المعارك الحادة للدوائر الانتخابية
لم تكن أغلب معارك الدوائر الانتخابية معارك عابرة، فقد كان بعضها قاسياً، حاداً، غيّر مسارات المجتمع. كانت تلك المعارك مؤشراً على اختلال موازين القوى في المجتمع، وهو مكمن الخلل في العملية السياسية برمتها، وكل ماعدا ذلك تفاصيل، "تيش بريش، معلق بالعريش"، كما قال الأولون.إن كانت معركة الدوائر الانتخابية الأولى بعيد الاستقلال قد فاتت على خير، ولم تتمترس السُّلطة وراء قرارها العشريني، فإن ذلك لم يكن الحال سنة ١٩٨١.استمرت الدوائر العشر من ١٩٦٢ (المجلس التأسيسي) حتى مجلس ١٩٧٥ الذي تم حله صيف ١٩٧٦، دون سبب. ففي حين امتدحت الحكومة مجلس الأمة امتداحاً بالغاً، إلا أنه ما إن توجه النواب للسفر، حتى صدر قرار بالحل، دون تحديد موعد للانتخابات، وخلال غياب المجلس، وتحديداً في ١٩٨٠، شكَّلت الحكومة لجنة "النظر في تنقيح الدستور"، إلا أن اللجنة المعينة لم توافق على مشروع الحكومة، فماتت لجنة التنقيح ميتة طبيعية، وتبخر ذكرها.
وهكذا اضطرت الحكومة للعودة للانتخابات، وتمرير تعديل الدستور عبر مجلس منتخب. وللوصول إلى تلك النتيجة كان لابد من تغيير الدوائر، مفتاح النتائج، لتتعدل الدوائر من ١٠ إلى ٢٥ دائرة، مع تقطيع الدوائر بحرفية فائقة، غير متوافرة في البلاد، فتمت الاستعانة بخبرات من بلد عربي صغير في تقطيع الدوائر. وتمت الدعوة للانتخابات على أساس التقسيم الجديد للدوائر، بعد غياب قسري للمجلس لأكثر من ٤ سنوات. وعلى أثر ذلك، دار نقاش حول احتمالية المقاطعة، إلا أن القرار حسم بالمشاركة.كان التقسيم الجديد مدروساً لإسقاط وجوه وطنية معروفة، ونجحت الحكومة في مسعاها، وكم كان أجدى لو أنها استخدمت تلك القدرات التخطيطية لما فيه منفعة للبلاد. وفي السنة الثانية من عُمر المجلس تقدمت الحكومة بمشروع تنقيح الدستور، إلا أن عدداً من نواب المجلس الوطنيين، مع حراك شعبي واسع، أديا إلى سحب الحكومة لمشروعها، وتبعثرت الدوائر الـ ٢٥ في أول اختبار لها في انتخابات ١٩٨٥ كما سنرى.