قدَّم عبدالرحيم الزرقاني أعماله المتميزة من خلال فرق مسرحية مختلفة، منها: «المسرح القومي، والحديث، والكوميدي، والحكيم، والجيب»، كما أخرج عدة مسرحيات لفرق الهواة بمسارح الجامعة والأقاليم في «الثقافة الجماهيرية»، وأيضا بعض المسرحيات المصوَّرة للعرض التلفزيوني، وأخرى للفرق الخاصة.وتميزت أعماله بالثراء والتنوع، وقدَّم العديد من المسرحيات ذات الطابع الكوميدي والتراجيدي، منها مسرحية «بداية ونهاية» عن رواية للكاتب العالمي نجيب محفوظ، و«في بيتنا رجل» للأديب إحسان عبدالقدوس، ورائعة الكاتب نعمان عاشور «عيلة الدوغري»، و«سليمان الحلبي» للكاتب ألفريد فرج، و«ليلى والمجنون» للشاعر صلاح عبدالصبور، وصولا إلى آخر أعماله المسرحية «طائر البحر» للكاتب الروسي أنطون تشيخوف، وهي المسرحية التي أخرجها للمسرح القومي قبل رحيله بعام واحد.
وتألق الزرقاني كممثل على خشبة المسرح، وقام ببطولة 25 مسرحية، أبرزها: «أهل الكهف»، و«تحت الرماد»، و«بابا عاوز يتجوز»، و«ليلى والمجنون»، و«الميت الحي». وكان أيضا واحدا من رواد العمل الإذاعي، حيث قدّم ما لا يقل عن ألف عمل إذاعي، أبرزها دور الملك شهريار في تمثيلية «ألف ليلة وليلة» مع الفنانة زوزو نبيل.ومن خلال الإذاعة قدَّم مسرحيات عديدة من الأدب العالمي، وشارك في عدد من الأعمال التلفزيونية، من أبرزها «هارب من الأيام»، و«محمد رسول الله». وظهر على شاشة السينما كممثل في 65 فيلما، منها دوره الأهم شخصية بائع الأخلاق في فيلم «أرض النفاق»، وعدد من الأفلام المتميزة مع شادية وكمال الشناوي.
سحر الفن
وُلد عبدالرحيم الزرقاني في محافظة قنا بصعيد مصر عام 1913، وحفظ القرآن الكريم في طفولته، وحضر إلى القاهرة مع الأسرة في سن العاشرة، وسكن في الحي الشعبي الشهير الدرب الأحمر، والتحق بالمدرسة الخيرية الإسلامية في منطقة درب الجماميز، وكان مولعا بالقراءة، وظهر نبوغه في إتقان اللغة العربية.جاءت بداية رحلته مع المسرح عام 1927، عندما ارتاد لأول مرة أحد المسارح في حي روض الفرج مع أصدقائه. وأصيب الزرقاني بمس من سحر الفن، وبات يتردد على مسارح نجيب الريحاني وعلي الكسَّار وعزيز عيد، وشاهد مسرحيات يوسف وهبي بفرقة رمسيس، وكلما توافر لديه ثمن التذاكر، كان يدخل المسرح، ومعه دفتره ويدوِّن نص المسرحية، ويعيد تمثيلها مع أصدقائه.وانضم إلى فريق المسرح بمدرسة الخديوية حين اختاره الفنان الكبير جورج أبيض لتجسيد شخصية الأب في مسرحية «المائدة الخضراء»، التي سبق أن جسَّدها أبيض بفرقته الاحترافية، ولاقتناعه بموهبة الطالب عبدالرحيم الزرقاني عرض عليه الانضمام إلى فرقته عام 1930، وأسند إليه خلال تلك الفترة دوري «براباتسو» والد ديدمونة بمسرحية «عطيل»، و«أوليفييه» بمسرحية «لويس الحادي عشر» للكاتب الإنكليزي وليام شكسبير.واختاره الفنان فتوح نشاطي بعد ذلك لتجسيد دور الأب «كوبر فيلد» في مسرحية «دافيد كوبر فيلد» للكاتب الإنكليزي تشارلز ديكنز. ويلاحظ أن جميع الأدوار التي كان يرشح لها وينجح في تجسيدها خلال فترة شبابه هي أدوار كبار السن، بسبب صوته الرخيم وطريقة أدائه الرصينة الهادئة، وهو أمر غير مألوف في تلك الفترة.وعندما حصل على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة حاليا) عام 1934 عُين في بنك التسليف الزراعي بمدينة بنها- شمالي القاهرة، وواظب على التواصل مع بعض فرق الهواة أثناء تلك الفترة، وظل يحاول الانتقال إلى القاهرة حتى عاد إليها عام 1942.وكانت البداية الحقيقية، عندما اقتنع بموهبته الفنان زكي طليمات، وضمه إلى فرقته كمساعد في الإخراج، وأسند إليه دور البطولة في مسرحية «العرش» أمام الفنانة إحسان شريف (زوجة طليمات)، واعتبر البعض أن طليمات غامر بمنح هذا الممثل الشاب دور البطولة، لكن العرض حقق نجاحا جماهيريا كبيرا.وكانت انطلاقته الثانية، حين شارك في تأسيس فرقة «العشرين» التمثيلية، وضمت بين أعضائها نخبة من الهواة الموهوبين، منهم فريد شوقي، وعلي الزرقاني، وصلاح سرحان، وشكري سرحان، وأحمد الجزيري، وسعيد أبوبكر، وكمال حسين.وقدّمت الفرقة عروضها باللغتين العربية والإنكليزية، بالتعاون مع المعهد البريطاني، وأخرج لها الفنان عبدالرحيم الزرقاني مسرحية «الأرملة» من تأليف شقيقه علي الزرقاني (السيناريست الشهير لاحقا)، واشتهرت الفرقة من خلال تقديمها بعض التمثيليات الإذاعية، ثم مشاركة بعض أعضائها في الأفلام السينمائية، حتى إن الفنان أنور وجدي شاركهم بإخراج إحدى مسرحياتها.إسهاماته في مجال الإخراج
ساهم الفنان الراحل عبدالرحيم الزرقاني في إخراج عدد كبير من المسرحيات بفرق مسارح الدولة، وأيضا بإحدى الفرق الخاصة، ومن بينها العروض التالية:- فرقة «المسرح المصري الحديث»: «بنت الجيران» و«شروع في جواز» (1952). - فرقة «المسرح القومي»: «الأشباح» (1955)، و«الوارثة» (1957)، و«سيأتي الوقت» (1958)، و«بداية ونهاية» (1959)، و«في بيتنا رجل» (1960)، و«القضية» (1961)، و«عيلة الدوغري» (1962)، و«الحلم» (1964)، و«سليمان الحلبي» (1965)، و«بلاد بره»، و«طائر البحر» (1983). - فرقة «المسرح الحديث»: «الزوبعة» (1967)، و«عيلة الأستاذ ربيع» (1972)، و«واحد ولا اتنين» (1973)، و«نرجس» (1975)، و«الثأر ورحلة العذاب» (1982). - فرقة «مسرح الحكيم»: «العرضحالجي» (1968).- فرقة «المسرح الكوميدي»: «على جناح التبريزي وتابعه قفة» (1969).- فرقة «عمر الخيَّام»: «اتفضل قهوة» (1969).- فرقة «مسرح الجيب»: «ليلى والمجنون» (1970)، و»المشخصاتية» (1971).
معهد التمثيل
عند إعادة افتتاح المعهد العالي للتمثيل نجح عبدالرحيم الزرقاني في الالتحاق بدفعته الأولى، ليتخرج فيه، بحصوله على درجة البكالوريوس قسم التمثيل والإخراج عام 1947، ضمن دفعة من الموهوبين الذين نجح أغلبهم في تحقيق نجوميتهم، منهم: حمدي غيث، ونبيل الألفي، وعبدالمنعم إبراهيم، وسعيد أبوبكر، ونعيمة وصفي، وشكري سرحان، ومحمد السبع، وفريد شوقي، وصلاح منصور، وعمر الحريري، والكتاب: أنور فتح الله، وأمينة الصاوي، ورشاد حجازي، وخليل الرحيمي، وبهاء الدين شرف.ومن المواقف الطريفة، أنه طوال فترة دراسة الفنان عبدالرحيم الزرقاني بالمعهد، كان يعمل مساعدا للفنان زكي طليمات، ويقوم بتدريب الطلاب والمساعدة في إخراج المشاهد والمسرحيات التي كان يقدمها الطلبة، وفي أثناء الإجازة الصيفية يقوم بناء على توجيهات أستاذه بتدريب مجموعة من زميلاته بالمعهد، ومن بينهن فاتن حمامة ونعيمة وصفي وسميحة أيوب وسناء جميل وزهرة العلا، نظرا لأن طليمات كان يرى أن الزرقاني يمتلك موهبة كبيرة، وخُلق ليكون ممثلا وفي ذات الوقت مدرسا للتمثيل.في المقابل، لم يحظَ الزرقاني ببعثة دراسية والسفر إلى الخارج للحصول على الدرجات العلمية العُليا كبعض زملائه، رغم أن ترتيبه بالتخرج في المعهد كان الثاني على الدفعة بعد الفنان حمدي غيث، لكن أستاذه وعميد المعهد آنذاك الفنان زكي طليمات رفض إيفاده عام 1950 إلى فرنسا في بعثة لدراسة فن الإخراج، لكبر سنه، ورشح مكانه الثالث على الدفعة الفنان نبيل الألفي، ولأنه مؤمن بقَدَرِه لم يغضب أو يتأثر نفسيا بسبب هذا الاستبعاد، بل على العكس، دفعه ذلك إلى مزيد من العمل والتحصيل العلمي، وظلت صداقته قوية مع زملائه وتلاميذه وموهبته محل تقدير من الجميع.وكان المخرج الراحل جلال الشرقاوي من تلاميذ الزرقاني. والطريف أنه درس بالمدرسة الخديوية الثانوية مثل أستاذه، والأخير عاد إليها كمخرج لفرقتها المسرحية، ثم تتلمذ الشرقاوي ثانية على يديه، عندما أصبح طالبا بمعهد الفنون المسرحية. وظلت العلاقة بينهما علاقة الأستاذ والتلميذ، حتى بعد أن صار الشرقاوي عميدا للمعهد. وتعلم منه أن يكون للمخرج أسلوب خاص، ويولي اهتماما شديدا بالممثل، وعشق الكلمة، والحرص على توصيلها عبر الأداة البشرية وهي الممثل.وفي شهادة للكاتب الراحل نعمان عاشور، قال إنه تعلَّق بالزرقاني فنيا وإنسانيا، فهو صانع أهم نجاحاته، مثلما صنع نجومية الكثير من الفنانين، ودلَّل على ذلك بأن مسرحية «عيلة الدوغري» عُرضت لمدة سبع سنوات بصورة متقطعة، وكانت كلما تراجعت إيرادات المسرح وزادت الضرورة لجذب الجماهير، يجري إعادة عرض نفس المسرحية.الزرقاني يطرد إلهام شاهين من قاعة المحاضرات!
استعادت الفنانة إلهام شاهين ذكرياتها مع أستاذها عبدالرحيم الزرقاني، حين كانت في السنة الثالثة بأكاديمية الفنون بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ووقتها عملت في الكثير من الأعمال التلفزيونية والسينمائية، وذهبت ذات مرة إلى الأكاديمية، وأخذت في مراجعة أحد المشاهد أثناء محاضرة للدكتور عبدالرحيم الزرقاني، وبدأ يوجهها للأداء الصحيح في المسرح، لكن بعد انتهائه من الأداء ضحكت رغما عنها، فطردها من قاعات المحاضرة، ورسبت في ذلك العام.جاء ذلك خلال اللقاء الفكري مع الفنانة إلهام شاهين، الذي انعقد بالمجلس الأعلى للثقافة ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري في سبتمبر 2021. وذكرت النجمة أنها استفادت الكثير من دراستها الأكاديمية، وتعلمت من الأستاذ عبدالرحيم الزرقاني معنى التزام الممثل على خشبة المسرح.
المسرح الحديث
بدأت رحلة الزرقاني الاحترافية مع الإخرج في عام 1952، وقدَّم من خلال فرقة «المسرح المصري الحديث» مسرحية «بنت الجيران» تأليف أمين يوسف غراب. وبعد استقالته من البنك في عام 1954 عُين مخرجا وممثلا بالفرقة «المصرية الحديثة»، ثم عُين عام 1956 مشرفا على فرقة «المسرح الشعبي»، واضطر إلى تقديم استقالته في العام التالي نتيجة بعض الخلافات الإدارية.وفي عام 1967 استأنف عمله كممثل ومخرج بالفرقة المصرية الحديثة، وانتدب آنذاك مشرفا على فرقة المسرح الحديث، وشارك في بطولة العديد من المسرحيات، وتعاون مع نخبة من المخرجين الذين يمثلون أكثر من جيل، ومن بينهم أستاذه زكي طليمات، وسعيد أبوبكر، ونبيل الألفي، وكمال يس، وكمال حسين، وأحمد عبدالحليم، وسمير العصفوري، وجمال منصور، ومجدي مجاهد. وتألق الزرقاني كممثل في مسرحية «الورطة» 1967 للكاتب توفيق الحكيم، وفي نفس العام «الزوبعة» للكاتب محمود دياب، وفي عام 1972 مسرحية «جواز على ورقة طلاق» للكاتب ألفريد فرج، وإخراج كرم مطاوع، وتدور أحداثها في فصلين حول المشكلات الزوجية، وتعد مغامرة في التجريب بأسلوب يعتمد على تحطيم الجدار الرابع بين الممثل والجمهور، ويتم القطع خلال عرض المسرحية من المخرج بتوجيهه الممثلين، ويحدث أحيانا أن يتفقوا معه، ويختلفوا معه في أحيان أخرى.وأدوار الزرقاني في معظمها كانت تعكس شخصيته الحقيقية في الحياة، وبرع في أداء شخصية كبير العائلة دمث الخلق والمحافظ على التقاليد والأصول، والأب الوقور الرزين طيب القلب، وكذلك الرجل الشريف نظيف اليد والمعطاء والمُحب للخير، بالتالي اتسمت غالبية الشخصيات التي جسَّدها بالحكمة والرزانة والشرف والقدرة على العطاء.وقد تميز كمخرج باتباعه منهج الواقعية، إذ كان يركز اهتمامه على إبراز الخطاب الدرامي للنص، وتجسيد أحداثه الدرامية بكل تفاصيلها الدقيقة، عن طريق توظيفه مختلف مفرداته الفنية، وفي مقدمتها الاختيار الدقيق لمجموعة الممثلين، وتصميمه لحركتهم بصورة طبيعية أقرب للتلقائية.وكان محافظا بمنهجه الواقعي في بناء الإطار المسرحي من الديكور والملابس وباقي الأدوات والمفردات المسرحية، وتميّز بعشقه الشديد للغة العربية الفصحى؛ تمثيلا وإخراجا، وبدقته وحرصه على التدقيق في مخارج الألفاظ والصوت، وتمسكه الشديد بنصه الخاص وعدم سماحه لأي فرد بالحذف أو الإضافة أو التبديل لأي عبارة في النص الذي استقر عليه.المحطة الأخيرة
كرَّس الزرقاني حياته للفن، وأسهم في إحداث نقلة نوعية في المسرح المصري، وتتلمذت على يديه أجيالٌ من نجوم التمثيل والإخراج، وغابت مظاهر التكريم، لكنه حصل على الجائزة الكبرى التي يعتز بها كل فنان أصيل، وهي احترام وتقدير الجمهور لأعماله، وربما تكون أفضل مظاهر تكريمه هي تخليد اسمه بعد رحيله، من خلال إطلاقه على قاعة من أهم قاعات المسرح القومي، وكذلك تكريم اسمه في احتفال «يوم الوفاء»، الذي نظّمته فرقة المسرح الحديث عام 2010.وقد ابتعد الزرقاني كمخرج عن السينما، وصارت تجاربه وخبراته الإخراجية في مجال المسرح، ورفض معايير التمثيل السينمائي، وتحكُم المنتجين في اختيار الممثلين، ثم من بعدهما المخرج وبعض الموزعين، دون النظر لمعيار الثقافة أو الكفاءة العالية في التمثيل، وظل طيلة حياته يفتخر بانحيازه للمسرح.وحقق عبدالرحيم غايته من الفن، وأفنى حياته في سبيل إيجاد فرص لتلاميذه، حتى لا يكابدوا المعاناة التي عاشها، بحثا عن فرصة في بدايته، في وقت كان العمل بالتمثيل أمرا بالغ الصعوبة، ولا يدرك قيمة المسرح ودوره إلا فئة قليلة مستنيرة من أبناء المجتمع، ولا تزال أعماله باقية في ذاكرة المسرح المصري.