في ظلال الدستور: وجوب نقل الاختصاص بالفصل في الطعون الانتخابية إلى قضاء المشروعية (1-3)
للمحكمة الدستورية ولايتان: الأولى تستمدها من الدستور مباشرة، وهي الرقابة على دستورية القوانين، والثانية تستمدها من قانون إنشائها رقم 73 لسنة 1974 وهي الفصل في الطعون الانتخابية، لذلك حرصت منذ أن فصلت في أول طعن انتخابي، على الفصل بين الولايتين.
يتبين من استعراض نصوص الدستور، أن المحكمة الدستورية أنشئت لممارسة اختصاصها الأصيل المنصوص عليه في المادة (173) للفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح، وفي حالة تقريرها عدم دستورية قانون أو لائحة– طبقا لأحكام هذه المادة- يعتبر أيهما كأن لم يكن، ومن هنا تسلط قضاءها في هذا الأمر على كافة المحاكم التي عليها أن تمتنع عن تطبيق النص التشريعي غير الدستوري، وتخضع لأحكامها كل سلطات الدولة، أما الفصل في صحة انتخاب أعضاء مجلس الأمة فقد عهد به الدستور في المادة (95) إلى مجلس الأمة.ولأهمية هذا الاختصاص وخطورته، قرر الدستور في هذه المادة «ولا يعتبر الانتخاب باطلا إلا بأغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس»، فهذه الأغلبية الخاصة التي قررها الدستور، هي ضمانة لصون الإرادة الشعبية من أن تغتالها أهواء بعض الكتل السياسية في مجلس الأمة، إلا أن هذه الضمانة نكصت على عقبيها بسبب الروابط القبلية والعائلية والشخصية، عندما استحال بسببها إصدار قرار من المجلس، بإبطال انتخاب أحد الفائزين في الانتخابات البرلمانية، بعد أن ثبت للجنة المختصة في المجلس افتقاده شرطاً من شروط عضوية المجلس المنصوص عليها في المادة (82) من الدستور، وهو إجادة القراءة والكتابة، وكانت المادة (95) من الدستور سالفة الذكر، قد أجازت نقل هذا الاختصاص إلى جهة قضائية، فتخلى المشرعون بمجلس الأمة عنه إلى المحكمة الدستورية- بمناسبة إنشائها- بالقانون رقم 14 لسنة 1973، لإحاطته بالضمانات القضائية والنأي به عن الأهواء السياسية.
نكوص المحكمة على عقبيها إلا أنه بعد إقصاء محكمة التمييز وهي محكمة القانون الوحيدة في النظام االقضائي الكويتي، عن تشكيل المحكمة الدستورية، في الاقتراع على اختيار قضاتها، لم يجد قضاة الموضوع الذين شكلت منهم المحكمة بأساً عند الفصل في الطعن الانتخابي رقم 15 لسنة 2020، بالحكم الذي أصدرته المحكمة بجلستها المعقودة بتاريخ 14/ 3/ 2021، والذي قضت فيه بإبطال انتخاب أحد الفائزين في الانتخابات العامة البرلمانية الأخيرة، لم تجد المحكمة بأسا في أن تطيح بكل الثوابت الدستورية والقضائية التي أرستها في تأدية رسالتها الأصيلة في صون الدستور، أو كمحكمة موضوع في حماية الإرادة الشعبية، وهي الثوابت التي وقرتها في ضمير الشعب على مدى نصف قرن منذ إنشائها في عام 1973، انطلاقا من استعلاء على السلطة القضائية التي تتولاها المحاكم باسم الأمير، إعمالا للمادة (53) من الدستور، وتتربع على سدتها محكمة التمييز، لترسي مبدأ سيادة القانون والدولة القانونية، في الحكم سالف الذكر، فتوغلت على ولاية القضاء العام، وأهدرت في تطبيق القوانين الجزائية، وعطلت أحكامه، فأهدرت عند فصلها في الطعن الانتخابي سالف الذكر أحكام الدستور فيما قضت به المادة 34 من أن «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، في محاكمة قانونية، بحكم نهائي باتّ، فأعادت محاكمة المطعون في انتخابه، مرة أخرى لتطبق عليه عقوبة جديدة لم تكن مقررة وقت ارتكاب فعله، بمخالفة كذلك للمادة (32) من الدستور، التي نصت على أنه «لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة للعمل بالقانون الذي ينص عليها». وتوغلت كذلك على ولاية القضاء العام، في رقابته لمشروعية القرارات الإدارية، فحرمت من حق الانتخاب، وحق الترشح، للانتخابات البرلمانية الأخيرة من كان قضاء المشروعية، قد حصن حقه في الأمرين معا بحكم نهائي وباتّ، وهو ما أوقع النظام القانوني والقضائي الكويتي في مأزق خطير، وهو امتناع جهة قضائية عن احترام أحكام القضاء، وإيقاف تنفيذها، وهو الفعل الذي يعاقب الموظف العام على ارتكابه، باعتباره مؤثما جزائيا. فهل أصبح هذا الفعل مباحاً، إذا ارتكبته جهة قضائية، بما ينطوي كذلك على مساس باستقلال القضاء وجوهره احترام أحكامه وتنفيذها، ولهذا حرص الدستور على أن تصدر أحكامه باسم الأمير، باعتباره راعي السلطات جميعا وفي صدور الحكم باسم الأمير دعم لهذا الحكم، وأمر للسلطات جميعا بتنفيذه، وهو أمر بنص الدستور. وقد رأينا، ليكون الأمر أكثر وضوحا للقارئ وللمشرعين في مجلس الأمة، أن نعرض للمبادئ الدستورية التي أرستها المحكمة الدستورية في تحديد ولايتها بالفصل في الطعون الانتخابية فيما يلي: الفصل بين الولايتين عطفا على ما قدمناه في صدر المقال من أن المحكمة الدستورية لها ولايتان: أولاهما تستمدها من الدستور مباشرة، وهي الرقابة على دستورية القوانين، وثانيتهما، تستمدها من قانون إنشائها رقم 73 لسنة 1974 وهي الفصل في الطعون الانتخابية. وقد حرصت المحكمة الدستورية، منذ أن فصلت في أول طعن انتخابي، على الفصل بين الولايتين، فالاختصاص الأول هو الاختصاص الأصيل للمحكمة الدستورية، والأهم في النظام القضائي، وهو أحد أعمدة الفصل بين السلطات مع تعاونها، والذي يقوم على أن كل سلطة تراقب السلطة الأخرى le pouvoir arret le pouvoir، حيث يراقب القضاء الدستوري السلطة التشريعية، فيما تمارسه من اختصاص بإقرار القوانين، كما يراقب السلطة التنفيذية فيما تصدره من لوائح، فتعدم أثر هذه القوانين أو اللوائح، إذا قضت بعدم دستوريتها، وهي بذلك تصون الدستور والنصوص والمبادئ والحقوق الدستورية من اختراقها من إحدى السلطتين التشريعية أو التنفيذية. إلا أن المحكمة الدستورية نفسها، وهي واعية لمسؤوليتها عند الفصل في الطعون الانتخابية مقدرة عواقبها، فأحلت نفسها من هذا العلو في المكانة والسمو في الرسالة ومن هذه العصمة، التي تعتصم بها كأعلى محكمة في البلاد، لتنزل في تكييفها لولايتها بالفصل في الطعون الانتخابية لتنتصف لنفسها من هذه المهمة بأنها في هذا الاختصاص إنما تمارسه كمحكمة موضوع، فيما قررته في كافة أحكامها من أن: «المشرع اختص المحكمة الدستورية دون غيرها بولاية الفصل في الطعون الخاصة بانتخاب أعضاء مجلس الأمة وبصحة عضويتهم، وهي إنما تفصل في هذه الطعون بوصفها محكمة موضوع تقصيا للعناصر الواقعية للخصومة المطروحة عليها وما يتصل بها من القواعد القانونية واجبة التطبيق»، (الأحكام الصادرة في الطعون رقم 11 و12 و13 و15 لسنة 2003 ورقم 27 ورقم 50 لسنة 2008)وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
المستشار شفيق إمام
الدستور حرص على أن تصدر أحكامه باسم الأمير باعتباره راعي السلطات جميعاً وفي صدور الحكم باسم الأمير دعم للحكم وأمر للسلطات بتنفيذه