رغم فشل الجيش الروسي في فرض سيطرته ضد المقاومة الأوكرانية التي أثبتت قوة تحمّلها، لم تُحقق محادثات السلام بين روسيا وأوكرانيا أي نتائج بارزة بعد، وتزامناً مع انسحاب القوات الروسية من منطقة كييف، هزّت الأدلة التي تثبت حصول مجزرة في "بوتشا" جميع أنحاء العالم، فزادت صعوبة الجهود الدبلوماسية تزامناً مع إصرار قادة الغرب على اتهام موسكو بارتكاب جرائم حرب.

أطلق الكرملين محاولات يائسة لتصوير أعمال القتل الجماعية كعمل داخلي، فاتّهم أوكرانيا بارتكاب المجازر، لكن كان قتل المدنيين جماعياً خطوة متعمدة، يريد الكرملين أن يثبت استعداده لتجاوز جميع الخطوط الحمراء وتحقيق مكاسب كبرى ثم التفاوض مع أوكرانيا من موقع قوة، ويأمل الرئيس الروسي بهذه الطريقة انتزاع أكبر التنازلات للتغطية على الإخفاقات العسكرية الروسية ووضع هذه المكاسب في خانة الانتصار العظيم أمام الرأي العام المحلي.

Ad

تطالب روسيا في المقام الأول بأن تعلن أوكرانيا حيادها وتصبح منزوعة السلاح، وهذا الوضع يسمح لموسكو بادعاء الانتصار ظاهرياً، على اعتبار أنها نجحت في كبح مخاطر وهمية نتيجة توسّع الناتو على حدودها الجنوبية، تزامناً مع تجريد أوكرانيا من دفاعاتها في وجه أي عدوان روسي مستقبلي.

لا شيء يُشجّع بوتين على التفاوض لإنهاء الحرب، نظراً إلى ارتفاع عدد القتلى في ساحة المعركة (قُتِل نحو 20 ألف جندي روسي وفق المصادر الأوكرانية، وحتى الكرملين اعترف بتكبّد خسائر كبرى)، واحتمال أن تتوسع العقوبات الصارمة أصلاً من دون تحقيق مكاسب ميدانية كبرى حتى الآن.

بل إن الحرب بدأت تدخل أخطر المراحل على الإطلاق بسبب مقاربة بوتين المبنية على مبدأ "لا غالب ولا مغلوب"، وقد يزيد احتمال أن تستخدم موسكو الأسلحة الكيماوية نظراً إلى ضعف الأداء العسكري الروسي حتى اليوم، مما قد يُقرّب العالم من استعمال الأسلحة النووية.

نظراً إلى هوس بوتين بتدمير أوكرانيا وقتل المدنيين، يتجه الحلفاء الغربيون إلى تغيير موقفهم من إرسال أسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا، لكن بدأ الوقت ينفذ لأن بوتين قد يعتبر أي تردد غربي ضوءاً أخضر لاستعمال ترسانته النووية وتحقيق هدفه النهائي، إلا إذا واجه رداً سريعاً وغير مسبوق من حلفاء أوكرانيا.

لم تهتم روسيا بالمشاركة في أي محادثات دبلوماسية بارزة منذ بدء الحرب، ففي الشهر الماضي، لم يتحقق أي تقدّم خلال أول اجتماع رفيع المستوى في أنقرة بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الأوكراني ديميترو كوليبا، حتى أن روسيا لم توافق على وقف إطلاق النار مؤقتاً لتمكين أوكرانيا من فتح ممرات إنسانية لإجلاء مئات آلاف المدنيين العالقين من مدينة "ماريوبول" المحاصرة، وكان يصعب أن يُحقق كبار المسؤولين أي إنجاز لإنهاء الحرب.

بعد مجزرة "بوتشا"، استاء لافروف من مزاعم ارتكاب جرائم حرب، فاتّهم أوكرانيا باقتراح اتفاق سلام غير مقبول، وعملياً، يستعمل لافروف خدعة روسية قديمة، لا تزال موسكو ملتزمة رسمياً بعملية التفاوض لكنها ليست مستعدة لتقديم التنازلات، ويمكن استعمال محادثات السلام لتبرير تكثيف العدوان الروسي ضد الدول الحيادية عبر تصوير أوكرانيا كلاعبة غير منطقية وغير مستعدة لتقبّل العرض القادر على إنهاء الحرب، مع أن أي سلام هش قد يُضعِف سيادة البلد ووحدة أراضيه.

استعملت روسيا الاستراتيجية نفسها في ديسمبر 2021، ففرضت مطالب أمنية عقيمة على الناتو والولايات المتحدة وكانت تعرف مسبقاً أن الحلفاء ما كانوا ليوافقوا على شروطها يوماً، ولم تعد هذه الاستراتيجية فاعلة مع الجهات الخارجية، لكن يظن عدد كبير من المواطنين الروس حتى الآن أن الناتو والولايات المتحدة مسؤولان عن تأجيج الحرب عبر تجاهل المخاوف الأمنية الروسية المزعومة، إذ لم يكن انتساب أوكرانيا إلى الناتو وارداً في المستقبل المنظور، لكن من الواضح أن المخاطر التي يطرحها الحلف كانت مجرّد عذر لغزو البلد وخلق عدو خارجي لتوحيد صفوف الروس حول علم بلدهم.

كذلك، طالبت روسيا خلال الجولات الأخيرة من المحادثات الدبلوماسية بحياد أوكرانيا، مما يعني كبح أي طموحات بالانضمام رسمياً إلى حلف الناتو. شملت مطالب أخرى نزع سلاح أوكرانيا، والموافقة على اعتبار شبه جزيرة القرم أرضاً روسية، والاعتراف بإقليمَي "دونيتسك" و«لوهانسك" المحتلَين من روسيا كجمهوريتَين مستقليتَين.

يتمسك الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بموقف مبدئي من سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، لكنه عبّر عن استعداده لمناقشة حياد البلد بأسلوب حذر، ففي 15 مارس الماضي، أعلن زيلينسكي أنه مقتنع بأن أوكرانيا لن تتمكن من الانضمام إلى الناتو رغم سياسة الباب المفتوح التي يطبّقها الحلف، ومن حق زيلينسكي أن يُعبّر عن خيبة أمله بالحلف الذي حرم أوكرانيا (وجورجيا) من خطة عمل رسمية للانتساب إليه، فاكتفى بعرض خطة مبهمة للمستقبل البعيد.

لاحظ بوتين أن الفرصة سانحة لمعاقبة جورجيا في عام 2008 ثم أوكرانيا في عام 2014 لأنهما ابتعدتا عن المحور الروسي، ووضع في الوقت نفسه خططاً بعيدة المدى لإطلاق عدوان مستقبلي، وهكذا حصلت روسيا على حرية التصرف نتيجة قرار الناتو في قمة بوخارست، في عام 2008، ثم المواقف المبهمة اللاحقة حول فرص انتساب هذين البلدين إلى الحلف.

لكن لن يمنع حياد أوكرانيا أي عدوان روسي مستقبلي، لطالما كان مفهوم حياد الدول الموالية للغرب في جوار روسيا الحل الذي يفضّله بوتين لإبطال التأثير الغربي في نطاق نفوذه المزعوم، كان بوتين يعرف أن أوكرانيا لن تنضم إلى الناتو، لكنه أراد منذ فترة طويلة أن يصبح هذا البلد فاشلاً وتتراجع مظاهر الديموقراطية فيه ويتّكل على روسيا سياسياً، ويخشى بوتين أن يتأثر الروس العاديون بأوكرانيا الناجحة والسلمية والمستقرة والمتطورة على طريقة الغرب، فيعجز حينها عن إخفاء هذا النموذج عن مواطنيه.

قد تبدو نماذج الحياد في سويسرا أو النمسا إيجابية، لكن تحمل أوكرانيا تاريخاً مختلفاً، فقد نجحت النمسا وسويسرا في بناء نظام ديموقراطي مزدهر واقتصاد قوي رغم بقائهما خارج الناتو، لكن لا يعتبر بوتين حياد أوكرانيا طريقة لحرمان كييف من الانضمام إلى الناتو، بل إنه يريد في المقام الأول القضاء على سيادة أوكرانيا ومستقبلها الديموقراطي.

قد تبدو فكرة الحياد بريئة ظاهرياً، لكنها طريقة ضمنية لإعادة البلد إلى المحور الروسي، فبعدما أثبتت موسكو وحشيتها المفرطة، يدرك زيلينسكي أن النسخة الروسية من الحياد تعجز عن إرساء السلام، ولا يمكن الوثوق بقدرة روسيا على تنفيذ التزاماتها الرسمية، فقد سبق أن انتهكت روسيا عشرات الاتفاقيات الدولية التي وقّعتها منذ عام 1991، بما في ذلك "مذكرة بودابست"، واتفاق وقف إطلاق النار بوساطة الاتحاد الأوروبي مع جورجيا، واتفاقيات مينسك مع أوكرانيا.

سبق أن حاولت أوكرانيا الحفاظ على حيادها بعد استرجاعها استقلالها في عام 1991، لكنّ ذلك الحياد لم يمنع العدوان الروسي في شبه جزيرة القرم وإقليم "دونباس" في عام 2014، وزاد الدعم الشعبي لحلف الناتو بسبب التجربة المؤلمة في ذلك العام، وهذا ما دفع أوكرانيا إلى التخلي عن حيادها رسمياً وإضافة الالتزام بعضوية الاتحاد الأوروبي والناتو إلى دستورها.

من حق زيلينسكي أن يطلب ضمانات تفرض على الدول الحامية الخارجية، مثل بريطانيا والولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، تقديم المساعدة إذا أقدمت روسيا على الهجوم مجدداً، علماً أن هذا الاحتمال يبقى وارداً طالما تحاول أوكرانيا توثيق علاقاتها مع الغرب، ومن ناحية معينة، تبدو الاستفادة من حماية غربية رسمية مشابهة للضمانات الواردة في المادة الخامسة من معاهدة الناتو: إذا لم يلتزم بوتين ببنود الاتفاق، قد تضطر الدول الحامية للتدخل والدفاع عن أوكرانيا. قد تبدو هذه المعادلة جاذبة، لكن لن يوافق بوتين على هذا النوع من الاتفاقيات يوماً، فمن ناحية أخرى، قد تبقى أوكرانيا معرّضة للتهديدات الروسية مستقبلاً إذا اضطرت لقبول الاتفاق الروسي المرتبط بحياد البلد ثم مطالبة الكرملين بنزع سلاحها.

في مقابلة جديدة مع وسيلة إعلامية روسية حكومية، أوضح لافروف أن روسيا لن توقف عمليتها العسكرية استعداداً للجولة المقبلة من محادثات السلام. تثبت المواقف المتزايدة حول الحرب النووية أن موسكو تمارس ضغوطاً نفسية على حلفاء الناتو وتنتظر انهيار الوحدة الغربية، فقد يميل بعض الحلفاء الغربيين إلى إقناع أوكرانيا بقبول التنازلات لإنهاء الحرب، لكنهم يفتقرون إلى المبررات الأخلاقية اللازمة للتخلي عن أوكرانيا والوقوع في فخ الحياد الروسي بعد مجزرة "بوتشا".

طالما ترفض روسيا التراجع والمشاركة في جهود دبلوماسية حقيقية، يبدو أن نتيجة الحرب لن تتحدد على طاولة المفاوضات بل في ساحة المعركة.

* ناتيا سيسكوريا

Foreign Policy