بدأت المسيرة الفعلية للفنان سبيعي في الفن، خصوصا في التمثيل تتكشف في أواخر الأربعينيات، حيث بدأ الشاب الطموح تقديم مقاطع كوميدية مرتجلة على مسارح دمشق، ثم انتقل إلى الغناء والتمثيل في فرق فنية عدة كفرقة "على العريس"، و"سعد الدين بقدونس" حيث اشترك مع الأخيرة في الخمسينيات على مسرح "شاناتا" في اللاذقية، ومازال المقهي موجوداً مقابل أوتيل الكازينو، لكن المسرح غاب عن المكان، وفرقة "عبداللطيف فتحي"، و"البيروتي" وكما ذكرنا أيضاً فرقة "محمد علي عبدو" في الحلقة السابقة، وأسهم سبيعي في تأسيس عدد من الفرق المسرحية الناشئة بعد الاستقلال عام 1946.

Ad

لقب أبوصياح

يتحدث المخرج التلفزيوني والباحث الموسيقي "جميل ولاية" عن شخصية الفنان "رفيق سبيعي" في تلك الفترة بالقول: "تعرفت على الفنان رفيق سبيعي في حلب، عندما كان يعمل مع فرقة "سعد الدين بقدونس" كنت أذهب مع الأستاذ أديب السيد، الذي كان يكتب أحيانا للفنان سعد الدين، كان رفيق يتردد على إذاعة حلب. بعدها كتب الأستاذ شاكر بريخان عملين هما: غنائي واستعراضي، وشاركنا فيه أنا ورفيق. إنه فنان يكاد يكون شاملاً وهو أكثر من رائع بالتمثيل وقادر على أداء أي دور تطلبه منه، بالإضافة إلى التمثيل برع بالغناء والعزف فكان أحيانا يعزف على العود، ويؤدي أغاني يعزفها. بالإضافة لكل ما ذكر هو فنان منتقي فن المونولوج الناقد فبعد سلامة الأغواني كان رفيق هو الأشهر بل يمكننا القول إنه اتخذ طريقا مختلفا له عن المرحوم الفنان سلامة الأغواني، ومن الشخصيات الشعبية التي أداها الفنان في تلك الفترة ولم تكتب لها الشهرة شخصيتا "أبورمزي" و"أبوجميل". لكن وفي أوائل الخمسينيات تابع سبيعي اللحاق بحلمه في التمثيل عندما عمل ملقناً في المسرح قبل أن يعمل في مجال التمثيل، وقتها كان الفنان عبداللطيف فتحي يعمل مخرجاً مسرحياً وبحاجة إلى ملقن ورفيق يعمل ملقناً في مسرح ولكن دون أجر. يقول سبيعي: رآني مطرب كان اسمه تيسير عارف كان يسير مع المرحوم عبداللطيف في منطقة "السنجقدار" وكان يحدثه أنه بحاجة إلى ملقن، فأخبرني تيسير، وطلب مني الحضور إلى المسرح وجرب أدائي بحفلة صباحية كانت للسيدات وأعجبه أدائي. بعدها انتقل إلى مسرح الأندلس الذي أقيم على مكان قهوة التوتة، وهو مكان بنك معروف اليوم في شارع التاسع والعشرين من آيار، حيث بدأ بالتلقين هناك. ومن باب المصادفة كان الممثل "أنور مرابط" يؤدي دور العتال "أبوصياح" في مسرحية "القادم من أميركا" سنة 1953. واضطر المرابط إلى أن يتغيب فطلب منه المخرج أن يحضر بديلاً عنه لهذا اليوم، فكان سبيعي البديل. خرج من الكمبوشة (ركن الملقن)، وأدى الدور المطلوب، بأجر بلغ ليرتين سوريتين فقط (وكان مشهدا واحدا مدة خمس دقائق). يذكر حينها أنه من فرحته لم ينم واستعار الشروال من أحد أصدقائه وجهز نفسه. انتهت المسرحية في اليوم التالي وأعجب المخرج بأدائه فطلب منه الاستمرار في العمل، لتولد بهذه المصادفة شخصية "أبوصياح" التي رافقت الفنان طوال حياته ومنحته شهرة كبيرة.

يصف سبيعي هذه الشخصية بالقوية حيث كان تكوينها سهلاً عليه، فهو يسكن في منطقة كل من فيها "أبوصياح" ورنة اللهجة كانت سهلة عليه، فالجميع كان يلبس مثله ولهجته كانت ساكنة في أعماقه، إضافة إلى أنه ابن بيئة شعبية، فقد استطاع أن يعيش الدور من دون أي تمثيل، فالدور كان طبيعيا وعفويا وعندما يعطي الفنان الشخصية بصدق، تنجح، مؤكدا أن صدقه في أداء تلك الشخصية كان سببا أساسيا في نجاحها، مضيفا أنه كان يؤدي شخصية "أبوصياح" بلا تعب أبداً، لأنه يؤدي شيئا يخرج من أعماقه، كل من كانوا حوله كانوا يشبهونها، في البزورية ومئذنة الشحم والشاغور، كلّهم أبوصياح. وهو دائما يحن إليها، فهي السبيل الذي ساعده أن يحتل مكانة مرموقة في عالم الفن، وأوصله للشهرة في العالم العربي.

وصرح في حوار تلفزيوني في الثمانينيات أن "أبوصياح" أبعده عن العمل في المسرح الجاد والمسرح العالمي عندما كان عضوا في المسرح القومي ويقدم أعمالا جادة للكتاب العالميين، مما دفع بعض النقاد للقول بأن اللقب قد تجنى على الفنان رفيق سبيعي، مضيفا إلا أنني أعتز به كثيرا.

ويرى النقاد والمتابعون أن تلك الشخصيات منذ ابتكارها كانت حقيقية تختلف عن الشخصيات الشامية في وقتنا الحالي التي وصفوها بالمفبركة تفتقد النكهة الشامية الحقيقية، ومن الملاحظ أن القسوة فيها هي المظهر الطاغي.

الجدير بالذكر أن سبيعي لم يتوقف عند أداء شخصية "أبوصياح"، بل أدى أدوارا عديدة في المسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة إلى جانبها.

وحول كاراكتر الشخصية المتميزة باللباس الشعبي التقليدي من شروال وطاقية والشوارب والعصا يقول سبيعي: لم تكن شوارب أبوصياح في البداية موجودة بحكم أني فنان أقوم بالعديد من الأدوار المختلفة عن أبوصياح وأضطر إلى أن يبقى مكان الشوارب محلوقا حتى أستطيع استخدام "الشنب" الملائم للدور، لكن في وقت لاحق تركت شاربا لأجل الشخصية فأعجبت به وجعلته طويلا وبقيت منسجما مع شكلي في الواقع وعلى الشاشة والمسرح. وترك الشكل الأخير انطباعا ثابتا لشخصية أبوصياح المشهورة.

حضر الفنان حكمت محسن صاحب الأعمال الإذاعية الشهيرة عرض مسرحية "القادم من أميركا"، فلمس نجاح الشخصية منذ البداية، وربّت على كتف سبيعي قائلاً له: ستصير نجماً، وصار يكتب لشخصية "أبوصياح".

العمل في الإذاعة

بدأ رفيق العمل في الإذاعة عام 1954، حيث عمل فيها مقدما ومغنيا ومخرجا إذاعيا. وكان أول من قدم في الإذاعة كتاب "حوادث دمشق اليومية" للبديري الحلاق والذي يتطرق في كتابه لأواخر الدولة العثمانية. بقي في إذاعة دمشق اثني عشر عاما في برنامجه الأسبوعي الفني "حكواتي الفن" الذي أعده وأخرجه، وكانت كل حلقة تتحدث عن نجم من نجوم الطرب العربي الأصيل في الزمن الجميل معرفا الأجيال الجديدة عليهم وعلى جوانب من حياتهم الشخصية. وورد في بعض المصادر أنه شكل ثنائيا مع ممثل لبناني من أصل يهودي يدعى "توفيق اسحاق" في إذاعة الشرق الأدنى التابعة لبريطانيا سنة 1955.

قصة أغنية «داعيكم أبو صياح»
يقول سبيعي: كنت وخلدون المالح في نفس المرحلة معا في التلفزيون، وأذكر عندما كان يقدم برنامجا في دمشق واسمه "7 ب 7" برنامج مدته أربع ساعات على الهواء يجتمع فيه نجوم من الفن السوري واللبناني والعربي، وكانت شخصية أبوصياح في طور البروز وقدمت أغنية للإذاعة تتعلق بأداب التعامل مع الناس، وكيف يجب على الناس التعامل مع مجتمعها واسمها "داعيكم أبوصياح معدل عالتمام" سُجلت الأغنية في الإذاعة، واصطدمت بمتاعب كثيرة من الجهات المختصة بسبب طبيعة مزاجهم الكلاسيكي بالنسبة للغناء. كان المرحوم يحيى السعودي رئيسا لدائرة الموسيقا، وكان نائبه عدنان قريش الذي كان منفتحا ومتطورا. لقد كان له فضل كبير علي فقد عايشته فترة طويلة، خصوصا بعد أن أنجزنا الأغنية، وبعد التسجيل كان لابد من أن يسمعها رئيس دائرة الموسيقا للتوقيع على المعاملة الخاصة بها كي تذاع، وسمعته يقول لعدنان "شو هالأكل الهوا هاد" وكانت هذه الأغنية سببا أسياسيا في ظهوري بالتلفزيون عن طريق برنامج "7 ب7" الذي قدمه خلدون المالح كمسابقات، وتوفي في تلك الفترة مخرج موهوب جداً يعمل في الإذاعة واسمه "سليم عطايا"، وسمي أحد الاستوديوهات باسمه واجتمع الفنانون وقتها ليقرروا مساعدة زوجة سليم وأولاده، فلم يكن وقتها وجود لنقابة خاصة بالفنانين، وقرر المخرج خلدون المالح أن كل ما يجنيه من برنامجه سيذهب إلى عائلة سليم، ومن جهتي كان لسليم فضل كبير علي، فقد كان في الدراما الوحيد تقريبا المؤمن بموهبتي كممثل غير شخصية أبوصياح، وبوفاته شعرت بخسارة سند قوي لي بسبب الدعم الكبير الذي قدمه لي في التلفزيون، وقررت المساهمة في تقديم ما يمكن تقديمه لعائلة عطايا، فيجيبني خلدون "أنت ممثل ومن الصعب عليك المشاركة فكل ضيوفي في البرنامج من المطربين"، فقلت له: وأنا أيضا أغني. فسألني ماذا ستغني، فأجبته أني سجلت أغنية في الإذاعة وسأغنيها في برنامجك. فتعجب وقال لي هل من المعقول أبوصياح وشوارب وزور وعصا وطالع عالمسرح تغني، وطلبت منه أن يجرب. وما يضاف من المحصلة أثناء دفع الأجور يذهب إلى المساعدة لأشعر بمساهمة حقيقية، فوافق على الفكرة وغنيت الأغنية في البرنامج، وكان واضحا تجاوب الجمهور معها ومع طريقة غنائها ومنذ تلك المشاركة بدأت بمشواري الغنائي، وأصبح بيننا صداقة وزمالة ومصلحة في آن معاً.

الانتقال إلى التلفزيون

أسس الفنان عبداللطيف فتحي فرقة المسرح الحر، كان لسبيعي نصيب في العمل مع تلك الفرقة ففي 1958، شارك في مسرحية "حرامي غصب عنه" عن نص للكاتب المصري أبوالسعود الإبياري، المسرحية التي نقلها فتحي إلى الشامية، وقدمت على أحد مسارح دمشق. نالت هذه المسرحية إعجاب أول مدير للتلفزيون السوري "صباح قباني" الذي أحضر رفيق إلى التلفزيون وعرفه على الثنائي دريد لحام، ونهاد قلعي.

تأسس المسرح القومي عام 1959 بعد عام من الوحدة بين سورية ومصر وإنشاء وزارة للثقافة، قدم فيه سبيعي مسرحية "أبطال بلدنا" عام 1960 ليعقوب الشاروني، والإخراج لهاني صنوبر.

بقي المسرح الغنائي يتردد بصورة دائمة داخل الفنان سبيعي، لأنه يجمع كل الفنون من ثقافة وأدب وشعر، ويتذكر إيفاده سنة 1960 في بعثة لدراسة الإخراج الإذاعي حيث بقي في مصر 6 أشهر حضر خلالها العديد من العروض ومن ضمنها أوبريت "يوم القيامة" الذي لحنه ذكريا أحمد. شاهد مع زملائه العرض، كان كل شيء بشكل حي أمامهم من فرقة موسيقية وفنانين. ومن شدة التأثر بالعرض المميز لم يستطع منع نفسه من البكاء، وبعد أن لاحظ زملاءه دموعه سألوه عن السبب، فكان رده أنه يتمنى لو أن ما يراه الأن هو من إنتاج بلده. واستمر منذ تلك الفترة بمحاولة المساهمة في تقديم كوادر تستطيع القيام بمسرح غنائي بكل معنى الكلمة، فالخامات والطاقات موجودة لم لا يتم الاستفادة منها وتقديم مسرح غنائي.

عاد إلى سورية عام 1961 ليظهر على التلفزيون السوري في تمثيلية "مطعم الأناقة" مع دريد لحام ونهاد قلعي. ولم تكن شخصيّتا غوّار الطوشة وحسني البورظان قد ولدتا بعد. ويتحدث سبيعي عن تلك المرحلة قائلا: البداية كان بسبب النظرة الثاقبة لمدير التلفزيون حينها الأستاذ صباح قباني، فقد تابعني على المسرح وكان مديراً للفنون في وزارة الثقافة. حضر لي مسرحية كنت أمثل فيها مع المرحوم عبداللطيف فتحي شخصية "أبوصياح" وظلت الشخصية في ذهنه إلى أن تأسس التلفزيون وجمعني مع نهاد، ودريد، فقد التقيته في مصر وطلب مني عند العودة إلى "دمشق"، وأن أقابله، وبهذا كانت البداية، حيث اجتمعت معهما في مقالب غوار وحمام الهنا.

كتبت أول مسلسل كوميدي لي في رمضان اسمه "قصة مثل" بشخصية أبوصياح ويقول سبيعي عنه: لا أعتقد أن هناك نسخة موجودة من مسلسل "قصة مثل" في أرشيف التلفزيون لكن بعدها بدأت تبرز شخصية أبوصياح من عام 1963 وامتدت للتمثيل والغناء الذي أعطى الشخصية دفعاً كبيراً وجماهيرية عند الجمهور عامة وفي إحدى المرات وقفت عند محطة لتعبئة الوقود لاحظت شخصا مسرعا نحوي يحمل "شريط كاسيت" عليه صورتي وقال لي: انظر لقد دفعت 150 ليرة ثمنا له حتى استطعت أن أحصل عليه"، وبالتالي الشخصية الشعبية استطاعت أن تقتحم مجال الفن، وأذكر أن الطبقة المثقفة التي كانت تشاهدني أقدم على المسرح القومي لكبار الكتاب العالميين كالأخوة كارامازوف، والبرجوازي النبيل وغيرها، إضافة إلى شخصية أبوصياح. وفي مرة من المرات حقق فريقنا الرياضي إنجازات مهمة، فكتب الفنان المرحوم شاكر بريخان بهذه المناسبة أغنية تضمنت أسماء الفريق الفائز جميعهم وطلب مني غنائها ضمن حفل في "الحمراء" تكريماً لأبطال الفريق فوقفت وغنيت الأغنية بشخصية "أبوصياح" ومازالت الأغنية تذاع حتى الآن "غوول غوول فيها غول... لسورية فيها غوول"، ومن المدعوين لهذه الحفلة كان المرحوم يوسف شقرا، وكان الأمين العام لوزارة الثقافة انتبه لوجودي على مسرح الحمراء مع علمه أن لدي عرضا على مسرح القباني "الأخوة كارامازوف" وبدأ يشير إلي بيديه "ما الذي تفعله هنا؟"، فرددت بإشارة أنني ذاهب بعد قليل. كنت مستمرا في ذاك الوقت بأداء الشخصيات مع شخصية أبوصياح بوتيرة واحدة. شخصية أبوصياح لا يمكن أن أتركها، فالفنان بحاجة إلى شخصية يدخل فيها إلى ضمير المجتمع، والحمد لله أنا أقدر تلك الشخصية التي منحتني شهرة كبيرة في العالم العربي.

الأغنية الناقدة

يقدم الفنان رفيقي سبيعي نوعا من الغناء أطلق عليه "الأغنية الناقدة"، وفي هذا النوع من الأغاني لا يعتبر نفسه مصلحا اجتماعيا بل مقدما لما يطرحه الناس من مشكلات اجتماعية من خلال أغنية، في محاولة أشبه بقرع الجرس تنبيها للناس كي يحذروا ويحبوا بعضهم. وكانت أول أغنية ناقدة قدمها سبيعي "داعيكم أبو صياح" ولم يكن القصد منها أن تكون ناقدة إلا أن الراحل عدنان قريش، الذي كان نائبا لرئيس دائرة الموسيقا وقتها حاول أن يقدم نوعا جديدا من الأغاني الضاحكة وطلب من سبيعي الذي يكتب الأغاني أن يقدم هذا النوع كي يبث عبر الإذاعة فكتب الأغنية التي لم تكن ضاحكة بل ناقدة، وتمسك بها قريش ليتم بثها رغم اعتراض رئيس دائرة الموسيقى.

باللهجة البدوية كتب أغنية "ابن العم" لشريفة فاضل
يحسب للفنان الشامل سبيعي كتابة الأغاني كهواية يمارسها، فقد كتب العديد من الأغاني لعدد من المطربين ولم يكن صعباً عليه الكتابة باللهجة البدوية، فالمسرح ساعده كثيراً في هذا المهمة. وعندما كان في مصر يتبع دورة في الإخراج الإذاعي مدة 3 أشهر تواصل خلالها مع الإذاعة المصرية، وتعرف فيها على رئيس دائرة الموسيقى فعرض سبيعي عليه أغنية "ابن العم" التي غنتها الفنانة "شريفة فاضل"، وقد أعجبته، ويصفه سبيعي بالشخصية الذكية جداً، فطلب منه أن يكتب مقاطع إضافية للأغنية داخل الإذاعة وليس خارجها، ليتأكد أن الكلمات من تأليفه وفعل ذلك، كما أنه كتبت العديد من الأغاني، وغناها بنفسه.

شادي عباس