تعددت أقنعة أمينة رزق على خشبة المسرح خلال مشوارها الطويل، وتدرَّجت من أكثر الشخصيات رقة مثل «أوفيليا» و«ديدمونة» إلى أشدها قسوة في «برنارد ألبا»، وتقمَّصت أهم الأدوار لكتَّاب المسرح المصري مثل «مجنون ليلى»، و«مصرع كليوباترا» لأحمد شوقي، و«شجرة الدر»، و«شهريار» لعزيز أباظة.

وعملت رزق مع الجيل الأول من المخرجين مثل يوسف وهبي، وعزيز عيد، وزكي طليمات، وفتوح نشاطي، وتعاونت مع الجيل التالي ومنهم عبدالرحيم الزرقاني، ونبيل الألفي، وحمدي غيث، ثم الجيل الثالث كرم مطاوع، وجلال الشرقاوي، وسعد أردش، ونجيب سرور، وصولًا إلى الجيل الحالي ومنهم عصام السيد مخرج مسرحية «الليلة الثانية بعد الألف» التي قدمتها على خشبة مسرح الهناجر عام 2002.

Ad

وتميزت أمينة رزق بالتزامها الشديد في التعامل مع المسرح، وكان من طقوسها الخاصة الحضور قبل رفع الستار بساعة ونصف على الأقل، لتجلس في حجرتها بمفردها تقرأ وتراجع دورها قبل مواجهة الجمهور، وكانت تقوم بعمل الماكياج لنفسها، وتعد لكل مسرحية أزياءً خاصة بها.

كان حبها للمسرح مُعطِلًا لها عن الانطلاق نحو السينما في بداية حياتها، فقد رشحت لبطولة فيلم «زينب» الصامت عام 1930، ولكن مخرجه محمد كريم تراجع بسبب ارتباطها الشديد بمسرح رمسيس، وكانت تجري البروفات صباحًا ومساءً، وتقدِّم عروضها في حفلات «ماتنيه وسواريه»، وهو ما يتعارض مع ما يستلزمه العمل السينمائي من تفرغٍ ووقتٍ طويل، واختار بدلًا منها الفنانة بهيجة حافظ.

مسرح رمسيس

ظهرت أمينة رزق لأول مرة على خشبة المسرح في عام 1922، وغنت إلى جوار خالتها الفنانة أمينة محمد في إحدى مسرحيات فرقة علي الكسَّار، وانتقلت الفتاة الصغيرة في عام 1924 للعمل مع فرقة رمسيس، وجسَّدت شخصية صبي كسيح في مسرحية «راسبوتين» أمام عميد المسرح العربي يوسف بك وهبي.

كان دور «أليكسي» ابن القيصر المريض في مسرحية «راسيوتين»، بداية تألق الممثلة الصغيرة، وحينئذ أوكل يوسف وهبي إلى الممثل مختار عثمان مهمة تدريبها على الدور، وظلت تقوم بأدوار ثانوية، حتى استقالت ممثلة الفرقة الأولى زينب صدقي، فأسندوا دورها إلى أمينة رزق، وقفز راتبها من أربعة جنيهات إلى 20 ثم 30 جنيهًا، حتى وصل إلى 60 جنيهًا، وكان أعلى الأجور بين نجمات ذلك العصر.

وحققت من خلال أدائها المتميز شهرة كبيرة، ونجح العرض نجاحًا مدويًا، وعرفت أمينة رزق منذ ذلك الوقت بقدرتها الفائقة على الأداء الميلودرامي الذي تسيل على أثره دموع المتفرجين، حتى ان زكي طليمات وصفها في كتابه «فن الممثل العربي» بأنها «صاحبة الأداء الباكي».

عاشقة التمثيل

وُلدت أمينة رزق في 15 أبريل عام 1910 بمدينة طنطا بمحافظة الغربية (شمال غربي القاهرة)، وبدأت دراستها في «مدرسة ضياء الشرق» عام 1916، وتعلَّقت الطفلة بالفن، حين اصطحبها خالها ذات يوم إلى السينما، وشعرت أثناء مشاهدة الفيلم أنها في عالم آخر، وغضب والدها بشدة، وضربها بالسوط، وتشاجر مع والدة أمينة وشقيقها وكاد الأمر يصل إلى الطلاق.

انتقلت أمينة مع والدتها للعيش في القاهرة مع خالتها الفنانة أمينة محمد إثر وفاة والدها، وكان عمرها 8 سنوات. وحينها عاد سعد باشا زغلول من منفاه وخرج الشعب لاستقباله، وحملت الطالبات زميلتهن أمينة على أكتافهن وأخذت تهتف وتلقي خطبة رنانة في الوطنية والفِداء وأعجب بها سعد زغلول، ومن يومها أصبحت معروفة بين زميلاتها في المدرسة بموهبتها في الخطابة.

وكانت رزق تقيم في بيت صغير في حي روض الفرج، ويعد من أشهر أحياء القاهرة وملتقى الفنون في ذلك الوقت، وتوجد به مسارح نجيب الريحاني وعلي الكسّار ويوسف وهبي، وتسللت أمينة رزق إلى هذا العالم مع خالتها أمينة محمد، وانبهرت بنجوم تلك الفترة، مثل روز اليوسف، وأحمد علام، وزينب صدقي، وفاطمة رشدي.

في ذلك الوقت، ارتبطت أسرة أمينة رزق بصداقة مع أسرة الفنان أحمد عسر، واعتادت الطفلة أن تستمع إلى أحاديث عسر عن يوسف وهبي ومسرحه، فشعرت برغبة شديدة في أن تعمل كممثلة، فاصطحبها عسكر وخالتها أمينة محمد إلى مسرح رمسيس، ولم تكن مقابلة يوسف بك بالأمر السهل، ولكنه أحسن استقبال الفتاتين، ووافق على ضمهما للفرقة، وعلمت والدتها بالأمر فضربتها علقة ساخنة، وحرَّمت عليها الخروج من المنزل.

وفكرت أمينة رزق مع خالتها أمينة محمد في الخروج من هذا المأزق، واقترحت الخالة أن يهربا ويعملا في فرقة رمسيس، ولكن أمينة الصغيرة لم تجرؤ على هذه الخطوة، وتسللت هي وخالتها مرة ثانية إلى مسرح رمسيس، وكتب لها يوسف وهبي عقداً وأعطاها نسخة لتوقعه من ولي أمرها، وبالطبع لم تجرؤ أمينة على أن تعطي والدتها العقد لتوقيعه، فزورت توقيع ولي الأمر بيدها.

كرسي الاعتراف

تحوَّلت الفتاة الصغيرة إلى أشهر نجمات فرقة رمسيس، وذهبت إليها معظم أدوار البطولة أمام أستاذها يوسف وهبي، وعُرِف عنها حبُها الشديد له لكنها لم تستطع الزواج منه، وقدّمت معه العديد من المسرحيات المقتبسة، منها «كرسي الاعتراف»، و«المائدة الخضراء»، و«بنات الشوارع»، و«أولاد الفقراء»، و«بيومي أفندي»، و«البخيل»، و«عطيل»، و«الكونت دي مونت كريستو»، وأصبحت إحدى الشخصيات الأساسية في الأفلام التي أنتجها وهبي.

وظل مسرح رمسيس أهم محطاتها المسرحية، ومن خلاله طرقت أبواب السينما، ولكن من خلال أعمال سبق تقديمها في المسرح.

أولاد الفقراء

شاركت أمينة رزق في مسرحية «أولاد الفقراء» مع يوسف وهبي، ومحمود المليجي، وعلوية جميل، وتدور أحداثها في إطار ميلودرامي حول أحد الأثرياء يُدعة فؤاد باشا، الذي يرفض مساعدة شقيقه بعد إفلاسه في البورصة، ويتخلى ابنه «زكي» عن فكرة الزواج من ابنة عمه «حُسنية»، وتتصاعد الأحداث.

وفي «ساعة التنفيذ» جسّدت شخصية «سامية» أمام يوسف وهبي وسراج منير وميمي شكيب، وتدور المسرحية حول الشاب «رؤوف» العائد من أوروبا إلى مصر ويفاجأ بأن خطيبته تزوجت الثري «فؤاد بك» وأنجبت منه طفلين، وتتشابك الأحداث لتفضي إلى نهاية غير متوقعة.

وشاركت أمينة رزق في النسختين المسرحية والسينمائية لنص «الطريق المستقيم»، بطولة يوسف وهبي وبشارة واكيم ومنسي فهمي، وتدور القصة حول رجلٍ يحب أسرته ويتفانى في رعايتها، تعترضه امرأة تُوقعه في حبائلها وتتغيرأحواله وينشغل بها عن زوجته وأطفاله، ويهمل عمله، وينتهي به الأمر إلى قتل هذه المرأة، ويفر هارباً، وتتوالى الأحداث.

وتتابعت رحلة أمينة رزق في مسرح رمسيس، وظلت البطلة الأولى للفرقة، وقدمت مع يوسف وهبي مسرحية «عاصفة على الريف» وشاركهما البطولة راقية إبرهيم وحسين رياض، ويدور العمل في إطار اجتماعي حول مفتش الصحة «الدكتور أشرف»، الذي يعمل في إحدى القرى، ويقع في مشكلات عديدة، كونه عقبة في طريق حلّاق الصحة والعُمدة والعطّار، وكل من يمارس الدجل والشعوذة، ويزيد التحدي أمامه بعد ابتلاء القرية بوباء الطاعون.

وبات واضحًا أن يوسف وهبي احتكر موهبة تلميذته، ورفض أن تشارك بالتمثيل مع فرق مسرحية أخرى، وانعكس ذلك على أسلوبها في الأداء، وبدت مزيجًا بين الميلودراما والتراجيديا، والارتكاز على الانفعالات الصارخة، وبمرور الوقت تمردت على هذا النمط الكلاسيكي، وتراكمت خبراتها من خلال تنوع أدوارها، وتعاملها مع أجيال من المخرجين.

في ذلك الوقت، اعتاد الممثلون التنقل بين الفرق المسرحية، ولكن أمينة رزق ارتبطت بمسرح رمسيس لأكثر من عشرين عامًا، وصارت بطلته الحصرية، وشاركت يوسف وهبي طموحاته الهائلة في تقديم أكثر من مسرحية في موسم واحد، وأظهرت إخلاصها الشديد لأستاذها، حين تعرض لأزمة مالية، وانطفأت أضواء مسرحه في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي.

عادت أمينة في عام 1960 لتعمل مُجدّدًا مع أستاذها يوسف وهبي في المسرحية المقتبسة «راسبوتين» أحد روائع المسرح العالمي، ومن الأعمال النادرة للفنانة أمينة رزق التي سبق أن قُدِمَت في عام 1924، وتدور أحداثها حول الراهب الروسي راسبوتين الذي ظل يسعى لدى القيصر الروسي، لكي يبقى بعيدًا عن الصراع في الحروب، وتتوالى الأحداث، وشارك في بطولة العمل علوية جميل، وفاخر فاخر، وسلوى محمود، وعبدالبديع العربي، وإخراج حمدي غيث.

وفي عام 1972، شاركت رزق مع وهبي بطولة مسرحية «بيومي أفندي»، التي سبق تقديمها على المسرح وفي السينما نهاية الأربعينيات، ويمزج العمل بين الكوميديا والميلودراما، حول زوجة متسلطة ترفض زواج ابنتها من شاب فقير، وفي ذروة الخلاف مع زوجها، تسقط الأقنعة عن ماضيها.

بيت من زجاج

بدت عاشقة المسرح في مفترق طرق، بعد توقف فرقة رمسيس، ورفض مؤسسها يوسف وهبي الالتحاق بالمسرح القومي (مسرح الدولة) واتجه إلى العمل السينمائي، وأظهرت التلميذة قدرًا كبيرًا من الوفاء لأستاذها، واعتذرت عن عدم المشاركة في العروض التي تلقتها من الفرق الأخرى، وفضلت الالتحاق بالمسرح القومي عام 1943، كما عملت لاحقاً مشرفة فنية بالمسرح الشعبي، وعضو المجلس الأعلى لرعاية الفنون والأدب.

وقدمت أمينة رزق مجموعة كبيرة من المسرحيات على خشبة المسرح القومي، منها «امرأة تستجدي»، و«مرتفعات وذرنج»، و«ابن الحسب والنسب»، و«بيت من زجاج» مع المخرج فتوح نشاطي، و«بيت برنارد ألبا»، ومثلت هذه العروض مرحلة جديدة في مشوارها المسرحي.

وشاركت عملاقة التمثيل التراجيدي مع نجوم المسرح القومي، وقدمت بعض الأعمال المترجمة، منها مسرحية «فيدرا» للكاتب الفرنسي جان راسين، وتعد من أشهر وأصعب الأعمال بالمسرح الفرنسي، ولعبت أمينة دور «إينوني» ممرضة وصديقة فيدرا، أمام سميحة أيوب، وعبدالله غيث، وفردوس عبدالحميد، وإخراج جان بيير، وبعدها قدَّمت المسرحية في فرنسا بعد ترشيح من وزير الثقافة الفرنسي آنذاك، وعُرضت في دار أوبرا باريس على مدار 15 يومًا، وهذا أمر لم يحدث من قبل مع أي فرقة وافدة، فهذه الفرق كانت تعمل مدة يوم أو اثنين فقط.

«إنها حقا عائلة محترمة»

وخاضت رزق التجربة الكوميدية لأول مرة في مسيرتها الفنية من خلال مسرحية «إنها حقًا عائلة محترمة» (1979) مع فؤاد المهندس وشويكار، وتأليف سمير خفاجي، وإخراج سمير العصفوري، وواجهت انتقادات حادة، لارتدائها باروكة، لكنها نجحت في انتزاع الضحك والتصفيق من الجمهور في كل ليلة عرض، وأظهرت جانبًا آخر من موهبتها كممثلة استثنائية في تاريخ المسرح المصري.

حظيت الفنانة أمينة رزق باحترام وحب كبيرين داخل الوسط الفني، واشتهرت بلقب «أم الفنانين»، ورغم تجسيدها أدوار الأم أكثر من مرة، فإنها بفضل براعتها وتمكنها لعبت كل دور بشكل مختلف عن الآخر، فكانت عمودًا أساسيًا في أي عمل تتواجد به، ولا تزال حاضرة في قلوب الملايين من عشاق فنها الراقي.

مسيرة حافلة بالجوائز والتكريمات
حفل مشوار الفنانة أمينة رزق بالعديد من التكريمات والجوائز، فقد حصلت على وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ومُنِحَت أوسمة من فعالياتٍ مسرحية في المغرب وتونس، وحازت عدة مرات الجوائز الأولى لأحسن ممثلة عن أعمالها السينمائية، كما جرى تعيينها عضوًا بمجلس الشورى المصري عام 1991.

واحتفل مسرح الهناجر عام 2002 بمرور 78 عامًا على اعتلائها خشبة المسرح، عند افتتاح عرض «الليلة الثانية بعد الألف» الذي قامت ببطولته أمام سامي العدل، وخليل مرسي، وصاحب الافتتاح احتفالية كبرى أعدتها الدكتورة هدى وصفي مديرة مسرح الهناجر وقتذاك، لتكريم أمينة رزق، وتضمنت عرض فيلم تسجيلي عن مشوار حياتها، باعتبارها من أهم رموز المسرح في الوطن العربي.

كما أصدر الناقد كمال رمزي كتاب «مرفأ الأمان» تناول من خلاله إسهامات الفنانة الراحلة أمينة رزق في تطور فن التمثيل العربي إلى جانب مشاهد وتطورات المحطات الأكثر تأثيرًا في حياتها الفنية.

أحمد الجمَّال