بدأت إرهاصات المسرح الشعري لدى صلاح عبدالصبور في وقت مبكر، وتناغمت قصائده الأولى بين الغنائية والدرامية، وخاض مع الشاعرين أحمد عبدالمعطي حجازي وعبدالمنعم عواد يوسف معركة شرسة ضد رموز المدرسة الكلاسيكية المصرية مثل عباس محمود العقاد وعزيز أباظة في فترة الخمسينيات، وفتحوا آفاقا جديدة للحداثة الشعرية.

تمرد عبدالصبور على عباءة الشعر العمودي، من دون أن يتخلى عن كتابة قصائد متفرقة تحتفي بالوزن والقافية، ليثبت أن الشاعر الحداثي قادرٌ على كتابة القصيدة التقليدية، ووثيق الصلة بمنجز الأسلاف، ويتضح ذلك في قراءته العميقة للشعر العربي القديم، وأفكار بعض المتصوفة مثل الحلاج وبشر الحافي، ومن الغرب منجزات المدرسة الرمزية عند بودلير وريلكه، والشعر الفلسفي الإنكليزي في قصائد وليام بتلر ييتس وت. س. إليوت.

Ad

وتحوّلت تلك الروافد إلى محفز إبداعي، ومنها انطلق إلى تجربة شعرية بالغة الثراء والتنوع، وكان لديه شفافية لطرح ذلك في كتابه «حياتي في الشعر»، وتأثره بقصيدة «الأرض اليباب» لإليوت، وكتب بعض النقاد عن علاقة مسرحية «جريمة قتل في الكاتدرائية» بمسرحيته «مأساة الحلاج»، وانضم الشاعر الإنكليزي إلى قائمة أسماء أخرى، احتفى بها عبدالصبور، منهم أبوالعلاء المعري وامرؤ القيس وشكسبير ويوجين يونسكو وأنطون تشيكوف.

تنويعات درامية

وكانت مسرحية «يرما»، للإسباني فيدريكو غارثيا لوركا، بداية تعلق عبدالصبور بالمسرح الشعري، حين قُدمت على خشبة المسرح المصري عام 1962، واستعان المخرج كرم مطاوع بالشاعر لصياغة الأجزاء المُغناة منها شعرا، وأضفى على النص توهجا من موهبته الجامحة، وبهذه الصياغة اكتمل نضجه وتصوره للبناء الشعري المسرحي.

استشعر عبدالصبور هذا الفراغ الهائل في المسرح الشعري، وكأنه فن أوشك على الاندثار بعد جيل الرواد مثل أحمد شوقي وعزيز أباظة، واكتشف أن نصوصهما تفتقر إلى الدرامية، وتبدو كمجموعة من القصائد يلقيها الممثلون على خشبة المسرح، ودشَّن الشاعر الحداثي مجموعة من القصائد الدرامية، واعتمد خلالها على تعددية الأصوات، منها: «الناس في بلادي» و«شنق زهران» و«تنويعات» والأخيرة يخاطب فيها الشاعر وليام بتلر ييتس.

وتنامى شغف عبدالصبور بالمسرح، حين شاهد في مسرح الجيب بالقاهرة، مسرحية «الكراسي» للكاتب الفرنسي يوجين يونسكو، ودفعته لقراءة مسرحياته التي تنتمي إلى تيار العبث، مثل «الخراتيت» و«المغنية الصلعاء» واعتبرها اكتشافا مهما لكاتب متمرد على القواعد الكلاسيكية للتأليف المسرحي، وعكف على أعمال كُتَّاب آخرين، مثل: «في انتظار جودو» لصامويل بيكيت، و«سجناء التونا» لألبير كامو، و«الذباب» لجان بول سارتر.

وتوافرت لدى عبدالصبور ثقافة مسرحية هائلة، وقدرة على تحويل الشعر إلى دراما، وظل منفتحا على التراث وشتى أنواع المعرفة، واقترن إبداعه الشعري الفريد بدور فاعل في ترجمة بعض المسرحيات والدواوين، وتعريف القارئ العربي بأعمال رموز الحداثة الغربية، ودفع بكتابه القيِّم «فن الدراما» الذي أبحر خلاله في تاريخ المسرح منذ كتَّاب العصر الإغريقي، مثل: أريستوفانيس وسوفوكليس وإيسخوليوس، حتى أعمال شكسبير وبريخت وبرانديلو ودورينمات وغيرهم.

وحانت لحظة ميلاد مسرح شعري مغاير، لشاعر استثنائي لديه مخزون ثقافي ومعرفي، ودراية كاملة بعناصر العرض المسرحي، منها مسرح داخل المسرح، واستخدام السينوغرافيا، واللعب بالإضاءة، لتغيير الزمن من لحظة إلى لحظة، وكسر الإيهام أو تحطيم الجدار الرابع بين الممثل والجمهور، وظل يكتب بعين الشاعر والمخرج معاً، ويقدِّم مسرحياته بصياغة شعرية، وبِنية درامية غير مسبوقة في هذا اللون الدرامي.

محنة العقل

وقد عكف عبدالصبور على كتابة أولى مسرحياته الشعرية «مأساة الحلاج» وصدرت في عام 1964، وتناول فيها شخصية المنصور بن حسين الحلاج المتصوف الذي عاش في منتصف القرن الثالث للهجرة، وتتكوَّن المسرحية من فصلين؛ أولهما بعنوان «الكلمة»، فيما الجزء الثاني بعنوان «الموت»، وتضمنت أبعادا سياسية، وتطرقت لمحنة العقل في مواجهة الجهل، وأدرجها النقاد في مدرسة المسرح الذهني.

كما أنه اهتم بالمزج بين شاعرية النص وعناصر العمل المسرحي، وتخلى عن البناء الكلاسيكي للحدث، وبدأ بمشهد صلب الحلاج على طريقة «الفلاش باك» وحالة الفضول التي تجتاح العامة في الحوادث الصادمة، لإثارة انتباه المتلقي، وتتبع حياة تلك الشخصية التراجيدية، ودورها في طرح قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية وحق الإنسان في حياة كريمة.

وفي عام 1967 تصدى لإخراج «مأساة الحلاج» المخرج الشاب ـ آنذاك ـ سمير العصفوري، واستطاع بموهبته المتفردة أن يمزج بين المضمون وجماليات العرض المسرحي، ويحافظ على خصوصية الأداء الشعري، وقام بدور الحلاج الفنان محمد السبع، وشارك في البطولة مجموعة من نجوم المسرح المصري، منهم: عبدالغني قمر وعبدالمنعم أبوالفتوح، ومحمود التوني، وعرضت بمسرح دار الأوبرا، وحققت نجاحا جماهيريا كبيرا.

وانطلق عبدالصبور في «مأساة الحلاج» إلى المسرح الشعري بمعناه الحقيقي، وتميز بإحكام الحكاية الشعرية ورسم الشخصية، وتجاوز مرحلة وضع الشعر فوق المسرح في شكل مونولوجات وحوارات، إلى بنية سردية متنامية، وصياغتها شعرا لا نثرا، ما جعل المخرجين يلتزمون بنص المؤلف، من دون حاجة إلى إعداد مسرحي، وهذا ما يفسّر قيمة أعمال هذا الشاعر الاستثنائي، ودوره الريادي في هذا اللون الدرامي.

ولا تزال «مأساة الحلاج» تُعرض بين حين وآخر في مسارح عربية، وتغري المخرجين بتقديمها في لحظات تاريخية فارقة، بما تحمله من قيمة إبداعية وأفكار جوهرية حول العدل والحرية، صالحة لكل زمان ومكان.

الشاعر الراحل في سطور
ـ وُلد في 3 مايو 1931 بمدينة الزقازيق في محافظة الشرقية (شمال شرقي القاهرة).

ـ تخرج في كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1951.

ـ عمل بالتدريس، ثم بالصحافة في العديد من الصحف.

ـ عُين مديراً عاماً لهيئة الفنون والآداب المصرية.

ـ عمل مستشاراً ثقافياً في الهند.

ـ عُين أول رئيس للهيئة المصرية العامة للكتاب.

ـ أصدر العديد من الدواوين والمسرحيات والدراسات النقدية.

ـ رحل في 13 أغسطس 1981.

مُحصِّل التذاكر

انطلق عبدالصبور في مسرحيته الثانية «مسافر ليل» إلى فانتازيا رمزية من فصل واحد، تعالج مأساة الظلم والقهر والخوف والمهادنة، والقطار يعادل الحياة، والراكب تشي ملامحه بأنه مواطن بسيط، ويناديه مُحصِّل التذاكر «يا عبده»، فاتحاً مجال الضمير، ليشمل كل أحد، فيما يكتفي الراوي بدور المراقب الحكَّاء، من دون أن يستطيع مواجهة تسلط المحصِّل ضد الراكب، وينتابه الشعور بالضعف، بعد أن طعن عامل التذاكر الراكب بالخنجر: «لا أملك أن أتكلم، وأنا أنصحكم أن تلتزموا مثلي، بالصمت المحكم».

نشر عبدالصبور «مسافر ليل» في عام 1968، وتأخر ظهورها على خشبة المسرح إلى عام 1972، حين عُرضت على مسرح الطليعة بالقاهرة، وقام ببطولتها محمود مسعود (الراكب)، وصبري عبدالمنعم (محصِّل التذاكر)، ورشيد سعيد (الراوي)، وأخرجها فاروق زكي. وفي عام 2019 عُرضت مجددا على مسرح الهناجر في القاهرة ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي، وشارك في بطولتها علاء قوقة وحمدي عباس وجهاد أبوالعينين، وإخراج محمود فؤاد صدقي.

الأميرة تنتظر

وأصدر عبدالصبور مسرحيته الثالثة ذات الفصل الواحد «الأميرة تنتظر» عام 1969، وقُدِمَت على خشبة المسرح المصري في بداية حقبة السبعينيات، وشارك في البطولة عبدالغفار عودة وسميرة عبدالعزيز وحمزة الشيمي وتيسير فهمي ونادية السبع وطارق دسوقي، وإخراج أبوبكر خالد.

وفي «الأميرة تنتظر» وصل عبدالصبور إلى ذروة النضج الفني. وتأتي أهمية هذه المسرحية كونها شديدة الرمزية، وتتميز بحبكتها الدرامية، ودرجة عالية من التكثيف، كسِمة غالبة على مسرحيات الفصل الواحد، بشخصياتها المحدودة، وتُعرض على خشبة المسرح من دون استراحة، ولا يستغرق عرضها أكثر من ساعة، من دون تغيير كثير في قطع الديكور.

وذهب الشاعر إلى عالم الأساطير في حكايات ألف ليلة وليلة، ويحكي عن الأميرة التي تعيش فى كوخ منعزل بغابة السرو، وتنتظر زوجها السمندل الذي كان ضابطا صغيرا في قصر أبيها الملك، ويتقرب إليها طمعاً في الملك، ويحاول أن يُقدِّم إليها الحب والحنان طمعاً في الاستيلاء على العرش من أبيها، وبمقتل الملك واستيلاء زوجها على العرش يصل إلى الكوخ رجلٌ غامض رث المظهر يُدعى القرندل، وتتوالى الأحداث.

وارتكز عبدالصبور في «الأميرة تنتظر» على شكل «المسرح داخل المسرح»، وهو عرض مسرحي يقدم ـ جزئياً أو كلياً ـ داخل المسرحية المعروضة، أو مسرح تجري أحداثه داخل المسرح، وهنا تبدو استفادة عبدالصبور من تلك التيمة في مسرحيات الكاتب الإيطالي لويجي برانديللو «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» (1921)، و«وكلٌ على طريقته» (1924)، و«الليلة نرتجل التمثيل» (1929).

ليلى والمجنون

ثم واصل عبدالصبور في مسرحيته الرابعة «ليلى والمجنون» طرح فكرته الأساسية حول الكلمة والفعل، والسعي لبلوغ الأهداف النبيلة. وتُعد مغامرة درامية أخرى في ثلاثة فصول، ترتكز على تيمة «الميتاتياترو» أو «المسرح داخل المسرح» كعنصر مهم من مكونات المسرح، وتعتمد على تكوين صورة فنية درامية من خلال تقديم عرض مسرحي جديد داخل العرض المسرحي الأساسي، وعُرضت لأول مرة على خشبة مسرح الجيب عام 1972، وشارك في بطولتها سهير البابلي ومحمود ياسين، وفاروق يوسف، وأخرجها عبدالرحيم الزرقاني.

وبدت المفارقة واضحة بين «ليلى والمجنون» ومسرحية أحمد شوقي «مجنون ليلى»، إذ قدّم عبدالصبور معالجةً عصرية حول فرقة مسرحية تتدرب على تمثيل حكاية ليلى العامرية وقيس بن الملوّح، واعتمد بنية درامية ملزمة لأي مخرج يتعامل مع هذا النص الفريد، ووضع في السطور الأولى إرشادات مسرحية تقتضي ظهور لوحة «دون كيشوت» للفنان الفرنسي أونوريه دومييه، للإيهام بأن البطل «الدون كيشوتي» غارق في الوهم، فيما بطل مسرحيته «سعيد» يجسد شخصية المثقف المهموم بقضايا وطنه، ولديه قدرة على استشراف المستقبل.

جوائز وتكريمات
- نال جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته الشعرية «مأساة الحلاج» 1966.

ـ حصل بعد وفاته على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1982.

- حصل على الدكتوراه الفخرية بالآداب من جامعة المنيا في نفس العام.

- منحته جامعة بغداد الدكتوراه الفخرية في نفس العام.

كوميديا سوداء

اكتملت رحلة عبدالصبور مع المسرح الشعري عام 1975، بصدور مسرحيته «بعد أن يموت الملك»، والتي تُعد واحدة من روائع المسرحيات الشعرية، وارتحل خلالها إلى فضاء الكوميديا السوداء، واحتفى بقيم الحرية وكرامة الإنسان، وتبدأ المسرحية براوياتٍ ثلاث يقدمن العرض المسرحي في ثوب ساخر، فيسخرن أولا من المخرج، ثم من المؤلف، ثم من أرسطو صاحب النظريات القديمة في الفن عموما والمسرح بوجه خاص. وتدور الأحداث في أجواء خيالية بلا زمن أو مكان محدد، وقد جرى تقديمها خلال العديد من الفعاليات وعلى خشبات المسارح العربية.

وارتكزت مسرحيات عبدالصبور على فهم عميق لفاعلية وجدوى المسرح في الشعر والحياة، وليس تنويعا لحظيا في الكتابة الشعرية، وحفلت بتنوع الصراع الدرامي، وفي كل مسرحية يرتحل إلى فضاء درامي وتاريخي مختلف، وجاء اهتمامه بالمسرح الشعري مبكرا، فقد أصدر مجموعته الشعرية الأولى عام 1957، ومسرحيته الشعرية الأولى «مأساة الحلاج» عام 1964، ثم توالت الإصدارات بالتناوب مع مهامه الوظيفية، ودوره البارز خلال توليه رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب، وإسهامه في حقل الترجمة بالعديد من الأعمال لرموز الأدب العالمي الحديث. وذهب بعض النقاد إلى أن المسرحية الشعرية استوت على يده كيانا مكتملا مُحكم البنيان، على خلاف ما هي عند شوقي وعزيز أباظة، بسبب غلبة «الغنائية» على مسرحهما الشعري، فالشعر الغنائي يجنح إلى الطنين اللفظي على حساب التجربة، وأثر ذلك سلبا في البناء الفني ورسم الشخصيات، لذا لا يعتمد النظر إلى أعمالهما على أنها أعمال مسرحية على أساس متين، فيما كان مسرح عبدالصبور الشعري بمنزلة ثورة على التقليد، واستطاع المزج بين جماليات نصوصه ومضمونها العميق في تناول الواقع الحياتي بمعضلاته ومختلف قضاياه.

ويُعد صلاح عبدالصبور الأب الحقيقي للدراما المسرحية، فقد نجح في تقديم مسرح درامي شعري عربي لم يكن موجودا من قبله، سوى المحاولات الغنائية البسيطة التي ألبسها أحمد شوقي وعزيز أباظة ثوب الدراما الشعرية، فيما تسلَّح عبدالصبور بأدوات أخرى، ومزج بين استلهام الترات والبنية الحداثية للنص المسرحي.

وكرَّس الشاعر عبدالصبور حياته القصيرة للإبداع والدراسات النقدية والترجمة، وفتح نافذة على رموز الأدب والمسرح العالمي، وترك للمكتبة العربية منجزا ثقافيا هائلا تنهل منه الأجيال، وخمس مسرحيات شعرية رائدة، ستبقى طويلا في ذاكرة المسرح العربي.

أحمد الجمَّال