الانتخابات الرئاسية الفرنسية... بانتظار الجولة الثالثة!
![د. محمد أمين الميداني](https://www.aljarida.com/uploads/authors/368_1682431813.jpg)
سبق أن كتبنا في مقالة سابقة بأن النظام السياسي الفرنسي هو نظام رئاسي، وإن كان يحلو لبعض أساتذة القانون الدستوري الفرنسي وصف هذا النظام بأنه نظام برلماني! لقد أراد الجنرال ديغول، مؤسس الجمهورية الخامسة الفرنسية، اعتماد دستور يتجنب ما عرفته الجمهوريات السابقة، وبخاصة الجمهورية الرابعة من فوضى وعدم استقرار، وفقدان الحكومات الفرنسية المتعاقبة لإمكانات تنفيذ برامجها، وكان وقتها النظام السياسي الفرنسي نظاما برلمانيا بامتياز، ولكن سعى دستور الجمهورية الخامسة والذي تم اعتماده عام 1958، لوضع حدا لهذه الفوضى وعدم الاستقرار في الحياة السياسية الفرنسية على مدى أعوام الجمهوريات الفرنسية المتعاقبة، والتي عرفت باستمرار سقوط الحكومات، وإعادة تكليف سياسيين برئاسة حكومات جديدة. ولكن لا يعني النظام الرئاسي الفرنسي الذي أقامه دستور 1958 تغييبا لدور البرلمان وبخاصة للجمعية الوطنية ودورها التشريعي والرقابي على السلطة التنفيذية وحسب الأصول التي يحددها الدستور، ومن هنا جاءت أيضا أهمية الانتخابات التشريعية التي ستحدد شكل الوزارة القادمة وما سيتم تكليفها به من مهام، والأهم تحديد ملامح رئيس الوزراء ومن أي حزب أو اتجاه سياسي سيكون، وما الدور الذي سيؤديه طوال فترة تكليفه برئاسة الوزراء. ويوجد حاليا على الساحة السياسية الفرنسية ثلاثة أحزاب رئيسة ستتنافس على مقاعد الجمعية الوطنية والتي يبلغ عددها 577 مقعدا، أما هذه الأحزاب فهي: حزب الرئيس الحالي (إيمانويل ماكرون)، والمعروف باسم (الجمهورية إلى الأمام)، ويضم عددا من الأحزاب الصغيرة التي تجري في فلكه، وحزب المرشحة التي خسرت الجولة الثانية ونقصد بها (ماري لوبان) وهو حزب (التجمع الوطني)، والحزب الثالث هو حزب من وصل للمرتبة الثالثة في انتخابات الجولة الأولى ونقصد به (جان-لوك ميلنشون) والذي حصل على أكبر نسبة من أصوات المسلمين من بين المرشحين للرئاسة الفرنسية في هذه الجولة الأولى، ويرأس حزب (فرنسا القوية)، وستخوض أحزاب أخرى سباق الانتخابات التشريعية نذكر منها: حزب (الجمهوريون)، و(حزب الخضر)، و(الحزب الاشتراكي)، و(الحزب الشيوعي). فإذا صادف ولم يحصل حزب الرئيس المنتخب الحالي على غالبية مقاعد الجمعية البرلمانية الفرنسية، وكانت الغالبية لأعضاء أحد الحزبين الآخرين، فسيكون هذا الرئيس مضطرا لاختيار رئيس للوزراء من الغالبية البرلمانية حتى لو لم يكن من أعضاء حزبه، ويتجلى هنا شكل آخر من أشكال الديموقراطية السياسية الفرنسية، وعلى الرئيس أن يقبل بنظام برلماني أكثر منه رئاسيا، ولكن هناك مجالات يبقى فيها رئيس الجمهورية الفرنسية صاحب القرار الرئيس والفصل وبغض النظر عن الأغلبية البرلمانية، ونعود للحديث مجددا عن نظام رئاسي، وهذه المجالات هي:1- «يجوز لرئيس الجمهورية، بعد استشارة رئيس الوزراء ورئيسي مجلسي البرلمان، أن يقرر حل الجمعية الوطنية» (المادة 14 من الدستور). 2- «يعتمد رئيس الجمهورية أوراق اعتماد السفراء والمبعوثين فوق العادة لدى الدول الأجنبية؛ ويتسلم أوراق اعتماد السفراء والمبعوثين فوق العادة المعتمدين لديه» (المادة 14 من الدستور).3- «رئيس الجمهورية هو رئيس أركان القوات المسلحة، ويرأس المجالس واللجان العليا للدفاع الوطني». (المادة 15 من الدستور).4- «يتفاوض رئيس الجمهورية ويصادق على المعاهدات، ويطلع على أية مفاوضات تهدف إلى إبرام اتفاق دولي غير خاضع للتصديق عليه». (المادة 52 من الدستور). كما يرأس رئيس الجمهورية كل الوفود الفرنسية في الاجتماعات واللقاءات الدولية والأوروبية.ويعرف التاريخ السياسي الفرنسي، وفي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الفائت وبداية هذا القرن، أمثلة عديدة عن حالات تم فيها اختيار رئيس وزراء من حزب فرنسي من قبل الرئيس الفرنسي الذي ينتسب لحزب آخر منافس، وذلك تحت ضغط نتائج الانتخابات التشريعية التي فاز فيها الحزب المنافس لحزب الرئيس، وحدث ذلك ثلاث مرات في تاريخ فرنسا المعاصر: المرة الأولى حيث كان للرئيس الفرنسي الاشتراكي (فرانسوا ميتران) رئيس وزراء يميني (جاك شيراك) بين أعوام 1986-1988، وكان له مجددا رئيس وزراء يميني (إدوارد بالادور) بين أعوام 1993-1995، وأخيرا كان لرئيس يميني (جاك شيراك) رئيس وزراء اشتراكي (يونيل جوزبان) بين أعوام 1997-2002. ستلعب الانتخابات الفرنسية التشريعية القادمة دورا حاسما وأساسيا في تحديد سياسيات الحكومات الفرنسية في ظل رئاسة (إيمانويل ماكرون)، وعلى مدار خمس سنوات قادمة، سيختار المواطن الفرنسي بكل حرية وقناعة وشفافية وكالعادة في نظام ديموقراطي من سيمثله في الجمعية الوطنية الفرنسية ولخمس سنوات قادمة أيضا، وإذا كان هذا الناخب قد شعر ببعض الضغوط غير المباشرة في اختياره لواحد من المرشحين في هذه الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، ونظر لاختياره للرئيس الحالي على أنه (أهون الشرين)، فسيطلق العنان لنفسه ولقناعاته وآراءه في الانتخابات التشريعية التي ستعكس بالتأكيد الوجه الواقعي لفرنسا ولسياساتها على مدار السنوات الخمس القادمة.* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا.