الاستقلالية الاستراتيجية... نعمة أم نقمة للهند؟
تشير إحصاءات شائعة إلى بقاء حجم الخدمة الخارجية الهندية مساوياً لما هو عليه في سنغافورة حتى الفترة الأخيرة، وهذا ما يعيدنا إلى تمسّك الهند بسياسة عدم الانحياز أو الاستقلالية الاستراتيجية التي تُعتبر على نطاق واسع مرادفة للجلوس على الهامش، وهذه المكانة تُضعِف أهمية البلد في وقت الأزمات.
في الفترة الأخيرة، انتشرت تحليلات حول دور الهند المحتمل كـ«جهة دبلوماسية صامتة» في الصراع الأوكراني، نظراً إلى مكانتها كشريكة أساسية لروسيا والولايات المتحدة في آن، لا سيما عند مقارنتها بالصين التي تعقد شراكة «غير محدودة» مع روسيا وتُضعِف بذلك مصداقية بكين كوسيطة حيادية، لكن تسلمت قوى متوسطة أخرى، مثل تركيا وفرنسا وإسرائيل، دفة القيادة لمحاولة إطلاق عملية سلام ناجحة، وفي غضون ذلك، اقتصر دور الهند على الدفاع عن مصالحها الخاصة في مجال الاقتصاد وأمن الطاقة تزامناً مع التهرب من أي عقوبات ثانوية محتملة، ولا مفر من أن تضعف مزاعم الهند التي تعتبر نفسها أكبر ديموقراطية في العالم والمدافعة الأولى عن النظام الدولي الليبرالي لأن موقفها من الصراع الأخير يبدو أقرب إلى أنظمة استبدادية مثل الصين والإمارات العربية المتحدة (امتنعت هذه الدول الثلاث عن التصويت في مجلس الأمن على قرار يدين التحركات الروسية).كذلك، يصعب الاقتناع بالادعاءات القائلة إن مكانة الهند كدولة نامية تحدّ من ثقلها الجيوسياسي، فقد أدى هذا البلد دوراً بارزاً في أولى سنوات الاستقلال، حين كان أكثر فقراً بكثير، وتتعدد الأمثلة على هذا النهج، فقد استضافت الهند مثلاً «مؤتمر العلاقات الآسيوية» في عام 1947، وقادت «لجنة الأمم المحايدة للعودة إلى الوطن» في نهاية الحرب الكورية في عام 1953، وترأست «لجنة الرقابة الدولية على الهند الصينية» بعد نهاية الحرب بين فرنسا والهند الصينية في عام 1954، ودعمت «مؤتمر باندونغ» الذي أطلق حركة عدم الانحياز في عام 1955.ربما يتأثر الوضع جزئياً بموارد البلد، حيث تشير إحصاءات شائعة إلى بقاء حجم الخدمة الخارجية الهندية مساوياً لما هو عليه في سنغافورة حتى الفترة الأخيرة، لكن تتعلق هذه المسألة في العمق باستعداد الهند لاستعمال نفوذها، وهذا ما يعيدنا إلى تمسّك الهند بسياسة عدم الانحياز أو الاستقلالية الاستراتيجية التي تُعتبر على نطاق واسع مرادفة للجلوس على الهامش، وهذه المكانة تُضعِف أهمية البلد في وقت الأزمات، وفي هذا السياق، يذكر الأكاديمي أميتاف أشاريا في كتاب أصدره في العام 2017: «يبدو أن نيودلهي لا تزال تتعثّر بسبب خللٍ في رؤيتها، وفي زمنٍ يبدو فيه جزء كبير من أفكار رئيس الوزراء الهندي الأول جواهر لال نهرو قابلاً للتنفيذ، لا تزال الهند على ما يبدو تُشكك في قدراتها وترزح تحت أعباء الأفكار الموروثة».
تحمل هذه الكلمات أهمية متزايدة اليوم لأن الهند تواجه نظاماً دولياً يزداد انقساماً وتفككاً ولا يترك مجالاً كبيراً للدول التي تفضّل الجلوس على الهامش. من الناحية الإيجابية، أثبتت نيودلهي أنها تبقى مرنة استراتيجياً ومنفتحة على تعديل مكانتها عند الحاجة، حيث قررت مثلاً إبرام اتفاق تجاري حر مع أستراليا في وقتٍ سابق من هذا الشهر (بعد اتفاق آخر مع الإمارات العربية المتحدة في شهر فبراير)، مما يثبت نزعة الهند إلى تخفيف ميولها الحمائية. اتضحت هذه المقاربة حين انسحب البلد من الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة في عام 2019، فعلى المستوى الأمني، أدت المواجهة الحدودية بين الهند والصين منذ عام 2020 إلى تجديد حماسة نيودلهي تجاه التحالف الرباعي المستجد. يتساءل الكثيرون أيضاً حول منافع تقرّب الهند من روسيا تزامناً مع زيادة اتكال موسكو على الصين وتفوّق بكين عليها بكل وضوح. هذا الوضع يُضعِف احتمال أن تنحاز روسيا إلى الهند (أو تحافظ على موقف حيادي) في أي صراع مستقبلي مع الصين.في النهاية، لا مفر من التساؤل: هل سيسمح التزام الهند الراسخ بسياسة عدم الانحياز أو الاستقلالية الاستراتيجية بتقوية مكانتها في النظام العالمي الناشئ أم إضعافها؟* تشيتيج باجباي