ينسب للإمام الشافعي قوله إنه لا يعرف علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب، تلك المهنة التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالإنسانية وتستعير صفاءها من الأخلاق وتستخدم معارفها لكفكفة آلام الجسد وبلسمة آهات الروح. قد يكون الأبيض لا يليق ببعض المشتغلين به، على حد وصف الدكتور طارق بكري الذي سلط الضوء في إحدى رواياته على فاجعة الأخطاء الطبية التي أودت بحياة ولده «منير» الذي أهدى لروحه نتاجه القصصي الهادف، وفي المقابل فإن الأبيض يليق بكثير من إخواننا وأبنائنا الذين يعتبرون هذه المهنة رسالة سامية وتدخلهم من خلالها صدقة جارية، ووجودهم فيها الى جانب المتألم رحمة واجبة.
وبين المستحق لنقاء البياض وذلك الذي أودت به أخطاؤه والتعنت بعدم الاعتراف بها إلى حلكة السواد تقف قواعد المسؤولية الطبية حداً فاصلاً بين الخطأ والصواب، ويبقى القصاص العادل عبرة لمستحقيه. تحدد أستاذة الأخلاقيات الطبية في كلية الطب بجامعة الكويت الدكتورة منال منصور بوحيمد الطريقة المثلى للتعامل مع الخطأ الطبي من خلال الدراسة المستفيضة لأسباب الخطأ، وتغيير النظام الطبي والسياسات المعمول بها، والاستثمار في التعليم والتدريب، والتقييم الرادع لتكرار مثل هذا الخطأ مستقبلا. وهذا السياق، وفي زمن تعلق سكان الأرض قاطبة بـأمل أن تفضي جهود الطواقم الطبية إلى تخليص البشرية من جائحة «كورونا»، أصدرت دولة الكويت قانوناً متقدماً يحمل الرقم (70) لسنة 2020 بشأن مزاولة مهنة الطب والمهن المساعدة لها، رابطاً من خلاله المشرع بين تطوير وتحديث التشريعات الصحية من جهة والتنمية البشرية والمهنية من جهة أخرى، إذ إن التطور العلمي والتكنولوجي الذي شمل جميع مناحي الحياة يظهّر الحاجة إلى رفع مستوى الخدمات الطبية العلاجية والتشخيصية والوقائية، ويبلور أهمية تنظيم مزاولة مهنة الطب والمهن المعاونة لها، مع حفظ حقوق المرضى بتطبيق المسؤولية الطبية على مقدمي الخدمات الطبية وعلى المنشآت والمؤسسات التي يعملون بها. ما يميز هذا القانون- على حد ما ورد في مذكرته الإيضاحية- أنه ولأول مرة يشمل بشكل تفصيلي آليات تضمن حقوق المرضى، وبيانا لضوابط آداب وأخلاقيات المهنة وحقوق المرضى بما يعزز الثقة بين مقدمي الرعاية الصحية والمستفيدين منها، ويسهم في جودة الخدمات الطبية ويحقق مزيداً من الشفافية والحد من الأخطاء الطبية، وقد استحدث القانون ونظّم في المواد (36) إلى (54) عمل جهاز مهم لانضباط العمل الطبي هو «جهاز المسؤولية الطبية» ليختص دون غيره ومن خلال اللجان التي يشكلها بإبداء الرأي الفني في كل الموضوعات التي تعرض عليه من خلال الشكاوى، والبلاغات، والمحاضر، والتقارير، والقضايا، والدعاوى المتعلقة بالأخطاء الطبية، والمخالفات المهنية المرتكبة من مزاولي المهنة، أو أصحاب المنشآت الصحية، أو مديريها من حيث تحقق الخطأ الطبي أو المخالفة المهنية من عدمه سواء في القطاع الحكومي أو الأهلي، مع بيان وجه وطبيعة الخطأ والمخالفة إن ثبتت وتقييمها وتحديد المسؤول أو المسؤولين عنه فنياً، وتقدير الأضرار الصحية المترتبة عليها وبيان آثارها، وتوقيع العقوبات التأديبية المقررة في هذا القانون بما يتناسب مع جسامة وطبيعة ومدى تكرار المخالفة أو الخطأ إن كان لذلك مقتضى. من القواعد الملازمة قديماً للمسؤولية الطبية ارتباط المداوي بالمريض بواجب أخلاقي، الأمر الذي تحول لاحقاً الى وصف العلاقة بواجب بذل العناية لا تحقيق الغاية، ليستقر الأمر على أن الرابط بين الطرفين هو قانوني بامتياز، حيث يلتزم الطبيب تجاه مريضه بالتعامل مع آلامه، ليس تحت سقف القيم الإنسانية والأخلاقية فحسب، بل في إطار قواعد علمية وفنية تقتضي المراعاة في ممارسة مهنة الطب، وذلك تحت طائلة المساءلة القانونية من خلال جهاز أو لجنة أو كيان يضم متخصصين في العلوم الطبية والقانونية. فعلى المشتغل في مهنة «الأرواب البيضاء» أن يراعي في سلوكه جميع القواعد والأصول الطبية المتعارف عليها نظرياً وعلمياً أثناء تنفيذ عمله، مع حرصه على عدم الإخلال بالحيطة والحذر اللتين تفرضهما واجبات المهنة درءاً للإهمال واحترازاً من قلة الخبرة والكفاءة. وعليه، يشكل «جهاز المسؤولية الطبية» المنشأ بموجب القانون رقم (70) لسنة 2020 خطوة متقدمة في مجال انضباط مهنة الطب والمهن المعاونة، حيث يؤمل أنه سيشكل- بما لديه من صلاحيات وما سيستقطبه من خبرات- حلماً محققاً للمئات من ضحايا الأخطاء الطبية، وبلسماً مداوياً للمتألمين من تعنت المخطئين كأمثال «منير» وأمه الثكلى وأبيه المناضل الى آخر رمق من أجل إظهار ما يراه حقاً لفتاه الفقيد.* كاتب ومستشار قانوني.
مقالات
الأبيض قد لا يليق ببعضهم
17-04-2022