كنا نقول في الماضي: «من يجرؤ يفز»! لكن تراجعت حدّة هذه العبارة اليوم وباتت تقتصر على السؤال التالي: «كيف يجرؤ على فعل ذلك»؟ كانت المقولة الأولى أشهر شعار للقوات البريطانية الخاصة أو العالم الغربي ككل، لكن يبدو أن الطاغية الروسي فلاديمير بوتين هو الذي «يجرؤ» اليوم على غزو وتفكيك الدول المجاورة لبلده لأنه يعرف أننا لن نجرؤ على منعه.

يعارض الغرب أفعاله طبعاً، فقد وحّد صفوفه بسرعة تستحق الإشادة لفرض العقوبات وسحب الاستثمارات الاقتصادية وعزل البلد دبلوماسياً، لكن نظراً إلى الرد الغربي الجماعي على تقسيم جورجيا في عام 2008، والاستيلاء على شبه جزيرة القرم في عام 2014، وحجم المساعدات والمواد التي تصل إلى بشار الأسد منذ عام 2018، من المبرر ألا يتوقع بوتين الرد القوي الذي يواجهه هذه المرة.

Ad

مع ذلك، يدرك بوتين أن أوروبا الغربية تحتاج إلى إمدادات النفط والغاز من روسيا، وهو يعرف أيضاً أن الولايات المتحدة لن تخوض حرباً مباشرة مع روسيا، إلا إذا تجاوز بوتين الحدود وهاجم أحد أعضاء الناتو.

يبقى غزو بوتين الوحشي وغير المبرر لأوكرانيا عملاً مشيناً وبغيضاً في جميع الظروف، لكن هل كان الرئيس الروسي مخطئاً حين اعتبر الغرب أضعف من أن يتخذ خطوات تتجاوز استنكار التحركات الروسية إذا نجح بوتين في إسقاط الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي؟ كذلك، يجب ألا يقنع أحد نفسه بأن بوتين أفسد 70 سنة من السلام المتواصل في القارة العجوز. خلال السبعينيات، أقدمت تركيا المنتسبة إلى الناتو على غزو قبرص لمنع ضمّها إلى اليونان المنتسبة بدورها إلى الحلف، مما أدى إلى تهجير أكثر من مئة ألف شخص على طرفَي خط التقسيم الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

وخلال التسعينيات، تحوّلت التسوية في البلقان بعد الحرب الباردة إلى سلسلة من الحروب الدموية، وقد ترافقت مع تكثيف حملات التطهير العرقي وتهجير أكثر من مليونَي شخص ومقتل 100 ألف على الأقل، حيث يسهل أن ينسى الناس أن أوروبا الغربية والولايات المتحدة اتفقتا على ضرورة أن تحافظ يوغوسلافيا السابقة على وحدتها باعتبارها دولة اكتسبت «حريتها» حديثاً وتتعدد فيها الانتماءات العرقية. لطالما كانت تلك النسخة من يوغوسلافيا مجرّد اختراع إمبريالي ولم تكن تحمل أهمية كبرى للغرب في تلك الفترة. شعر عدد من دول أوروبا الغربية بالقلق نفسه على الأقل من تشجيع الانفصاليين المحليين على تكرار ما يحدث في يوغوسلافيا.

هذه المعطيات لا تبرر إقدام بوتين على هذا الغزو الوحشي ولا تدعو إلى خوض الحرب ضد روسيا، بل إنها دعوة لفهم هذه الحرب الجديدة في أوروبا واعتبارها نقطة مفصلية في التاريخ وتتويجاً للعوامل التي تتراكم منذ عقود. كانت الهيمنة الأميركية بعد نهاية الحرب الباردة السبب في تفوقنا الاقتصادي وتفاخرنا بثقافتنا: لقد وصلنا إلى نهاية التاريخ ونحن في القمة، لكن بعد مرور ثلاثة عقود تراجعت أهميتنا الاقتصادية، حتى أننا لم نعد نؤمن بصوابية قِيَمنا أو وجوب تطبيقها ولم نعد نجرؤ على التحرك.

سارع عميل سابق في الاستخبارات السوفياتية وزعيم مصاب بجنون العظمة إلى سدّ الفراغ، وانضمّ إلى هذه الحملة أيضاً القائد الصيني الأعلى شي جين بينغ ومسؤولون آخرون وراءهما على الأرجح: إنه المعسكر الذي لم يحبذ آخر نظام عالمي راسخ، أو يظن أنه يستحق الترقية، أو يتوق بكل بساطة إلى تحسين مكانته ويجرؤ على إطلاق المحاولات لتحقيق هدفه.

ما لم نتقبّل هذا الواقع الجديد، حيث نعترف بنقاط ضعفنا وغياب رؤيتنا الثاقبة وطموحاتنا الصائبة، لا مفر من أن نكتفي باستنكار تحركات الأطراف الأخرى التي تحاول تجديد وجه العالم، فمن وجهة نظرنا من المستبعد أن يكون العالم الذي يطمح إليه المعسكر الآخر أفضل من عالمنا اليوم.

* إيريك بوفيم

Real Clear

روسيا ريل كلير