطائفي الخطير «عسكر جنجفي»، علماً أنه قد ينضم إلى «داعش» قريباً.
أدى تكثيف الحملة الأمنية في باكستان إلى مقتل مالك إسحاق، أحد مؤسسي وقادة «عسكر جنجفي»، فقد قُتِل إسحاق في 29 يوليو 2015 بنيران الشرطة إلى جانب ابنَيه و11 مقاتلاً آخر، وذكرت التقارير حينها أن إسحاق انضم إلى «داعش»، مما يجعله مصدر تهديد على الأمن، ويعد من أبرز الشخصيات التي تستهدفها الدولة الباكستانية.كان مقتل إسحاق جزءاً بسيطاً من موجة عمليات تهدف إلى التخلص من مقاتلي «عسكر جنجفي» المتطرفين في أجزاء مختلفة من البلد، ورداً على هذه العمليات تابع «عسكر جنجفي»، تحت راية «داعش»، استهداف منشآت الدولة والمدنيين والباكستانيين الشيعة.لكنّ مقتل إسحاق لم يكن كافياً لمنع «داعش» من ترسيخ مكانتها في باكستان وأماكن أخرى من المنطقة، لا سيما في أفغانستان المجاورة، رغم انتشار القوات الأميركية، حيث نجح «داعش» في التوسّع داخل باكستان رغم حملات القمع الرسمية لأن التطرف الديني كان شائعاً أصلاً عن طريق جماعات محظورة مثل «عسكر جنجفي» وحركات لا تزال قانونية.إنه جزء من الأسباب التي تجعل باكستان تواجه تهديدات «داعش» اليوم، فبعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان في السنة الماضية، ليس مفاجئاً أن يطرح التنظيم تهديداً على البلد مجدداً.يتّضح هذا التهديد في الهجوم الذي أطلقه التنظيم حديثاً عبر انتحاري تابع له، في 4 مارس، داخل مسجد شيعي في منطقة «خيبر بختونخوا»، في مدينة «بيشاور» الشمالية الغربية، أسفر هذا الهجوم عن مقتل 64 شخصاً على الأقل وإصابة عدد كبير من الناس، وكان هذا الاعتداء هو الأخطر منذ أربع سنوات في باكستان.أطلق «داعش» اعتداءً ضخماً آخر بعد أقل من أسبوع في إقليم «بلوشستان» المتقلّب في جنوب غرب باكستان، فأعاق انتحاري موكب الرئيس عارف علوي في بلدة «سيبي»، وأودى بحياة ستة أفراد من الطاقم الأمني وأصيب 22 آخرون، منهم 19 مسؤولاً من وكالات إنفاذ القانون.أثبت هذا الهجوم للأسف تنامي تهديدات «داعش» في باكستان، إذ يظن المحللون الأمنيون أن مقاتلي «داعش» انتقلوا من أفغانستان إلى باكستان، وقد زادت خطورة حركة التطرف التي يقودها «داعش» لأن الطائفية والتشدد الديني أصبحا جزءاً من حياة الناس في باكستان منذ فترة طويلة.يقال إن معظم مقاتلي «داعش» في باكستان كانوا جنود مشاة وقادة سابقين في جماعة «عسكر جنجفي» التي تحمل أجندة معادية للشيعة منذ وقتٍ طويل،ففي آخر ثلاثة عقود، غيّرت الطائفية المشهد العام في باكستان لجميع الأسباب المغلوطة، وأدى توسّع تهديدات «داعش» إلى زيادة قلق المسلمين الشيعة وأقليات دينية أخرى لطالما تحمّلت أعباء التطرف السنّي، فقُتِل آلاف المسلمين الشيعة بطرقٍ عنيفة في باكستان قبل وصول «داعش».إلى جانب التطرف الذي ترعاه الدولة وزاد سوءاً في عهد الجنرال والدكتاتور السابق ضياء الحق بين العامين 1977 و1988، تأجّجت مظاهر التطرف الديني في باكستان أيضاً بسبب التنافس الإقليمي بين إيران والمملكة العربية السعودية، وبرز تداخل واضح بين الثورة الإيرانية في عام 1979 والغزو السوفياتي لأفغانستان من جهة، والمشاعر الدينية والطائفية السائدة في باكستان من جهة أخرى، فاستفادت إيران من تصدير آرائها الثورية المشتقة من الإسلام الشيعي، مما أدى إلى زيادة مخاوف السعودية من تنامي النفوذ الإيراني، وردّت السعودية عبر تمويل عدد كبير من المدارس الدينية في المنطقة، فضلاً عن دعم جماعات المجاهدين التي حاربت الغزو السوفياتي في أفغانستان.يعتبر البعض ظهور «داعش» في باكستان من أحدث مظاهر المنافسة الإيرانية السعودية القديمة التي كانت تُسبب عواقب وخيمة في جميع الظروف، واليوم تحوّلت هذه المنافسة إلى إرهاب له طابع طائفي.لكن نظراً إلى حظر بعض الجماعات الطائفية وتشجيع حركات أخرى على ترسيخ مكانتها، أصبح التطرف الديني وحشاً متعدد الرؤوس في باكستان، وقد يكون نمو «داعش» في الأراضي الباكستانية الثمن الباهظ الذي يضطر البلد لدفعه لأنه سمح بتنامي التطرف الديني بلا رادع طوال عقود، ويبدو أن باكستان لم تتعلم الدروس من تجاربها الماضية المريرة للأسف.لكن أثبت جزء من حملات القمع المحلية ضد الجماعات السنية المحظورة فاعليته، ففي عام 2015، كثّفت المؤسسات الأمنية حملة القمع بموجب «خطة العمل الوطنية»، وهي استراتيجية باكستانية مؤلفة من عشرين نقطة لمكافحة الإرهاب، وأدت هذه الحملات إلى تراجع الاعتداءات المرتبطة بحركات التطرف ودفعت الجماعات المسلّحة إلى شكلٍ من السبات، بما في ذلك «داعش»، وخلال السنوات اللاحقة، توجّه عناصر من «داعش» في باكستان إلى أفغانستان لإعادة تنظيم صفوفهم والتعاون مع مقاتلين آخرين من التنظيم في أفغانستان.لكن يبدو أن حملة التطرف التي يقودها «داعش» اليوم بدأت تعود إلى باكستان مجدداً، إذ يقال إن مقاتلي التنظيم انتقلوا من أفغانستان إلى باكستان بعد حملة القمع التي أطلقتها حركة «طالبان» الأفغانية ضدهم، ونجحت هذه الحركة، بدرجة معينة، في إخماد تهديدات «داعش» في أفغانستان، وهذا الوضع لا يصبّ في مصلحة باكستان لأنها قد تصبح القاعدة المفضّلة للجماعة الإرهابية.يتقاسم هذان البلدان حدوداً طويلة يسهل اختراقها وتفتقر إلى إدارة كفؤة، ونظراً إلى احتمال تنقّل الجماعات الإرهابية عبر الحدود، قررت السلطات الباكستانية تسييج المنطقة الحدودية مع أفغانستان، لكن الحكومة الأفغانية عارضت هذه الخطوة، واليوم تبدو «طالبان»، التي استرجعت سيطرتها على كامل البلد منذ أغسطس 2021، أكثر إصراراً من أسلافها على معارضة بناء السياج الحدودي من جانب السلطات الباكستانية، حيث أصبح السياج شبه مكتمل، لكن أزالت «طالبان» الأفغانية الأسوار في بعض أجزاء الحدود مع باكستان للتأكيد على معارضتها لما يحصل، وفي ظل احتدام الخلافات بين الحكومتَين، تستطيع جماعات محظورة أن تتابع التنقل بين البلدَين هرباً من حملات القمع التي يطلقها الطرفان.لا تزال الجماعات الطائفية السنية، بما في ذلك «داعش»، منتشرة في باكستان رغم الحملات القمعية المتكررة ضدها، وينجم هذا الوضع عن أسباب محلية ودولية في آن، فقد ترددت إسلام أباد في قمع الجماعات التي تنشر مظاهر الكره الطائفي والتطرف الديني بشكلٍ كامل وحاسم، وتابع المقاتلون الهرب عبر الحدود، ونتيجةً لذلك، يسهل أن تظهر هذه الجماعات في باكستان في أي وقت. من الواضح أن حكّام باكستان لم يتعلموا من تجارب الماضي لتحسين طريقة تعاملهم مع تهديدات «داعش» اليوم، وإلى أن تثبت الحكومة قدرتها على مقاومة العنف الديني في جميع الظروف، لن يتوقف سقوط الضحايا في باكستان باسم الدين والطائفة، وبدل التصدي للتشدد، ترسّخت هذه الظاهرة لأن الدولة فضّلت تطبيق مقاربة ضيقة تتمحور حول الوضع الأمني، ومهّدت هذه الظروف لإعادة ظهور تهديدات «داعش» الذي يتابع حتى الآن نشر الفوضى في باكستان.* محمد أكبر نوتزاي
دوليات
«داعش» يُهدد باكستان مجدداً
15-04-2022