بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، توقّع عدد كبير من المراقبين في البداية أن تسرق الاعتداءات السيبرانية الأضواء باعتبارها أهم أداة في ترسانة روسيا، لكن بعد مرور شهر على بدء القتال، توصّل أبرز الخبراء والمحللين في مجال الصراعات السيبرانية إلى استنتاج معاكس، هم يزعمون أن النشاطات الروسية في الفضاء الإلكتروني كانت ضئيلة أو حتى معدومة، وينفون دور العمليات السيبرانية في الصراع المستجد، ويفترضون أن التحضيرات الرقمية لغزو أوكرانيا لم تحصل يوماً، أو كانت عشوائية، أو لا تعطي أي نتائج ملموسة، أو ربما كانت مجرّد امتداد للنشاطات السيبرانية الروسية طويلة الأمد ضد أوكرانيا، ولو أنّ هذا الصراع لا يصل إلى عتبة الحرب المباشرة.لكنه تشخيص مغلوط للوضع، إذ تشير جميع الأدلة المتاحة إلى إقدام روسيا على إطلاق حملة سيبرانية مُنسّقة لمنح قواتها العسكرية تفوقاً مبكراً خلال الحرب في أوكرانيا، كان الاختلاف هائلاً بين هذه الحوادث من جهة والتحليلات العامة التي تؤكد تراجع العمليات السيبرانية الروسية من جهة أخرى، فوجد المحللون صعوبة في تحديد طبيعة العمليات السيبرانية في أوكرانيا ودورها في الحملة العسكرية الروسية بسبب المفاهيم المسبقة حول تأثير الاعتداءات السيبرانية في ساحة المعركة، لكنّ الاتكال على هذه المفاهيم قد يرسّخ الإخفاقات في أي سياسات مستقبلية أو جهود استخبارية لاحقة. لا يزال الفضاء الإلكتروني مجالاً ناشئاً لتنفيذ العمليات، وقد تؤثر أحداث أوكرانيا بشدة على حجم القوة السيبرانية الروسية وطريقة فهم الصراع السيبراني بحد ذاته.
عملياً، تتابع روسيا استعمال الأدوات السيبرانية التي تملكها في زمن الحرب، فتستخدم المزيد من البرمجيات الخبيثة والمدمّرة بشكلٍ أسبوعي، فقد شهدت المدن التي يحاصرها القصف الروسي، بما في ذلك خاركيف وكييف، عمليات سيبرانية لتخريب خدمات الإنترنت، وتتابع السلطات السيبرانية الوطنية في أوكرانيا الكشف عن محاولات تخريبية من جانب الوحدات السيبرانية الروسية والبيلاروسية، وتزامنت هذه التطورات كلها مع تعطيل المواقع الإلكترونية، وإطلاق اعتداءات لوقف خدمة الإنترنت، وعمليات تخريبية أخرى تهدف إلى نشر الفوضى واستنزاف الدفاعات السيبرانية الأوكرانية.يجب أن يُقيّم المحللون طرق استعمال القوة السيبرانية في سياقها المناسب، لكن يستحيل تقييم العمليات السيبرانية الروسية في أوكرانيا من دون مراعاة الأخطاء التكتيكية والاستراتيجية المتعددة التي أساءت إلى جوانب أخرى من الحملة العسكرية الروسية، فقد توقّع المخططون الروس تحقيق انتصار سريع في أوكرانيا، لكن فشلت استراتيجيتهم لأسباب متنوعة، منها غياب التنسيق المناسب والتحضيرات اللازمة، والاستخفاف بقوة الجيش الأوكراني وعزيمته، فضلاً عن ثغرات استراتيجية أخرى، وأدت الإخفاقات والصراعات الروسية إلى إضعاف قدرة البلد على استعمال برنامجه السيبراني بالكامل لدعم قواته التقليدية.لكن رغم هذه القيود كلها، نجحت الوحدات السيبرانية الروسية في استهداف مجموعة من المواقع، بما يتماشى مع خطط موسكو الحربية، وكانت الاعتداءات السيبرانية الروسية ضد الحكومة، ومراكز القيادة والتحكم العسكرية، والخدمات اللوجستية، وحملات الطوارئ، وأجهزة أساسية أخرى مثل مراكز السيطرة على الحدود، تتماشى بالكامل مع استراتيجية «الرعد الفائق» التي تهدف إلى نشر الفوضى والارتباك والشكوك وتجنّب حرب مكلفة ومطوّلة في أوكرانيا. عملياً، أثبتت الوحدات السيبرانية الروسية قدرتها على تحقيق النجاح من دون تلقي عدد كبير من التحذيرات والتوجيهات المسبقة ورغم المصاعب الكبرى التي تعوق الجهود العسكرية الروسية.يتعلق سبب هذا النجاح النسبي بطبيعة المنافسة الفريدة من نوعها ونوع الصراع في الفضاء الإلكتروني، وعلى عكس الحشد العسكري أو أشكال أخرى من التعبئة العسكرية التي تبقى واضحة ونادرة، تنجم العمليات السيبرانية عن دورات متلاحقة وسرية من العمليات في زمن السلم والحرب، ومن خلال استهداف شبكات دقيقة في زمن السلم، يستطيع المعتدون أن يحضّروا البرمجيات الخبيثة لاستعمالها في زمن الحرب. تكون الأساليب التي يستعملها المعتدون تمهيداً لإطلاق نشاطات التجسس مشابهة لتلك التي تسبق الاعتداءات السيبرانية، وفي ما يخص الوحدات السيبرانية، لا تُغيّر الحرب طريقة استعدادها أو مسار إطلاق القتال بطريقة جذرية.تشير الاعتداءات السيبرانية الروسية قبل الغزو إلى حصول تحضيرات منهجية، وقد استطاع المعتدون على الأرجح أن يصلوا إلى الشبكات الأوكرانية قبل أشهر عدة، لكن تتعارض هذه الفرضية بقوة مع غياب التحضيرات الواضح في مختلف الأدوات العسكرية الروسية الأخرى، بما في ذلك الاستعدادات الميدانية والجوية والحملات المؤثرة والمتكررة عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. لم تكن الوحدات السيبرانية الروسية تحتاج إلى أوامر عسكرية مباشرة للتحضير للغزو أو إنتاج قدرات جديدة لخوض الحرب، بل كانت وقائع العمليات الحاصلة في الفضاء الإلكتروني تفرض عليها أن تستعد قبل فترة طويلة، ومن المتوقع أن تبقى الوحدات السيبرانية الروسية في حالة من التأهب الدائم وتبدي استعدادها لدعم الأهداف التكتيكية والاستراتيجية في أسرع وقت، داخل أوكرانيا وفي أماكن أخرى، إذا استمرت الحرب.لا يراعي الرأي الذي يزداد شيوعاً حول تراجع فاعلية العمليات السيبرانية الروسية المشهد العام. لم تستفد الاستراتيجية الروسية من كامل قدرات الوحدات السيبرانية وتجاربها الناجحة، ولم تعطّل هذه الوحدات مثلاً الكهرباء أو شبكة الإنترنت على نطاق واسع في أوكرانيا، لكن لا يعني ذلك أن روسيا تعجز عن شن هذا النوع من الاعتداءات كما يقول بعض المراقبين، بل إنها توقعت تحقيق انتصار سريع لدرجة ألا تحتاج إلى إحداث هذه الأعطال الواسعة والعشوائية.يبدو أن الوحدات العسكرية الروسية كانت تتكل على البنية التحتية المدنية الأوكرانية للاستيلاء على كييف بالطريقة التي خطّطت لها، ولم تستطع المجازفة بمواجهة ردة فعل عنيفة على عملياتها، إذ تستطيع روسيا على الأرجح أن تطلق اعتداءات سيبرانية واسعة النطاق وقادرة على التسبب بعواقب تفوق ما توحي به أحداث أوكرانيا اليوم، فقد حسّنت موسكو قدرتها على تنفيذ عمليات سيبرانية شاملة بدرجة ملحوظة في السنوات الأخيرة، وزادت استثماراتها في قدراتها السيبرانية، وطوّرت نسخاً جديدة ويصعب رصدها من البرمجيات الخبيثة والأكثر تقدّماً والبنى التحتية الخاصة بالعمليات.لم تنتهِ الحرب في أوكرانيا بعد، فقد اضطرت روسيا لتغيير طريقة تنفيذ العمليات، وتشير الاستخبارات الغربية إلى انتقال موسكو إلى استراتيجية الاستنزاف، وبما أن جميع التطورات تثبت أن الصراع سيتحول على الأرجح إلى حرب مطوّلة، فقد لا تمارس روسيا ضبط النفس في مستوى استعمالها للعمليات السيبرانية التخريبية والتدميرية، ومن المتوقع أن يستغل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين النجاحات السيبرانية السابقة ويحاول تخريب أو إضعاف الحكومة والجيش والبنية التحتية المدنية، فضلاً عن شركات القاعدة الصناعية الدفاعية، وتشير محاولات روسيا الجديدة لضرب الأهداف التي هاجمتها في يوم الغزو، عبر استعمال برمجيات خبيثة ومدمّرة أخرى، إلى بدء مرحلة جديدة من الصراع في الفترة المقبلة. قد تكون عمليات التجسس التي تتكل على الفضاء الإلكتروني أقل وضوحاً من الاعتداءات السيبرانية (سُرِقت هذه المرة معلومات حساسة من الشبكات الأوكرانية)، لكن من المتوقع أن تؤدي دوراً مريعاً في الهجوم الروسي، ويقال إن جهاز الأمن الفدرالي الروسي استعمل معلومات شخصية مسروقة من قواعد بيانات فدرالية أوكرانية لتحضير قوائم اغتيال بأسماء شخصيات قد تقود حركة المقاومة الأوكرانية في حال انتصار روسيا، ومع استمرار الحرب، قد تصبح روسيا أكثر ميلاً إلى استخدام القدرات الاستراتيجية الكامنة في فِرَق المقرصنين الموالية للكرملين والمتخصصة ببرامج الفدية والقادرة على نشر الفوضى من دون سابق إنذار.أخيراً، يجب أن يستعد صانعو السياسة الغربية لتنفيذ عمليات سيبرانية تتجاوز حدود أوكرانيا، فقد سبق أن أنتجت العمليات السيبرانية الروسية تداعيات وصلت آثارها إلى دول الناتو منذ بدء الغزو، وهي تؤثر على قطاعات أساسية وعلى شبكة الإنترنت المدنية في أنحاء أوروبا. لقد تقبّلت روسيا مخاطر اعتداءاتها السيبرانية واحتمال أن تُسبب أضراراً جانبية، وهي تحمل تاريخاً طويلاً من التصرفات المتهورة التي تدخل في هذه الخانة نفسها، وفي شهر مارس الماضي، اعتبر «تقييم التهديدات السنوي» الصادر عن مكتب مدير الاستخبارات الوطنية في الولايات المتحدة أن روسيا تُركّز بشكلٍ خاص على تحسين قدرتها على استهداف البنية التحتية الأساسية في واشنطن وفي الدول الحليفة. تثبت التحضيرات الروسية الناشطة للعمليات السيبرانية المستقبلية أن هذا التهديد ليس فارغاً.كانت العمليات السيبرانية إذاً من أهم أسباب النجاح العسكري الروسي حتى الآن في حرب أوكرانيا، ومن المتوقع أن تبقى أداة روسية مرنة لاستهداف مجموعة من المواقع في أوكرانيا وأماكن أخرى، وإذا أغفل صانعو السياسة والمحللون عن استعمالات هذه الأداة بطرق غير مسبوقة، فقد يعجزون عن الاستعداد للتطورات المستقبلية، وسيكون تقييم دور الحرب السيبرانية في أوكرانيا حتى هذه المرحلة وفهم تأثيرها على الحروب المعاصرة من أهم العوامل للحفاظ على الأمن الجماعي في دول حلف الناتو والسيطرة على مخاطر التصعيد المرتقب في الفضاء الإلكتروني.* ديفيد كاتلر ودانيال بلاك
دوليات
غياب الحرب السيبرانية في أوكرانيا مجرّد خرافة
15-04-2022