فلسفة التغيير والتطوير
ما يؤكد وجوب فرض برنامج عمل حكومي يتضمن أهدافاً منضبطة بمعايير كمية وزمنية هو وجود قصور لدى البعض في إدراك أهميته وخطورة انعدامه، فهناك قضايا لا تتضارب المصالح في وجوب فرض حلول لها وتحريك كل أدوات وإجراءات القضاء على معوقات هذه الحلول، وهناك قضايا ربما توجد مفاسد وراء عدم حلها، كالخلل الفظيع في التركيبة السكانية وتضخم البطالة المقنعة وارتفاع أسعار الأراضي والإيجارات وأزمة السكن ... إلخ.هذه قضايا قد يرجع عدم إرادة حلها إلى وجود قوى مضادة من متنفذين ووجود اتفاق مصالح في عدم حلها في القطاع الخاص والحكومي، بل القطاع البرلماني، وهنا يردد البعض بأن ما يعوق التطوير والإصلاح وجود المصالح وتضاربها، ولكن أريد أن أعرف أين المصلحة وراء ظاهرة فوضى المرور؟ فلماذا السرعات الجنونية لشاحنة أو حافلة في الشوارع الداخلية التي لا يسمح حسب اللوحات بتعدي السرعة 45كم؟ فأين تلتقي المصالح في وجود حوادث المرور التي تتحاوز 420 قتيلاً سنوياً؟ وأين التقاء المصالح في عدم التزام الكل بقواعد المرور في التزام السرعات المحددة وخطوط السير والتزام الخطوط في مواقف السيارات، ناهيك عن التزام المسارات المحددة بالأسهم منعاً للتصادم والدهس، وإيقاف المركبات حتى داخل المجمعات في أماكن ممنوع الوقوف؟ وأين المصلحة من الأصوات المزعجة التي تصدر عن سيارات المراهقين الذين يثقبون العادم (القزوز) فتصدر السيارة ما يشبه الانفجارات المخيفة شديدة الإزعاج؟ البدهي أن الفوضى المرورية وكل مظاهرها تلتقي المصلحة في القضاء عليها لأنها تهدد أرواح وممتلكات وراحة الجميع، ولا يمكن أن تسيَّس أو يتمصلح منها أي طرف، وفي هذا السياق نقول: أين المصالح في وجود الأخطاء الطبية وضعف التشخيص والعلاج في المستشفيات؟ وأين توجد المصلحة في الأغذية الفاسدة والمنتهية الصلاحية؟ وأين نجد المصلحة في وجود المواد والملوثات المسرطنة والضارة في البيئة؟ وأين المصلحة في تدني مستوى التعليم واستنزاف ميزانية الأسرة التى تجبر على الدروس الخصوصية؟ فكل هذه القضايا لا تتصادم المصالح في وجوب التصدي لها واستئصالها لأنها كالسرطان والأمراض الفتاكة.
ومع ذلك فهذا الوضع الكارثي كأنه قَدَر يطبع الساحة المرورية والصحية والتجارية والبيئية وكأن المعترض عليه كالمعترض على القدر الإلهي، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، لذلك نحد البعض اعتبر ذلك ابتلاء، والبعض اعتبره راجعا إلى طبيعة الثقافة، وهلم تنظيرا وتخريفاً، مع أن الله قد ربط التغيير في الواقع الإنساني بإرادة الإنسان، فقال سبحانه: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»، والعلماء قالوا: «ما بالنفس علم وإرادة»، والعلم يمثل برنامج العمل العلمي بربط النتائح بأسبابها بشكل صحيح، والإرادة تمثل انتصار رغبة الإصلاح وعدم سيطرة الفساد والأهواء والأوهام. وهنا سنأخذ مثلا القضايا المرورية فوجود برنامج عمل يحدد في أحد أهدافه تقليل مخالفات السرعة 90% عن المعدل الحالي سيقود وزارة الداخلية إلى تغيير سياساتها ووسائلها وخبرات موظفيها بما يوجد البيئة التي تحقق هذا الهدف الذي يجب أن تضعه جهات وأهل خبرة متميزة من داخل البلاد وخارجها.ماذا يقيّد وزارة الداخلية في أن تُلزم الجميع بالسرعات المفروضة على كل شارع، وإذا خالفها السائق يبلغ فورا برسالة إلكترونية على الموبايل بوجوب دفع المخالفة وإلا تضاعفت في حال التأخير؟ أما من تصدر سيارته الإزعاج نتيجة العادم أو من يعتم زجاج السيارة فوق المسموح فهذا مكشوف وسهل صيده فيتم حجز مركبته بكابح عند منزله وفرض الغرامات الرادعة عليه؟ثم نرد على من يقول المسألة تحتاج إلى تغيير ثقافة مجتمع لكي يضع العراقيل نقول: لماذا إذا ذهبنا للدول الغربية نجد الالتزام بنظُم تلك الدول في حال قيادتنا للمركبات والتكيف مع نُظم المرور هناك ومعرفة تفاصيلها حتى قبل السفر خوفاً من العواقب؟ فالحد الفاصل بين وضع الفوضى الكارثي المتخلف والوضع الصحيح المتطور يكمن في وجود برنامج العمل من عدمه.