زعيم الحارة الدمشقية الأصيل، «الزكرت والقبضاي»... طار مغرداً في سماء حلمه طفلاً صغيراً، وسط صراع مع مجتمع أراد قص جناحيه، فصنع لنفسه جناحين من ذهب وصل بهما إلى المجد... إنه رفيق سبيعي (أبوصياح)، رجل المواقف الثابت، مؤسس الأغنية الشعبية الناقدة، ملك المونولوج. رنين حنجرته بلهجة الحارة الشامية وصوت عصاه وأقدامه على المسرح الخشبي حفرا في ذاكرة الفن اسماً لشخصية متفردة، غِناها في مبادئها، وعظمتها في أدوارها، عاصر النخبة تلميذاً نجيباً ليصبح معلماً محترفاً، يتنقل بقلبه وعقله معاً بين المسرح والتلفاز والسينما والغناء راسماً خطوط الشهرة عبر أجيال متتالية ومساهماً في صنع أعمدة البيت الدرامي السوري، تاركاً مئات الأعمال في خزينة التراث العربي، وفيما يلي تفاصيل الحلقة الثالثة:
دخل سبيعي أهم مراحله الفنية بالمسرح القومي، وشارك في تقديم عدد من المسرحيات المهمة في بداياته، لتأتي المرحلة المهمة الأخرى عندما عمل مخرجاً إذاعياً. أما النقلة النوعية في الفن بالنسبة له، فكانت يوم اعترفت بهم الدولة كفنانين، واصفاً هذا اليوم بالمهم، وأنه شكَّل نقلة في حياته. هذا الاعتراف قاد المجتمع أيضاً للاعتراف بهم. ويرى سبيعي في هذا الاعتراف، أنه ورفاقه من الفنانين حققوا الغاية المنشودة التي كانوا يسعون لأجلها.
كان سبيعي متيقناً عندما دخل المسرح القومي في الستينيات، بأنه لن يستطيع التوصل إلى المطلوب من عمله في المسرح والوصول إلى الاحتراف إذا لم يدعم موهبته بالثقافة، فالفنان غير المثقف، من وجهة نظره، يبقى ضمن حدود معينة في عمله مهما امتلك من موهبة. فاتجه الشاب المجتهد إلى قراءة الكتب المتعلقة بالمسرح والعمل عليه، متعرفاً على عدة مدارس عالمية، ومختاراً أهم الأدباء العالميين من دستويفسكي وإبسن وبريخت وغيرهم، ليشارك في أهم المسرحيات من الأدب العالمي، كمسرحية "الأشباح" لإبسن، ومسرحية "لو رآنا الناس معاً" لكوربال، التي تعالج قضية التمييز العنصري، كما شارك في "الأخوة كارامازوف" لدستويفسكي، و"الاستثناء والقاعدة" لبريخت، و"مروحة الليدي وندرسون".وكان العمل المسرحي قبل الأخير الذي شارك به عام 1996 هو مسرحية "مات ثلاث مرات" المأخوذ عن رواية "كان كان العوام" للكاتب الأميركي جورج أمادو، بطولة: عابد فهد، يارا صبري، شكران مرتجى، سوسن أبوعفار، نضال سيجري، أندريه سكاف، ومن إخراج المخرج السوري الراحل حاتم علي، وسيناريو دلع الرحبي، وصفها رفيق بالتجربة الممتعة مع مجموعة من الممثلين الشباب، الذين كانوا أكاديميين، وقد تعرفوا على مدارس مسرحية جديدة لم يسبق له معرفتها، مبينا أنه استفاد من معارفهم، كما استفادوا هم من خبرته، كما يعتقد.
آخر مسرحياته
أما آخر مشاركاته المسرحية، فكانت في العرض المسرحي "شوهالحكي"، وكان هذا العرض استمراراً للتجربة التي قدَّمها الثلاثي؛ سيف الدين سبيعي، جلال شموط، ونضال سيجري، في مسرحية "شوية وقت". وشاركهم العمل، إضافة إلى رفيق سبيعي، الممثلان محمد خير الجراح وفادي الحموي. واستمر العرض خمسة أيام على مسرح معرض دمشق الدولي ضمن فعاليات المهرجان الفنية. النص في "شوهالحكي" عبارة عن نصوص تم تأليفها من فكر الكاتب والأديب والصحافي السوري زكريا تامر. نذكر هنا أن الفنان رفيق سبيعي شارك في عدد من الأغاني التي تندرج ضمن سياق العرض، وتُعد هذه المشاركة الأخيرة في أعماله المسرحية، بعد عرض "مات ثلاث مرات".«نهوند»
ظهر سبيعي عام 1962 في برنامج "نهوند" التمثيلي بشخصية شعبية "سعدو حنّي كفك"، وقدَّم أغنية بعنوان "حبك بقلبي دوم ساكن مطرحو"، كما شارك عبر أثير إذاعة دمشق في برنامج للأغاني الضاحكة بشخصية "أبوصياح"، ثم توالت الأغنيات التي نالت حظها من الشهرة، مثل: "تمام تمام هدا الكلام"، و"شروال أبوصياح"، و"لا تدور ع المال"، و"حبوباتي التلموذات"، و"شيش بيش"، و"قعود تحبك"، و"الحب تلت لوان"، و"الخنافس" وغيرها.ومن الأغنيات التي أداها بشكل خاص للسينما، أغنية "ليش هيك صار معنا" في فيلم "شروال وميني جوب"، وأغنية "الاوتو ستوب" في فيلم "نساء للشتاء".المونولوج والأغنية الناقدة من وجهة نظر «أبوصياح»
يمتلك أبوصياح، وفق الإحصائيات، تقريبا مئة أغنية ناقدة، ويوضح دائما في حوارته التلفزيونية والإذاعية الفرق بين ما غناه من مونولوج وأغنية ناقدة، كما أسماها، والتي تعني الغناء الخفيف. بالمقابل، ليس شرطا أن يكون المونولوج معتمدا على النقد. ووجد تسمية الأغنية الناقدة مناسبة لهذا النوع. أما المونولوج، فمختلف، فليلى مراد تغنيه وأم كلثوم أيضا، وفق وصف سبيعي، الذي يضيف أنه في العالم العربي توجد دائما شخصية بارزة كان عملها نقد الأوضاع، وهم يعملون لمصلحة طوائف سياسية معينة أو أحزاب سياسية، كناقد شعبي مثلا ينتمي إلى حزب ما ويتحدث باسمه، وهذا من وجهة نظره أفقد الشخصية تلك قيمتها، فالمفروض على الناقد أن يكون محايدا. وأشار إلى أنه التزم بفنه، وأنه لا يفهم كثيرا في الأمور السياسية، لكنه على معرفة بالخطوط العريضة التي من الواجب التوجه من خلالها إلى الجمهور، وعلى الفنان خدمة شعبه لا التخريب. وأكد أنه حاول دائما مساعدة الجهات المختصة بشأن أغنية ناقدة، فمثلا في موضوع "السير" تحدث في أغنية من أغانيه عن الأخطاء التي يرتكبها المشاة وسائقو السيارات، ما دفع إدارة المرور وقتها للتعبير عن سعادتها بالأغنية التي أعطاها له شاكر بريخان، ويقول مطلعها: "لا تمشي من هون لا تقطع من هون وأنت يا شوفير اتهدى ولا تسوق بجنون. ما في إلا بنحكي، بنحكي، والسمعان... مو هون".
«حكواتي الفن»
رغم أن الإذاعة هي مصدر أساسي من مصادر انتشار الأغنية ومحبة سبيعي للإذاعة كبيرة جداً، فهو لا يتوانى في لقاءاته عن البوح بهذا الحب، لكنه أحياناً كان يصف معاملة القائمين عليها في سورية بالقاسي، خصوصاً عندما يتم الاتفاق على برنامج ما، ثم يطوى البرنامج في أدراج النسيان. أما الحب، فيرجعه سبيعي لمعلمه حكمت محسن، الذي جعله مغرماً بالإذاعة، لما تركه فيه من تأثير من جميع النواحي الفنية والإنسانية، فقد تعلم منه الكثير من خلال محبته للحياة، كما يصفه سبيعي.إضافة إلى رفيق دربه الفنان الراحل نهاد قلعي، فالاثنان عندما يكتبان تخرج النصوص كوميدية سلسة ناعمة تدخل إلى القلب، لأنها خرجت من القلب. ومما يتوجب ذكره، أن سبيعي أنجز للإذاعة برنامجا مهما بعنوان "حكواتي الفن"، وأراد أن يكمل العمل به مع تطويره، لكنه لم يجد المناخ الملائم الذي يريده ليحقق الصورة المرسومة بذهنه في حال انتقاله من الإذاعة إلى التلفزيون في بداية الأمر.وكان أول من طرح فكرة تحويله إلى التلفزيون ماجد حليمة مدير الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون حينها، ليبقى حبيس الأدراج، ويغيب فترة زمنية طويلة، ثم يخرج إلى النور بعد تلك الفترة، ويتم تصويره. وشاركه في العمل على إنجازه سعيد عبدالله. وفيه يعطي سبيعي فكرة عن فنان ما، مقدماً الشواهد على أعماله منذ فترة أبوخليل القباني، الذي قاد الحركة الفنية والمسرح الاستعراضي، مروراً بكل الفنانين الكبار. واختير أسامة شقير مخرجا للعمل. يُذكر أن عمليات مونتاج البرنامج الإذاعي "حكواتي الفن"، بنسخته التلفزيونية، انتهت عام 2014، وأبصر النور عام 2015، حيث أشرف رفيق بنفسه على تلك العمليات. وكان سبيعي أطل على مستمعيه عبر إذاعة دمشق مدة 12 سنة في برنامجه الأسبوعي "حكواتي الفن".دريد ونهاد وأبوصياح
كان رفيق السبيعي شاهداً على حقبة تأسيس التلفزيون السوري مطلع الستينيات، بالأبيض والأسود، بصحبة دريد لحام ونهاد قلعي، حيث كانت السهرة التلفزيونية "مطعم الأناقة" بوابة الدخول لأعمال تلفزيونية كثيرة، إذ امتلك سبيعي الفنان الموهوب قدرات استثنائية جعلت من شخصية "أبوصياح" وغيرها متميزة بخصوصيتها البيئية من جهة الرجولة والشهامة والأصالة ومعنى حقيقاً للزعيم والزكرت والقبضاي.شارك مع الثنائي دريد ونهاد من خلال مشاهد تمثيلية كانت تقدم في برنامج منوعات "سهرة دمشق"، ثم قدموا معاً مسرحية "عقد اللولو"، ليأتي بعدها مسلسل "مقالب غوار"، مكملاً للتعاون مع الثنائي دريد ونهاد سنة 1964 بنسخته السورية، الذي ظهر فيه "أبوصياح" بصفته صاحب مقهى الانشراح، معلم "غوار الطوشة" وصديق "حسني البورظان"، ليعود مجددا المسلسل بنسخة ثانية إنتاج لبناني سنة 1967. واستمر العمل مع الثنائي في مسلسل "حمام الهنا" سنة 1967 وكانت شخصية "أبوصياح" أيضاً صاحب الحمام، الذي يعمل فيه غوار، وتدور فيه القصص والحكايات، وهو مسلسل تلفزيوني سوري بسيط أنتج في عام 1968 عن رواية بعنوان "الكراسي الاثنا عشر" للكاتبين الروسيين ايلف وبتروف.الخلاف مع دريد
تألق الرفاق دريد ونهاد ورفيق، محققين شهرة كبيرة على المستويين المحلي والعربي، لكن هذا التعاون، وبعد فترة ليست طويلة، توقف، إذ تعرضت العلاقة بين الثلاثي لتوتر مفاجئ وجمود غريب، لدرجة أن السلام بين أبوصياح وغوار انقطع تماماً لمدة طويلة، حتى عام 1982، حيث جاءت مبادرة طيبة من المخرج خلدون المالح، وتمكن من جمع الثلاثة في مسلسل "وادي المسك"، فكان أبوصياح صهر غوار في العمل، مؤدياً دور المحترم رئيس المخفر.تدور أحداث المسلسل حول شاب مغترب يعمل ليؤمن مستقبله ومستقبل الفتاة التي يريد الزواج بها، وهي ابنة عمه، لكن حياته تتغير عندما يقابل شخصا يشبهه تماما بالشكل، فيلتقط هذا الشخص تفاصيل حياته كاملة، ويعود إلى قريته، منتحلاً شخصيته، وهنا تبدأ الأحداث التصاعد. كتب العمل محمد الماغوط ودريد لحام، وشارك فيه: منى واصف، ناجي جبر، ياسين بقوش، أميمة الطاهر، عمر حجو، محمد العقاد وغيرهم.وسرعان ما عادت العلاقة للتوتر بعد انتهاء تصوير العمل، واستمرت سنوات طويلة تخللتها محاولات صلح من أكثر من طرف، لكنها لم تنجح.بقي سبب هذا الخلاف مجهولا، ولم يخرج للعلن حتى فرد سبيعي فصلاً كاملاً في مذكراته، التي حملت عنوان "ثمن الحب"، لخلافاته مع دريد لحام ونهاد قلعي، مبينا أن أغلب هذه الخلافات كان سببها مادياً، ووصلت في عام 2015 إلى عدم تعزية لحام للسبيعي بوفاة نجله عامر، حيث كتب سبيعي في مذكراته، أن الثنائي لحام- قلعي باعا عام 1968 مسلسل "حمام الهنا" إلى أكثر من دولة عربية، وقبضا ثمن التوزيع هذا، من دون أن يحصل على حقه من هذه الصفقة، رغم أنه شريك أساسي في العمل.كما تحدث في نفس الإطار عن مشاركة الثلاثي في أعمال على القناة اللبنانية، وقبض لحام وقتها المستحقات بالليرة اللبنانية، لكنه دفع لسبيعي بالليرة السورية، لتؤدي هذه التصرفات إلى اعتذار سبيعي عن مشاركته في مسلسل "صح النوم".من جهته، صرح لحام في إحدى المقابلات عام 2013 بأنه لن يسامح سبيعي، لما اعتبره خطأ أخلاقيا بحقه، متهما رفيق بالنصب عليه، وأضاف أنه مستعد لأن يسامحه في حال اعترف بخطئه، وسيتعاون معه حينها. لحام اعتبر أن تعاون رفيق معه في مسلسل "وادي المسك"، الذي عُرض عام 1982، تم بعد تاريخ "النصب المزعوم"، وفقا لما قاله، متسائلاً عن السبب الذي حال دون الحديث عن هذا الأمر طوال هذه السنوات، ولماذا انتظر "أبوصياح" كل هذه المدة قبل أن يثيره.كلام لحام هذا استدعى رداً ثانياً من سبيعي، مؤكدا فيه أن دريد لحام نصب عليه بمبلغ مالي، قائلا: "عندما أقول كلمة لا أتراجع عنها. بدأت القصة عندما شاركت الثنائي دريد لحام ونهاد قلعي العمل في مسلسل "حمام الهنا"، لكنني لم أعلم أن دريد نصب عليَّ إلا بعد سنوات، حيث كنت في بيروت أعمل مع زياد مولوي، والتقيت هناك الموزع الذي يتعامل مع السعودية ومحطاتها، وسألني وقتها عن قلة أعمالي في الفترة الأخيرة مع دريد، فأجبته بأن الأجر هو السبب الرئيسي، ليخبرني الموزع بأن دريد باع "حمام الهنا" للتلفزيون السعودي، وقبض مبلغاً مالياً كان من المفروض أن يقسم على أبطال العمل الثلاثة؛ دريد ونهاد وأنا، لكن دريد أخفى عني الموضوع، واحتفظ بالمال لنفسه".لم يمنع الخلاف لحظات من الود يحن فيها سبيعي للأيام الجميلة التي تعاون فيها مع دريد لحام، ليصفه في حوار تلفزيوني في الثمانينيات مع الراحل حكمت وهبي بالفنان العقلاني الذي يحسب الأمور بشكل جيد، مؤكدا أنه قلما يتواجد ذلك عند الفنانين، كما أن لديه طاقة كبيرة.وحول ما أعلنه الفنان دريد لحام عن إطلاقه لمسلسل جديد يعود فيه بشخصية "غوار الطوشة"، لكن بشكله المعاصر، قال سبيعي: "أتمنى من الأستاذ دريد أن يرجع إلى شخصية (غوار)، التي أحبها الناس وأسعدهم من خلالها، فقد استهجنت الأمر عندما تركها، وتساءلت لماذا تركها واستغنى عنها، فالفنان يعيش عمره ليجد الشخصية التي ينجح فيها ويتقرب بها إلى الناس، فقد كانت السبب في نجاح الكوميديا والدراما السورية بشكل عام، والتي نشرها عربياً الفنان الراحل نهاد قلعي ودريد لحام".وأضاف: "ليس لدي أي مانع من المشاركة في هذا العمل، خصوصا أنني أشاهد دائما مدى حب الناس للشخصيات الشعبية الشامية التي قدمناها، حتى عندما تعرض بعد أربعين عاما من إطلاقها وبالأبيض والأسود، ولا مانع لدي من إعادة نفس الشخصية (أبوصياح)، خصوصا أننا نشرنا الشخصية في الأعمال الشامية، ولاقت إعجاب الجمهور".