تركت النجمة سهير البابلي رصيداً كبيراً من الأعمال المسرحية المتميزة، وتعاونت مع أجيالٍ من الكُتَّاب، منهم ألفريد فرج ويوسف إدريس وبهجت قمر وسمير خفاجي وبهيج إسماعيل، ومن المخرجين عبدالرحيم الزرقاني، وسعد أردش، وكرم مطاوع وجلال الشرقاوي، وحسن عبدالسلام.وفي فترة الستينيات من القرن الفائت، قدّمت مسرحياتٍ ذات طابع تراجيدي، منها "الفرافير”، و”النار والزيتون”، و”سليمان الحلبي”، واتجهت في السبعينيات إلى عالم الكوميديا من خلال فرق القطاع الخاص، وشاركت في بطولة "مدرسة المشاغبين”، و”ريا وسكينة”، والعالمة باشا”، وغيرها من الأعمال الراسخة في وجدان الجمهور العربي عمومًا.
وصار المسرح بيتها الأول، وعلى خشبته جسَّدت أدوار البطولة، كما ظهرت على الشاشة البيضاء في أفلام عِدة، منها "يوم من عمري”، و”جناب السفير”، و”لحظة ضعف”، و”ليلة القبض على بكيزة وزغلول”، و”أميرة حبي أنا”، و”حدوتة مصرية”، وفي الدراما التلفزيونية في مسلسلات عديدة منها "وتوالت الأحداث عاصفة”، و”عم حمزة” و”الشاهد الوحيد”.وفي ذروة عطائها الفني، قررت الفنانة سهير البابلي الاعتزال عام 1997، واختفت عن الأضواء، حتى عادت مُجددًا للتمثيل، وشاركت في المسلسل التلفزيوني "قلب حبيبة” عام 2005، وبدأت بروفات مسرحية "عايزة أتكلم” مع فرقة الفنان جلال الشرقاوي، ولكن المشروع توقف لأسبابٍ تتعلق بإغلاق مسرح الشرقاوي "مسرح الفن”.
التمثيل والموسيقى
وقد ساهمت نشأة سهير البابلي في اتجاهها إلى الفن، وظهرت موهبتها في سن مبكرة، وكانت تجيد تقليد الممثلين، وتنبأ لها والدها مُعلِم الرياضيات بأنها ستصبح فنانة مشهورة، وشجعها على الالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية ومعهد الموسيقى في ذات الوقت، الأمر الذي رفضته والدتها، ولكنها بدأت رحلتها الاحترافية في العشرين من عمرها.واضطربت علاقة البابلي بوالدتها، وظلت الأخيرة غير مقتنعة بعمل ابنتها في مجال التمثيل، وفي إحدى المرات، تتبعتها حتى وصلت إلى المسرح، وصرخت بوجهها فهربت سهير من أمامها إلى دار الأوبرا، واختبأت في غرفة الحارس، وبمرور الوقت خفتت حدة الخلاف بينهما، لا سيما بعد أن صارت الابنة ممثلة مشهورة.النار والزيتون
وفي بداية مشوارها الفني عام 1957، دفعها أستاذها المخرج والممثل فتوح نشاطي لاحتراف الفن، وساعدها على الانضمام للمسرح القومي، وأصبحت من أبرز نجماته في فترة الستينيات، وشاركت عام 1964 في بطولة مسرحية "الفرافير” للكاتب الكبير يوسف إدريس، وإخراج كرم مطاوع، وتمثيل مجموعة من نجوم المسرح منهم توفيق الدقن، وعبدالسلام محمد، وعبدالرحمن أبو زهرة، وعادل هاشم.وفي العام التالي، شاركت في مسرحية "النار والزيتون”، تأليف ألفريد فرج وإخراج عبدالرحمن الزرقاني، وعُرضت على خشبة مسرح حديقة الأزبكية في القاهرة، وأسند لها الزرقاني دور "نبيلة” في مسرحية "القضية” للكاتب لطفي الخولي، وبطولة كوكبة من نجوم المسرح القومي، منهم عبدالله غيث، وحسن البارودي، وإحسان شريف، ونجمة إبرهيم، وعبدالرحمن أبو زهرة، وإبراهيم الشامي، وشفيق نور الدين، وأحمد الجزيري، وفواد شفيق.وتدور أحداث "القضية” في إطار كوميدي حول إنسان بسيط أراد أن يفتح نافذة في حائط منزله الخاص، وتعرَّض للمساءلة القانونية، ودفعه الخوف من عواقب مخالفة القانون، لإعلاق النافذة مرة أخرى، ولكن القانون يلاحقه بالمعاقبة أيضًا على هذا الأمر، وتتوالى الأحداث.جوزين وفرد
ورغم أهمية الأعمال التي شاركت فيها البابلي من خلال مسرح الدولة، ظلت موهبتها في حاجة لإعادة اكتشاف، ما دفعها إلى تقديم أعمالٍ متفرقة بعيدًا عن المسرح القومي، منها مسرحية "جوزين وفرد” (1966)، تأليف سمير خفاجي وتمثيل وإخراج عبدالمنعم مدبولي، وبطولة أمين الهنيدي، وحسن مصطفى، وميمي جمال، وفرحات عمر "الدكتور شديد” أحد أبطال البرنامج الإذاعي الشهير "ساعة لقلبك”.وتدور "جوزين وفرد” في إطار كوميدي حول "المهندس برهان” وزوجته التي تشك أنه بحالة غير طبيعية، بينما هو لديه إحساس مماثل تجاهها، ويستعين كلاهما بطبيب نفسي لعلاج الآخر، في حين يلجأ الزوج إلى جاره "فرحات”، وتحدث العديد من المفارقات إلى أن يكتشف الجميع أن الطبيب مزيفٌ!مدرسة المشاغبين
وتحوّل النجاح الساحق لمسرحية "مدرسة المشاغبين” إلى عقدة للفنانة سهير البابلي، رغم أنها زادت من نجوميتها، حيث إن هذه المسرحية أسقطت أعمالها الأخرى من ذاكرة الجمهور، وشهدت كواليسها أزماتٍ متعددة، بدءًا من انسحاب الفنان عبدالمنعم مدبولي من دور "الناظر” وإسناده إلى الفنان حسن مصطفى، وأيضًا انسحبت الفنانة نيللي، لتقوم البابلي بدلا منها بدور المعلمة "أبلة عفت”.وفي أثناء عرض "مدرسة المشاغبين” كان هناك خلاف دائم بين البابلي والنجمين عادل إمام وسعيد صالح، بسبب كثرة ارتجالهما وخروجهما على النص، وتطوَّر الأمر في بعض ليالي العرض إلى انسحابهم أمام الجمهور، وتدخل المخرج جلال الشرقاوي لفض النزاع بينهم، واستمرت "أبلة عفت” في المسرحية، وبدأت تنافس أبطالها في الارتجال!وتعد "مدرسة المشاغبين” من أكثر العروض المسرحية إثارة للجدل، حين عُرضت من خلال فرقة الفنانين المتحدين عام 1974، عن نص للمؤلف علي سالم، وتدور أحداثها في إطار كوميدي حول خمسة من الطلبة المشاغبين، يجمعهم فصلٌ واحد داخل مدرسة لا يستطيع مديرها السيطرة على شغبهم، وتحاول المُعلمة تقويم سلوكهم، وتستطيع في النهاية أن تسيطر على مجرى الأمور.ذكريات إسعاد يونس مع سيدة المسرح الكوميدي
كانت الفنانة الراحلة سهير البابلي شريكة نجاح عددٍ كبير من النجوم والنجمات، ومنهن إسعاد يونس، وكوّنت معها ثنائيًا فنيًا في المسرح وعلى الشاشة، وتحوّلت الزمالة بينهما إلى صداقة عميقة، منذ لقائهما الأول في مسرحية "الدخول بالملابس الرسمية” عام 1977، و”نُص أنا ونُص أنت” (1988). وكوّنت البابلي ويونس أشهر "دويتو فني” في الثمانينيات، وانتقلتا بنجاحهما إلى الشاشة الصغيرة من خلال مسلسل "بكيزة وزغلول”، الذي كتبته إسعاد خاصة لتتلقي بنجمة الضحك، وبعد النجاح الساحق للمسلسل، ظهر الثنائي في النسخة السينمائية "ليلة القبض على بكيزة وزغلول”.وحدثت في كواليس أعمالهما مجموعة من المفارقات الطريفة، منها في مسلسل "بكيزة وزغلول”، عندما اتفقت إسعاد يونس مع المخرج أحمد بدر الدين على إحضار ثعبان حقيقي منزوع الأسنان في أحد المشاهد، وكانت ردة فعل سهير البابلي أن أصابها الفزع وجرت خارج البلاتوه.وكانت مسرحية "ريا وسكينة” شهادة ميلاد الفنان الكوميدي أحمد بدير، حين لعب دور "الشاويش عبدالعال” أمام النجمة سهير البابلي، وأيضًا الفنان أحمد آدم الذي تحققت نجوميته في مسرحية "عطية الإرهابي”.وشكل رحيل سهير البابلي صدمة كبيرة لجمهورها وزملائها، وعبّرت إسعاد يونس عن صدمتها بقولها: "فارقتني حبيبتي وعِشرة عمري، ورفيقة أيامي وأستاذتي سهير البابلي”.
المثقف والمتوحشة
وفي عام 1975 تعاونت البابلي مُجددًا مع المخرج عبدالرحيم الزرقاني، وقامت بدور البطولة في مسرحية "نرجس” عن نص "المتوحشة” للكاتب الفرنسي جان أنويه، وإعداد سيد خميس، وشارك بالتمثيل النجوم حسن عابدين، ورشوان توفيق، وزوز ماضي، ومنى قطَّان، وعواطف محمد، وشعبان حسين، ومحمود العراقي.وتعد "نرجس” من أهم محطات سهير البابلي في مسرح القطاع الخاص، وتتناول هذه المسرحية في إطار كوميدي اجتماعي، قصة حب تنشأ بين رجل مثقف من طبقة الأثرياء وفتاة تنتمي لأسرة فقيرة، وبعد زواجهما تتأزم العلاقة بينهما لاختلاف الطبائع والتقاليد.الدخول بالملابس الرسمية
وقد ارتبطت البابلي بالمسرح التراجيدي في بداية مشوارها الفني، إلا أنها انحازت إلى الكوميديا، وغادرت المسرح القومي بلا عودة، وأصبحت من أشهر النجمات في مسارح القطاع الخاص، وفي ذلك الوقت كان النجوم الرجال يحتكرون هذا اللون الدرامي، ولذا تعد أول نجمة شباك للمسرح الكوميدي.وتحمست للمشاركة في مسرحية "يا حلوة ما تلعبيش بالكبريت” عام 1977 لفرقة نجيب الريحاني، وأول إخراج مسرحي للمخرج السينمائي حسن الإمام، وبطولة هدى سلطان، ومجدي وهبة، وسيد زيان، وفاروق فلوكس.وفي عام 1979 قدَّمت المسرحية الكوميدية "الدخول بالملابس الرسمية”، تأليف بهيج إسماعيل، وإخراج السيد راضي، وشارك في البطولة أبوبكر عزت، وإسعاد يونس، وسلمي فهمي، وأحمد نبيل، ومحمد يوسف، وجسّدت سهير البابلي دور "نشوى” السيدة الثرية التي تعيش في قصرها، وتحاول أن توهم من حولها بأنها في قمة السعادة من خلال الحفلات التي تقيمها، إلى أن تعلن عن وظيفة مساعد طباخ براتبٍ عالٍ، ويضطر البروفيسور ممتاز العاطل عن العمل أن يتقرب منها للحصول على الوظيفة.ريا وسكينة
أما مسرحية "ريا وسكينة” فشهدت كواليسها مفاجآت عديدة، وفي البداية ذهب دور "ريا” إلى الفنانة سهير البابلي، واعتذرت الفنانة شويكار عن تجسيد شخصية "سكينة”، واستطاع منتج المسرحية سمير خفاجي إقناع الفنانة شادية بالظهور في أول عمل مسرحي لها، وتبدلت الأدوار لتمثل شادية "ريا” وتقدم البابلي دور "سكينة”.وعرضت "ريا وسكينة” عام 1982، للمؤلف بهجت قمر والمخرج حسين كمال وموسيقى بليغ حمدي، وشارك في بطولتها النجمان عبدالمنعم مدبولي وأحمد بدير، ودارت أحداثها في إطار كوميدي حول القصة الحقيقية الشهيرة للسفاحتين اللتين ارتكبتا جرائم خطف وقتل السيدات بمدينة الإسكندرية الساحلية في عشرينيات القرن الماضي.وأراد المؤلف أن يقدِّم معالجة درامية مغايرة للأعمال التي تناولت قصة "ريا وسكينة”، واختار اللون الكوميدي لسرد حكاية السفاحتين، وتلك المرة يقومان بمحاكمة ذاتية لنفسيهما لارتكابهما جرائمهما، واستطاع المخرج حسين كمال أن يوظِّف مشهد المحاكمة بتركيز الإضاءة على الشخصيتين، وتألق الثنائي سهير البابلي وشادية في تجسيد هذا المشهد ببراعة فائقة، وفي كل ليلة كانتا تنتزعان التصفيق المدوي من الجمهور، وكانت سهير تتلقي مئات من خطابات المعجبين من جمهورها بصفة دورية.وحققت "ريا وسكينة” نجاحًا كبيرًا، واستمر عرضها لخمسة مواسم متتالية، ورفضت سهير البابلي إعادتها من دون الفنانة شادية التي اعتزلت الفن، واقترحت على المنتج تقديم مسرحية جديدة، لأنها خشيت ألا يحدث تناغم مع ممثلة أخرى، وأن الفنانة المعتزلة تقاسمت معها النجاح، وانطبع في أذهان الجمهور حضورهما معًا على خشبة المسرح، ومن دونها لن يحظى العمل بنجاح مماثل. وهذا التناغم بين "الثنائي” حدث أثناء البروفات، وتنامى خلال عرض المسرحية، وساهم وجود ممثل بحجم الفنان عبدالمنعم مدبولي في إثراء العمل بدور "حسب الله”، والفنان الشاب ـ آنذاك ـ أحمد بدير في دور "الشاويش عبدالعال” بعد انسحاب الفنان حمدي أحمد.صفية والرصيف
واستأنفت سهير البابلي نشاطها بمسرحية "ع الرصيف” عام 1987، تأليف نهاد جاد وإخراج جلال الشرقاوي، وشارك معها في البطولة حسن عابدين وحسن حسني وفؤاد خليل وأحمد حلاوة ووفاء مكي ومها عطية وعايدة فهمي، وتدور الأحداث في إطار كوميدي حول مُعلمة اللغة العربية "صفية” وزوجها، حين تسافر للعمل خارج مصر، ولدى عودتها تفاجأ بأنه تزوج من امرأة أخرى بعد أن سرق مالها وهدم منزلها لبناء منزل لزوجته الجديدة، فتضطر للعيش على الرصيف أمام منزلها القديم مطالبة بحقها الذي سُلِب، وتقابل مستشارًا سابقًا "كمال” كان يعيش معها في نفس الحي فيقرر أن يقف بجانبها، لاسترداد حقها المسلوب والتخلص من ظلم زوجها السابق.وحققت "ع الرصيف” نجاحًا كبيرًا، وكانت صالة العرض تمتلئ يوميًا بالجمهور، وحدث ذات ليلة أن البابلي شعرت بأزمة صحية حادة، وارتفاع في درجة الحرارة أفضت إلى عدم قدرتها على الحركة، إلا أنها رفضت أمر المخرج جلال الشرقاوي بإلغاء حجز التذاكر للعرض، وطلبت من زملائها إسنادها للوصول إلى خشبة المسرح، وفور دخولها استقبلت بعاصفة من التصفيق، وتبدلت حالتها، واندمجت تمامًا في تقمص دور "صفية” حتى نهاية العرض.العالمة باشا
واستمرت الفنانة سهير البابلي في تقديم عروض الكوميديا السياسية، ولعبت دور الراقصة "سوسكا” في مسرحية "العالمة باشا”، تأليف عبدالقادر نجيب، وإخراج حسن عبدالسلام، وشارك في البطولة أبوبكر عزت، والمنتصر بالله، وآمال شريف، وجمال إسماعيل، وفاروق نجيب، ومصطفى رزق، وأحمد عقل، وعُرضت في موسم 1991 وحققت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا.وتدور "العالمة باشا” حول قصة خيالية عن حاكم يطلب من معاونيه إيجاد حل لبعض المشكلات الاجتماعية، واستدعاء راقصة تُدعى "سوسكا” لتساعدهم في ذلك، وتضمن العرض مجموعة من الاستعراضات والأغنيات، ووضع الألحان الفنان محمد نوح.وفي عام 1995 شهدت "عطية الإرهابية” آخر ظهور مسرحي للفنانة سهير البابلي، حين فاجأت مخرج المسرحية جلال الشرقاوي، بقرار اعتزالها، واضطر لإسناد الدور لابنته الممثلة عبير الشرقاوي قبل نهاية الموسم الثاني، وتأثرت إيرادات الشباك بانسحاب بطلة العرض، وابتعادها عن عالم الأضواء والشهرة.وأُسدِل الستار على نجمة المسرح سهير البابلي، الممثلة ذات الموهبة الطاغية، وصاحبة المشوار الحافل بالأعمال المسرحية، والتي حظيت بتقدير وثناء النقاد والجمهور، وأُطلِقت عليها ألقاب "مبهجة القلوب”، و”سيدة المسرح الكوميدي”، و”لؤلؤة المسرح المصري”، ولا تزال أعمالها حاضرة في ذاكرة الفن العربي.