نظّم المجلس الوطني ندوة بعنوان "سوق المباركية والتراث المستدام" في مكتبة الكويت الوطنية، بحضور الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون بالإنابة، د. عيسى الأنصاري، وعدد من المتضررين من حريق "المباركية".وتهدف الندوة إلى مواكبة الحريق الأليم الذي أصاب سوق المباركية التراثي، والطرق المثلى لإعادة ترميم الأجزاء المدمرة بفعل الحريق، إلى جانب الاهتمام المستدام بمرافق المكان ومكوناته بشكل علمي متخصص مستقبلا.
شارك في الندوة رئيس الجمعية الكويتية للتراث، فهد العبدالجليل، والمعماري وأستاذ السلوكيات الإنسانية والثقافة في العمارة، د. محمد الجسار، ورئيس جمعية المهندسين الكويتية، م. فيصل العتل، ورئيس قسم التوثيق والدراسات والمسح للمباني التاريخية في المجلس الوطني، م. جاسم الشمالي.في البداية، قال د. الأنصاري: "نحن في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب جهة رسمية تهتم بالاستدامة، وخاصة ما يتعلّق بالتراث الثقافي"، لافتا إلى أن المجلس تفاعل مع حدث احتراق سوق المباركية، ونظمّنا ندوة "سوق المباركية والتراث المستدام" إيمانا منّا بأن هذا الإرث التاريخي يجب أن نحافظ عليه بعيدا عن الحداثة، وكل تحديث وكل ما يتعلق بسوق المباركية يجب أن يرتقي إلى التاريخ وعبق التاريخ الكويتي، لذلك دعونا المختصين من جامعة الكويت ومنظمات المجتمع المدني حتى يعطونا رأيهم في المحافظة على تراث الكويت، ومن هنا كان لا بدّ أن يكون للمجلس الوطني دور في المحافظة على سوق المباركية كجهة استشارية أناطت بها الدولة مجتمعة مع وزارتَي المالية والبلدية، المسؤولية، لكي نقدم المخططات التي تعود بهذا التاريخ من جديد بعبق ولون تراثي تاريخي بعيد عن الحداثة، وبعيد عن تشويه هذا النمط التاريخي المميز في قلب الكويت.
مركز تجاري
من جانبه، أعطى العبدالجليل لمحة ثرية عن الجانبين التاريخي والتراثي لأسواق الكويت بشكل عام امتازت بتسلسلها الدقيق، وقال إن الكويت في القرن 18 كانت مركزا تجاريا مهما في المنطقة، فكانت تأتيها السلع والبضائع عن طريق القوافل التجارية في البر والبحر، لافتا إلى أنها كانت تصل إلى ميناء الكويت القديم (الفرضة)، ومن ثم أصبحت الحاجة ملحّة وضرورية لتأسيس الأسواق، فأسس أول سوق، وهو "سوق التجار"، الذي كان يشتمل على دكاكين لبيع المواد الغذائية بالتجزئة، وبعدها تم تأسيس "السوق القديم"، الذي أزيل الآن وأصبح شارع علي السالم، وكان يشتمل على سوقَي "الطراريح" و "التمر"، ومن ثم تم تأسيس "السوق الداخلي"، لافتا إلى أن جميع هذه الأسواق أسست في عهد حاكم الكويت الثاني الشيخ عبدالله الصباح، وبداية عهد الحاكم الثالث الشيخ جابر بن عبدالله. وذكر العبدالجليل أن "السوق الداخلي" كان يبيع المواد الغذائية، وكان يسمى في الوثائق "السوق الطويل".وعن سوق المباركية، قال: "سوق المباركية تم تأسيسه منذ عهد حاكم الكويت السادس الشيخ محمد الصباح وشقيقه الشيخ جراح، وكان أوائل هذه الأسواق هو "التمر"، والخضرة"، و"الجتّ" شمال كشك مبارك الحالي، وكذلك تم توسعة هذه الأسواق وإنشاء تصنيفات حسب كل نوع في عهد الشيخ مبارك الصباح وابنيه الشيخين جابر وسالم، مشيرا إلى أن تلك الأسواق أعمارها التاريخية أكثر من 100 عام، وتكمن أهميتها في أنها بجانب معالم ومبانٍ تاريخية؛ مثل المساجد و"القصيريات"، و"البرايح"، وكشك الشيخ مبارك القبلي، وغيرها من المعالم المهمة.وطالب العبدالجليل، بكونه رئيس الجمعية الكويتية للتراث، بالمحافظة على ما تبقّى من تراث وتاريخ ومبانٍ تاريخية، لأنها أصبحت معدودة، فيجب حصرها ومتابعتها وترميمها حسب الاشتراطات العالمية، وتوفير أنظمة الأمن والسلامة لها، مؤكدا أن التراث يعزز مفهوم المواطنة، ويشكّل هوية المجتمعات.خريطة تراثية معمارية
وفي بداية كلمته، قال م. العتل إن التراث المعماري هو تجسيد لقيم ثقافية وحضارية تعكس بنية اجتماعية واقتصادية، ويوضح مساهمة الأجيال المتعاقبة في الحضارات الإنسانية للمجتمع، كما أن التراث المعماري المستدام تعبير عن تاريخ وثقافة المجتمع، ويربط المعماريين المعاصرين بسلفهم. وذكر أن المسارعة بإزالة ما تبقى من شواهد معمارية جريمة بحقّ تراث الكويت، لأنه يمكن الاستفادة منها والحفاظ عليها، مشيرا إلى أنه رغم تضرر سوق المباركية من جراء الحريق، فإنه لا بدّ من وضع خريطة تراثية معمارية لإعادة بناء ما تبقى من المباني الصالحة، وإعادة تأهيلها وفق المعايير المعمارية للحفاظ على التراث، بالاعتماد على المخطط الهيكلي للمواقع التي تمّت إزالتها، تمهيدا لإعادة بناء السوق المدمّرة كما كانت عليه قبل الحريق، مع الحفاظ على الطابع المعماري التراثي لأسواق السلاح والطحين والصفافير، التي تضررت بشكل خاص في الحريق الأخير.وقال العتل "لدينا الخبرات والمؤهلات المعمارية الكويتي القادرة على القيام بذلك، ونعتقد أننا نحتاج إلى قرار الاستعانة بهم، بالتعاون مع المجلس الوطني للثقافة والفنون، ووضع الميزانيات التي يطلبونها لإعادة المباركية وغيرها من المواقع المعمارية". وأعطى العتّل مجموعة من التوصيات لتحقيق الاستدامة التي ننشدها لإرثنا وطابعنا المعماري، ومنها تطوير التشريعات بالمواقع المعمارية التراثية وجعلها بإشراف وإدارة وملكية جهة واحدة، ووقف التشابك القائم حاليا (المجلس الوطني - بلدية الكويت - الملكيات الخاصة)، ويقوم الفريق فورا بوضع خريطة تفصيلية لكل المواقع المعمارية لتحقيق الاستدامة التراثية ووضع جدول زمني لترميم، وضع اشتراطات لأي عمليات هدم للمباني القديمة؛ سواء كانت خاصة أو عامة.بدوره، أكد الجسار أن "المباركية" ليست فقط سوقا تجاريا قديما، وإنما هو هوية معمارية ووطنية، لافتا إلى أنه من أهم النقاط في عملية الحفاظ على الهوية الوطنية هي المحافظة على المباني وإعادة بنائها كما كانت؛ خاصة سوق السلاح، لأنه يعدّ من المباني التراثية والمسجلة في المجلس الوطني للثقافة، وله رقم في التسجيل، وأضاف "إذا أردنا أن نتكلم عن الاستدامة في التراث يجب أن يكون لأصحاب المحال دور في أنهم يستمرون في المكان نفسه، وكما ذكر بعض أصحاب المحال مضى على تملّكهم المحل 100، و120 عاما". وذكر الجسار أن جعل المالكين القدامى يتركون المكان وإعطاءه لمؤجرين جدد لا يعرفون قيمة سوق المباركية إلّا من الناحية التجارية، يعدّ إجحافا، مؤكدا أن سوق المباركية يجب ألا يُنظر له من ناحية تجارية، بل من ناحية تراثية وثقافية. وسلّط د. الجسار الضوء على أهمية الترميم، قائلا: "لا بدّ أن نهتم جيدا بالترميم أو إعادة البناء، فنحن نستطيع أن نعيد البناء كما كان بنفس المواد، لكن تجب الاستعانة بخبرات الدول المجاورة، مثل عمان، والسعودية، واليمن، فهذه الدول لديها فرق عندها القدرة على إعادة بناء المباني التراثية باستخدام المواد التراثية التقليدية لا الجديدة".وتطرق إلى نقطة مهمة، هي إعادة ما احترق من "المباركية" كما كان، لا بمجمعات تجارية جديدة، مشيرا إلى أنها ستكون كارثة إذا تم إنشاء تلك المجمعات، لأنها ستمحو هوية المباركية.سجل الذاكرة
أما م. الشمالي فقد أكد أن المجلس الوطني للثقافة يحرص على المحافظة على المباني التاريخية القديمة لما تحتويه تلك المباني من سجل لذاكرة التاريخ وقيم ثقافية.وذكر الشمالي نصّين من مواد الآثار، يبينان اهتمام دولة الكويت بالمعالم القديمة، وقال إن المادة 1 تقول "تحافظ دولة الكويت داخل حدودها، ووفقا لأحكام هذا القانون على الآثار القائمة فيها، وذلك صيانة لتراثها الثقافي الذي تركته عصور ماضيها المتعاقبة، كما تحترم آثار الشعوب العربية الأمم الأخرى خارج حدودها، وفقا لأحكام الاتفاقيات والمعاهدات التي تعقدها".أما المادة 2 فتبين أن مهمة المحافظة على الآثار تناط إلى المجلس الوطني للثقافة، وتعود إليه مسؤولية تقدير الصفة الأثرية والتاريخية للأشياء والمواقع والمباني. وأشار الشمالي إلى أن المنطقة التي نشب فيها حريق بسوق المباركية لا يملك فيها المجلس الوطني أيّ مبنى، وأن دوره هو المحافظة على الطابع التراثي والمعماري لهذه المباني، ولذلك حرص على حضور الاجتماع الثلاثي الذي عُقد مع وزارتَي المالية والبلدية بعد الحريق، ومن ضمن التوصيات التي رفعوها إلى مجلس الوزراء لانتظار بتّها، تشكيل فريق عمل تحت مظلة البلدية أو وزارة المالية، بمشاركة كل الجهات المعنية من (البلدية ووزارة المالية والمجلس الوطني للثقافة) لمتابعة الموضوع حتى الانتهاء منه، وتكليف المجلس بإعادة تأهيل وترميم المحال وتوفير ميزانية، والموافقة على الرؤية المقدّمة من وزارة المالية لتطوير المنطقة المتضررة من الحريق في "المباركية" بالكامل.